د. محمد فراج يكتب : ليبيا على صفيح ساخن!
التطورات السياسية والأمنية الجارية فى ليبيا ترفع درجة تصعيد التوتر فى البلاد بصورة تنذر باحتمالات اندلاع صراعات عسكرية واسعة ليس بين طرابلس وبنغازى فحسب، بل وأيضا بين القوى السياسية والميليشاوية المختلفة فى طرابلس نفسها ومناطق الغرب الليبى المرتبطة بها.. كما تتطور هذه الصراعات على مخاطر فادحة بمزيد من الانهيار للاقتصاد الليبي الذى يعانى أصلا من تدهور شديد، وخاصة مع تفاقم أزمة قيادة المصرف المركزى بما لها من انعكاسات امتدت لتصل إلى قطاع البترول المصدر الأساسى لموارد البلاد.
وقد أوضحنا فى مقالين سابقين (الأموال، 18 و25 أغسطس 2024) الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة للتطورات فى ليبيا على مصر وأمنها القومى بحكم العلاقات الاستراتيجية بالغة الخصوصية بين البلدين، وهو الأمر الذى يؤكد ضرورة متابعة تطورات الأزمة الجارية فى ليبيا الشقيقة.
وقد تناولنا فى مقالنا السابق (الأموال، 25 أغسطس) قرار المجلس الرئاسى الليبى برئاسة محمد المنفى بإقالة محافظ المصرف المركزى الصديق الكبير، استجابة لطلب رئيس حكومة طرابلس المنقضية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، بعد أن انقلب الأخير على محافظ المصرف المركزى، الذى رفض الاستمرار فى مجاراته فى الإنفاق الواسع غير المنضبط وغير الخاضع لرقابة البرلمان.
وأوضحنا أن عزل أو تنصيب محافظ المصرف المركزى مسألة تخرج عن صلاحيات المجلس الرئاسى وتخضع لقرار البرلمان الذى أعلن رفضه للقرار (الرئاسى).
القوة القاهرة.. وتجفيف منابع التمويل
محافظ المصرف المركزى أعلن وقف أنشطة المصرف فى الداخل والخارج وكذلك أنشطة البنوك بناء على وجود حالة “القوة القاهرة” ولما كان المصرف هو الجهة المسيطرة تحت إشراف الأمم المتحدة على الاحتياطيات الدولية لليبيا، كما أنه الجهة التى تتدفق إليها عائدات تصدير البترول والغاز، فإن وقف أنشطته يعنى وقف تدفق الموارد المالية على حكومة الدبيبة، بما فى ذلك تلك الموارد اللازمة لدفع رواتب الموظفين فضلا عن رواتب المرتزقة التى يدفعها الدبيبة بصورة خارجة عن القوانين والرقابة، وبالتالى تجفيف منابع الأموال التى يستد إليها نفوذه السياسى.
الجيش الوطنى الليبى وحكومة بنغازى المعترف بها من جانب البرلمان (حكومة أسامة حماد) أعلنا بدورهما حالة القوة القاهرة فيما يتصل بإنتاج البترول الليبى (1.2 مليون برميل يوميا) علما بأن الجيش الوطنى، بقيادة المشير حفتر يسيطر على أكثر من تسعين بالمائة من إنتاج البترول الليبي، الذى تقدمه مجموعة حقول الجنوب وحقول ما يسمى بالهلال النفطى فى منطقة خليج سرت بالإضافة إلى موانئ التصدير.
وأوضح الجيش والحكومة أن هذا القرار لا يرجع إلى عدم قانونية أو دستورية عزل محافظ المصرف المركزى من جانب (المجلس الرئاسى) فحسب، بل وأيضا لأن حكومة الدبيبة دفعت بفصائل من الميليشيا التابعة لها لمحاصرة مبنى المصرف المركزى فى طرابلس لتنفيذ قرار عزل المحافظ بالقوة.
مفاجآت.. ومشكلات قانونية
المجلس الرئاسى وحكومة الدبيبة كان بانتظارهما مفاجأة غير سارة، فقد رفض المحافظ المكلف (محمد الشكرى) وهو نائب سابق للمحافظ استلام منصبه بدون أن يكون تعيينه محل توافق بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة، بقيادة خالد المشرى بما يفيد ضمنا أنه لا يرى أن الجهة التى عينته تملك صلاحية تعيينه!! وسارع بإعلان رأيه هذا مؤكدا أن تاريخه المهنى وموقفه الأخلاقى لا يسمحان له بالمشاركة فى العبث بمؤسسات الدولة واقتصادها.
ومن ناحية أخرى فإن إحدى محاكم طرابلس كانت قد أصدرت حكما ببطلان عزل الصديق الكبير وتعيين “الشكرى” باعتباره صادرا عن جهة غير ذات اختصاص “المجلس الرئاسى” وبالتالى فإنه قرار باطل ومنعدم.
