د.محمد فراج يكتب : ليس كل ما يلمع ذهبًا مشكلات كبرى تواجه «طريق الهند ــ أوروبا» (٣ ــ ٣)
المشروع الأمريكى محكوم عليه بالفشل..
تحدثنا فى المقالين السابقين من هذه السلسلة عن المشروع الأمريكى لإقامة ممر تجارى جديد من الهند إلى أوروبا عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، بحيث يتم تفريغ الشحنات القادمة من الهند «ميناء بومباى بصورة أساسية» فى ميناء دبى، ثم يتم نقل البضائع بالسكك الحديدية من دبى إلى حيفا أو عسقلان، ليتم شحنها مرة أخرى فى سفن تنقلها إلى أوروبا.. وبالعكس من الإمارات الأوروبية إلى إسرائيل، ومنها بالقطارات إلى دبى، ثم يعاد شحنها فى السفن إلى الهند!!
وأوضحنا بجلاء أن تكلفة نقل البضائع بهذه الطريقة المعقدة وغير الفعالة لا يمكن أن تستوعب كمية ذات بال من الحاويات ونتيجة هذا كله أن تكلفة النقل ستكون أعلى بما لا يقاس مما لو تم بالسفن وعبر قناة السويس.
كما أنها سوف تستغرق وقتاً أطول بكثير.. أى أن المشروع غير اقتصادى بالمرة، والأمر الأكثر سوءاً هو أن تكلفته الاستثمارية باهظة للغاية، وسيكون مطلوبا من الإمارات والسعودية بصورة أساسية دفع هذه التكلفة الباهظة من أجل مشروع محكوم عليه بالفشل الذريع.. وهو ما يجعل إقدام المملكة على تمويله مسألة مشكوكاً فيها تمامًا.. وفى هذا السياق أشرنا أيضا إلى أن الهند ــ التى يحمل المشروع اسمها لم توقع على مذكرة التفاهم الخاصة بالمشروع، مرجحين أن هذا يكشف عن إدراكها للفشل المحتوم لهذا «الاختراع» الأمريكى.
وانتهينا إلي أن الضجة الهائلة التى أثارها البيت الأبيض والإعلام الأمريكى حول المشروع هى نوع من «البروباجندا» الخبيثة تهدف للتمويه على هدفه الحقيقى، وهو فتح أبواب التطبيع بين كل من السعودية وإسرائيل!! بأموال سعودية! وتحويل إسرائيل إلى مركز تجارى إقليمى فى المنطقة، وأيضا دون أن تتكلف «شيكلا واحدا»!! كما انتهينا إلى أن السعودية لن تبتلع هذا الطعم، وأن المسايرة «بالتوقيع» شيء ودفع الأموال شىء آخر تمامًا.
طريق الحرير والحزام البحرى مستمران
ومن بين الأوهام التى حاولت أمريكا ترويجها في هذا الصدد ما قاله بايدن شخصيا من أن هذا المشروع «سيغير قواعد اللعبة تماما»!! بما يعنى أنه سيقطع الطريق على «مبادرة الحزام والطريق الصينية» وهو ما حاول بعض الصحفيين الاقتصاديين الترويج له فى الإعلام الغربى، والحقيقة أن من يتأمل خريطة العالم ومنطقة الشرق الأوسط للحظات قليلة سيُدرك على الفور أن «مبادرة الحزام والطريق» يمكنها تجاهل هذا المشروع الصغير وباهظ التكلفة بكل سهولة، فالمبادرة تهدف إلى ربط آسيا وأفريقيا وأوروبا بشبكة من الطرق البحرية والبرية، والسفن القادمة من الصين وشرق آسيا لديها طريق قناة السويس لتصل إلى أوروبا بكل سهولة، كما أن لديها طرقاً برية عديدة عبر باكستان وإيران والعراق لتصل إلى شرق أوروبا أو إلى تركيا على البحر المتوسط.. أو من الصين إلى روسيا، ومنها إلى البحر الأسود والبلقان.. وهذه المناطق أصبحت تشقها شبكة طرق مرصوفة وحديدية ضخمة، ومع ذلك تظل هذه الشبكة مناسبة لنقل السلع الخفيفة أكثر أو لنقل السلع ذات الحمولات الثقيلة فى حالة الضرورة «بسبب التكلفة العالية للنقل».
وعلاوة على ذلك فإن الاحتباس الحرارى وذوبان ثلوج القطب الشمالى يؤدى بصورة متزايدة إلى فتح «الطريق الشمالى» إلى أوروبا ومنها عبر السواحل الروسية وبمصاحبة كاسحات الجليد القوية التى تمتلكها روسيا وخاصة فى فصل الصيف.
