د.محمد فراج يكتب : الكيان الصهيوني في قفص الاتهام.. أمام محكمة العدل الدولية
نكتب هذه السطور وقد بدأت للتو جلسة الاستماع الأولى التى تعقدها محكمة العدل الدولية للنظر في الدعوى المقامة من جمهورية جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيونى بتهمة ارتكاب جريمة «الإبادة الجماعية» ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة «صباح الخميس ١١ يناير الجارى». الوفد القانونى الممثل لجنوب إفريقيا يرأسه وزير العدل «رونالد لامولا» ويضم عددا من القانونيين الأرفع مستوى فى البلاد، وقد قدمت جنوب إفريقيا عريضة دعوى من ٨٤ صفحة مدعمة بالصور والفيديوهات تتهم الدولة الصهيونية بسلوك يؤكد «النية الأكيدة لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية» من خلال تصريحات المسئولين السياسيين والعسكريين منها وتوجيهاتهم لضباط وجنود جيش العدوان والجرائم الفعلية التي ارتكبها ـ ويرتكبها ـ هذا الجيش الفاشى، سواء بالقصف العشوائى للبيوت والمنشآت وتدميرها على رأس من فيها أو القصف المتعمد لأماكن الإيواء بما فيها تلك التابعة للأمم المتحدة «مدارس الأونروا وغيرها» وللمستشفيات والمرافق الصحية والتعليمية ودور العبادة، مع علم القيادات السياسية والعسكرية الأكيد بوجود آلاف المدنيين العزل فيها، وبما يتضمنه تدمير المستشفيات وعربات الإسعاف من حرمان للجرحى من إمكانية العلاج، فضلا عن القتل المباشر العمدي للموجودين، كما تشير «عريضة الدعوى» بالتفصيل «لحرب التجويع» ضد سكان غزة وحرمانهم من المياه والأدوية ومستلزمات العلاج والطاقة الكهربائية والوقود، وإلى التهجير الجماعى القسرى تحت وطأة القصف إلى أماكن تصفها السلطات الصهيونية بأنها آمنة ثم قصف هذه الأماكن الآمنة نفسها، وتتحدث بالتفصيل عن الأعداد الهائلة من الشهداء الذين يشكل الأطفال والنساء الأغلبية العظمى منهم، فضلا دفع النازحين للإقامة والمبيت فى العراء وانتشار الأوبئة بينهم بسبب النقص الفادح للمياه ومستلزمات النظافة ثم مستلزمات العلاج فى ظل التدمير الشامل للمنظومة الصحية، وجرائم صهيونية أخرى عديدة كلها تدخل فى إطار «الإبادة الجماعية» وجرائم الحرب وتضم «عريضة الاتهام» شهادات لمسئولين دوليين تؤكد هذه الاتهامات.
نكتب هذه السطور ظهر الخميس «١١ يناير» لضرورات النشر، والمقرر أن تخصص جلسة الاستماع الثانية «الجمعة ١٢/ ١» لسماع رافعة الجانب الصهيونى «المتهم».
وتكمن الأهمية التاريخية فعلا لهذه المحاكمة فى أن هذه هى المرة الأولى التى تقف فيها الدولة الصهيونية فى قفص الاتهام أمام أعلى محكمة دولية. وفى حالة إدانة المحكمة للصهاينة ــ وهو الأمر المرجح بشدة ــ فإن حكم الإدانة سيتم تحويله إلى مجلس الأمن الدولى بهدف اتخاذ قرار بهذا المعنى، كما أن الإدانة تعنى مطالبة الدولة الصهيونية بوقف إطلاق النار فورا ووضع حد لجرائمها الهمجية.
عريضة الدعوى يصفها قانونيون دوليون كبار بأنها وثيقة قانونية من العيار الثقيل، أى أنها عريضة ذات أدلة قوية محكمة، وتنطبق عليها أحكام المعاهدة الدولية لمنع الإبادة الجماعية الصادرة عن الأمم المتحدة عام ١٩٤٨، وما لم تتدخل ألاعيب سياسية قوية للغاية وخاصة من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا فإن إدانة العدو الصهيونى تبدو مؤكدة.