وهكذا اضطر “الرئاسى” إلى إصدار قرار آخر بتعيين (عبد الفتاح عبدالغفار) أحد نواب محافظ المركزى محافظا للمصرف، ومعه تشكيل جديد لمجلس إدارة المركزى، وواضح كيف سيكون مصير هذا التعيين فى حالة عرض الأمر على القضاء.
ونظرا لاقتراب بداية الشهر وحلول أجل صرف المرتبات، فقد أصدر مجلس الإدارة الجديد قرارا إلى البنوك بصرف مرتبات الموظفين، خصما على حساب وزارة المالية لدى البنك المركزى غير أنه سرعان ما اتضح أن هذا يقتضى إصدار قانون بتسوية هذه المدفوعات من خلال “أذون خزانة” أو عمليات مقاصة مقننة مسبقة وهو ما يقتضى موافقة البرلمان بالطبع، وبالتالى فإن البنوك لا تملك سندا قانونيا لصرف الرواتب! وهو ما أشار إليه خبراء ليبيون مؤكدين أن هذا القرار غير قابل للتنفيذ! ولابد من الإشارة إلى أن عدد موظفى الدولة فى ليبيا هو عدد كبير بالملايين بصورة غير مألوفة فى بلد صغير، وهو الأمر الذى يجعل حكومة الدبيبة فى انتظار مشكلة ضخمة بحلول الشهر الجديد (نكتب هذه السطور فجر الخميس 29 أغسطس).
وحدِّث ولا حرج طبعا عن الأموال اللازمة لاستمرار الخدمات العامة والمشروعات الاقتصادية واستيراد السلع الضرورية..إلخ..إلخ.. وحدث ولا حرج عن انعكاسات هذه الأوضاع كلها على سعر صرف العملة الليبية (الدينار) الذى يشهد تدهورا مستمرا فى السنوات الأخيرة والذى انخفض من (1.4 دينار مقابل الدولار منذ سنوات قليلة إلى 7.1 دينار مقابل الدولار) فى أواخر أغسطس 2024.. وما يعنيه ذلك من تدهور فى مستوى معيشة الفئات الاجتماعية الواسعة، وبالتالى من احتمالات لانفجار السخط الاجتماعى وعدم الاستقرار، وهو ما رأينا أشكالا منه فى طرابلس خلال العامين الماضيين.
أبعاد دولية للأزمة
البنوك المركزية هى السلطات العليا لإدارة السياسة النقدية فى مختلف البلدان، بما لها من انعكاسات جوهرية على السياسات الاقتصادية ولذلك فإن الدول المتقدمة تحرص دائما على استقلالية البنوك المركزية وإدارتها على أسس فنية وعلمية سليمة وعدم تدخل السياسيين والميول السياسية والحزبية فيها، وصحيح أن هذه القواعد تتعرض للانتهاك بدرجات مختلفة فى معظم دول العالم الثالث، إلا أن ما يحدث فى ليبيا خلال الأعوام الماضية وبصورة أخص خلال الأسابيع الأخيرة قد تجاوز كل الحدود ووصل إلى درجة “العبث” كما أشار محمد الشكرى “الذى رفض استلام منصب المحافظ” وكما يلاحظ المراقبون.
ولذلك رأينا منذ بداية هذه الأزمة أن البعثة الأممية (الأمم المتحدة) فى ليبيا والاتحاد الأوروبى والسفارات الأمريكية والبريطانية وغيرها قد سارعت بدرجات مختلفة من الشدة للتأكيد على ضرورة احترام استقلال المصرف المركزى، ورفض أى إجراءات أحادية بشأن إدارته، وحذر المبعوث الأمريكي فى ليبيا “ريتشارد نورلاند” من عواقب المعالجة الخاطئة اللازمة على وضع ليبيا فى النظام المالى العالمى، مُلمحًا إلى احتمال تجميد أرصدتها الدولية، وشددت السفارة الأمريكية على ضرورة احترام مبدأ استقلالية المصرف المركزى وتعليق القرارات الأحادية مع تأكيدها على تأييدها لمبادرة البعثة الأممية الداعية إلى اجتماع ممثلين عن كل أطراف الأزمة للتوافق على حل لها، ومع تأكيد كل هذه الأطراف طبعا على ضرورة استئناف ضخ البترول الليبى بأسرع ما يمكن. ويجب هنا أن نلاحظ حقيقة أن رد حكومة الشرق الليبى والجيش الوطنى على إجراءات “المنفى” و”الدبيبة” بوقف ضخ البترول كان حافزا قويا لتلك الأطراف للتحرك بسرعة.