ومن ناحية أخرى فإن الصين ودول شرق آسيا الصناعية الصاعدة «النمور الآسيوية» لديها خطوطها الملاحية المباشرة إلى أفريقيا وهذه لا علاقة لها أصلا بدبى ولا بالخليج كله «انظر الخريطة».. ثم إن سوريا ولبنان لن تظلا للأبد خاضعتين للحصار الأمريكى الخانق، فالعالم يتغير بسرعة، والطريق الإسرائيلى يواجه صعوبات جديدة مع السعودية والأردن بسبب المذابح الوحشية التى ترتكبها الدولة الصهيونية فى غزة والتى ستؤثر سلبًا بالتأكيد على مسيرة التطبيع بين الرياض وتل أبيب، ناهيك عن أجواء عدم الاستقرار المحيطة بإسرائيل، والتي تجعل أى مستثمر «سواء كان فردًا أو دولة» يُفكر ألف مرة قبل توظيف أى مبلغ معتبر، فضلا عن أن يكون ضخما فى مثل هذه الدولة.
وخلاصة القول فإن الرئيس الأمريكى والإعلام التابع له، إما أنهما كانا يمارسان الخداع في محاولة لتمرير «التطبيع» الخليجى - الإسرائيلى من أوسع الأبواب، أو أنهما يجهلان حقائق الاقتصاد العالمى أو يمارسان نوعا من التفكير بالتمنى الساذج والمثير للشفقة، وفى جميع الأحوال فإن المشروع «الهندى - الإسرائيلى» محكوم عليه بالفشل.
مرة أخرى.. القناة خارج المنافسة
أوضحنا في المقال الأول من هذه السلسلة «الأموال ١/ ١٠/ ٢٠٢٣» بصورة مفصلة أن المشروع الأمريكى المشار إليه يظل عاجزًا عن أن يمثل تهديدًا لقناة السويس لأسباب اقتصادية موضوعية، وأن القناة تظل خارج المنافسة بالنسبة له، لكن الأمر اللافت للنظر هو ذلك الفزع الذى سيطر على بعض الصحفيين والخبراء الاقتصاديين وغير الاقتصاديين بخصوص القناة، فأخذوا يتحدثون عن «المؤامرة» التى يجرى تدبيرها ضدها وضد مصر..إلخ، ولا شك أن هناك فى الجوار ووراء البحار من يدبرون المؤامرات ضد القناة وضد مصر طوال الوقت، ولا شك أيضا أن تحويل إسرائيل إلى مركز تجارى إقليمى وتدفق رؤوس الأموال الخليجية عليها عبر «التطبيع» من شأنه أن يزيدها عدوانية وعربدة، ولا يحقق مصلحة مصرية أو عربية، بغض النظر عن موضوع القناة.
ولكن لا شك أيضا في أن من الضرورى دراسة الوقائع وتحليلها بأناة وموضوعية قبل إطلاق صفارات الإنذار وإثارة فزع الجمهور.. فالقناة تظل خارج المنافسة تماما بالنسبة لهذا المشروع الفاشل، وفكرة شق قناة بين إيلات وأشدود أو عسقلان التى يتحدث عنها الصهاينة من وقت لآخر هى الأخرى فكرة محكوم عليها بالفشل اقتصاديا وأمنيا، وتواجهها مصاعب جغرافية بسبب ضيق إطلالة ميناء إيلات على خليج العقبة، وبديهى أننا يجب أن نتابع كل ما يفكر فيه الإسرائيليون أو ما يمكن أن يفكروا فيه، لكننا يجب أن نفعل ذلك بأعصاب هادئة، وعلى أساس تحليل موضوعى.
وليس مفهومًا ولا مستساغًا أن يتم شق طريق بين إيران وروسيا أو تركمانستان فتنطلق عقيدة البعض بالصراخ حول المؤامرة على القناة، إذ يجب أن يعلم هؤلاء أن هذه الدول الثلاث تطل على بحر قزوين الذى يوجد به نقل بحرى وموانئ تربط بلدانه منذ عقود عديدة، وبالتالى فإن شق طريق برى هنا أو هناك لا يُغير من الأمر شيئًا، ولا يعنينا فى قليل أو كثير.
ما يعنينا هو متابعة ما يدور فى جوارنا المباشر بيقظة ولكن بهدوء أعصاب، وبتحليل علمي، وألا نسمح لأحد بالتلاعب بأفكارنا أو بأعصابنا.. والأهم من كل شيء هو تطوير قناتنا باستمرار ورفع مستوى كفاءتها، وتحسين خدماتها وإضافة الجديد إليها قدر استطاعتنا وستظل قناة السويس طويلا شريان الملاحة البحرية الرئيسى بين آسيا وافريقيا وأوروبا بحكم قوانين الجغرافيا والاقتصاد وبرغم تآمر المتآمرين.. ولا عزاء لبايدن ونتنياهو..
حفظ الله قناتنا..
حفظ الله مصر..