كما يجب ملاحظة أن البترول الليبى بالرغم من كميته المحدودة (1.2 مليون ب/ي) إلا أن إمداداته تتسم بالأهمية بالنسبة لأوروبا لقربه من أسواقها وجودة نوعيته، ولذلك فإن وقف ضخ البترول يمثل دائما ورقة ضغط فعالة بيد البرلمان والجيش الوطنى الليبى على مائدة التفاوض.
ولهذه الأسباب كلها نقول إنه بالرغم من بطلان قرار عزل الصديق الكبير من منصب محافظ المركزى لما يمثله من انتهاك لإرادة البرلمان، وحتى إذا انتهت المفاوضات بشأن مبادرة البعثة الأممية إلى تعيين محافظ جديد (بالتوافق) فإن خطة الدبيبة والمنفى لفرض إرادتهما على المصرف المركزى تكون قد فشلت، وسيكون عليهما أولا تعليق قرارهما بتعليق (عبدالفتاح عبدالغفار) محافظا للمركزى، ثم الاتفاق مع البرلمان على تعيين محافظ جديد، والأمر المؤكد أن قواعد إدارة المصرف نفسها ستكن محلا للتفاوض، حيث ستكن كل خطوة باتجاه الشفافية، هى فى الوقت خطوة نحو تجفيف منابع «المال السايب» الذى يستخدمه الدبيبة فى تنفيذ سياساته، وفى مقدمتها تمويل الميليشيات الإرهابية والقبلية والمناطقية وبالتالى خطوة نحو تقليص نفوذه، أما إذا اختار “الدبيبة” الاستمرار فى طريق تجاهل القانون واستنفار الميليشيات فهذا أمر آخر، سيدفع الليبيون ثمنه للأسف الشديد.
العنف دائما!
المجلس الأعلى للدولة جسد سياسى نجح الحلفاء في فرضه بعيدا عن الانتخاب الشعبى ثم فى إكسابه صفة المجلس الاستشارى الذى ينبغى أن يوافق على كثير من قرارات البرلمان المنتخب، ويسيطر الإخوان على المجلس، علمًا بأنهم ينقسمون إلى جناح متشدد يقوده خالد المشرى وجناح أكثر تشددا يقوده محمد تكالة وهو حليف مقرب للدبيبة لكن تكالة رفض الاعتراف بفوز المشرى “69 مقابل 68 صوتا” مع وجود صوت باطل وورقة بيضاء ويطالب تكالة بإعادة الانتخابات! وهو ما يؤيده فيه الدبيبة!
ومنذ أيام قليلة عقد المجلس الأعلى اجتماعا فى طرابلس تم فيه انتخاب النائب الأول والثانى للرئيس، لكن المجتمعين فوجئوا بدخول قوات تابعة لوزارة الداخلية فى حكومة الدبيبة قامت بفض اجتماعهم بأمر من الوزارة!! وكان قد سبق للدبيبة منع اجتماع للمجس المذكور مرة، ومنع سفر أعضاء البرلمان المقيمين فى طرابلس إلى بنغازى لحضور جلسة برلمانية وطردهم القوة من المطار، وأشكال أخرى من استخدام القوة منها مثلا اختطاف عضو بمجلس إدارة المصرف المركزى مع تهديد أعضاء آخرين فى مجلس إدارة الصرف باختطافهم لولا أن تفجرت الأزمة على نطاق واسع بإعلان الصديق الكبير وقف عمل المصرف علمًا بأن المحافظ نفسه كان قد سبق أن تعرَّض مكتبه ومنزل لحصار ميليشيات الدبيبة قبل شهور كما أوضحنا فى مقال سابق (الأموال، 25/8/2024)
واعتماد مثل هذه الطريقة القائمة على أساليب الميليشيات خطير ومرفوض بالطبع كأسلوب فى ممارسة السياسة! لكنه يتسم بخطورة أشد حينما تكون الأجواء مشبعة ببخار البنزين كما هى الحال الآن فى ليبيا، حيث تكون الأوضاع من حالة الجمود السياسى الطويل والالتفاف على مشروعات التسوية والمصالحة إلى حالة الاحتقان السياسى والأمنى المتصاعد، الذى ينطوى على إمكانيات كبيرة للانفجار بما فى ذلك إعلان حالة التعبئة العامة بين الميليشيات الكثيرة فى مواجهة محاولات الجيش الوطنى لسد الثغرة الواسعة فى جنوب غربى البلاد، أمام تسلل الإرهاب القادم من الصحراء الكبرى، وهذه كلها أمور تستحق منا نحن المصريين أشد الاهتمام، لأن ليبيا هى عمقنا الاستراتيجى الغربى، بينما الإقليم كل من حولنا تشتعل فيه النار.
حفظ الله مصر وليبيا الشقيقة من كل سوء.