أين العرب؟!
الأمر المؤسف فيما يتصل بهذه القضية أن ترفعها دولة غير عربية «جنوب إفريقيا» وأن يتم تداول أخبارها لمدة طويلة دون أن تنضم إليها دول عربية بصورة رسمية، وإن أعلنت دول عربية قليلة دعمها للدعوى الجنوب إفريقية «دون انضمام رسمى».. بينما انضمت إليها رسميا دول مثل بوليفيا وكولومبيا والبرازيل «أمريكا الجنوبية» وبنجلاديش وماليزيا وتركيا وجيبوتى وجزر القمر!! ومؤخرا أعلن الأردن أنه سينضم للدعوى بمذكرة قانونية، كما أعلنت جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى «مؤخرًا جدًا!» دعما للدعوى!!
والواقع أن هذا التخاذل العربى «الجامعة العربية تضم ٢٢ دولة» والإسلامى «منظمة التعاون الإسلامى تضم ٥٧ دولة» هو تعبير عن حالة التخاذل العامة عن نصرة الشعب الفلسطينى «إلا من رحم ربى» والذى انعكس بصورة محزنة فى أن القمة العربية الإسلامية المشتركة الطارئة لبحث الوضع فى غزة لم تنعقد إلا بعد أكثر من شهر من عملية «طوفان الأقصى» وبدء حرب الإبادة الصهيونية ضد القطاع «وتحديدا يوم ١١ نوفمبر 2023 فى الرياض».
والحقيقة أن هذا التخاذل يفسّر إلى حد كبير إمعان العدو الصهيونى فى عربدته وإجرامه ضد الشعب الفلسطينى سواء فى غزة أو فى الضفة الغربية وفى توسعه الاستيطانى وتدنيسه للأقصى والمقدسات علي مدى سنوات طويلة، وصولا إلى حرب الإبادة الهمجية الجارية الآن، والتى يرتكب العدو فى إطارها جرائم وحشية ضد الشعب الفلسطينى، لا يمكن مقارنتها إلا بأشد جرائم التتار والنازيين هولا مع فارق التفنن فى السادية، وأن هذه الجرائم تجرى «على الهواء» بالصوت والصورة ليلا ونهارا، ويشاهدها العالم كله على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعى، وأنها أثارت غضب العالم كله، فاندلعت المظاهرات فى عواصم الغرب، بما فى ذلك واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وروما ومدريد وغيرها، وقطعت عدة دول «أجنبية» علاقاتها بالعدو الصهيونى أو طردت سفراءه منها، بينما تكتفى أغلب الدول العربية بعبارات الشجب والإدانة، أو ترسل بعض «المساعدات الإنسانية» وتتواصل علاقات «التطبيع» بينها وبين العدو الصهيونى على قدم وساق، بل إن بعضها تتخذ خطوات جديدة فى «التطبيع» بينما يفرق الصهاينة غزة والضفة الغربية بدماء الشهداء الفلسطينيين!!
<<<
جدير بالذكر أن عضوا بالكنيست الإسرائيلى هو النائب اليسارى «عوفر كاسيف» قد أعلن دعمه لدعوى جنوب إفريقيا ضد الدولة الصهيونية بتهمة «الإبادة الجماعية» الأمر الذى اعتبره بقية الأعضاء «خيانة»، وبدأوا فى جمع التوقيعات لعزله من عضوية الكنيست «تركيا باللغة العربية ـ TRT - بوابة الشروق، ٩ يناير ٢٠٢٤» وهو خبر نهديه إلى «عرب» كثيرين..
<<<<
نقطة تحول
والحقيقة أن من بين وجوه أهمية الدعوى الجنوب إفريقية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية هو أنها تجىء فى سياق تحول كبير يشهده الرأى العام العالمى تجاه القضية الفلسطينية من جهة، والكيان الصهيونى الفاشى من جهة أخرى، وهو تحول يشمل دولا كثيرة، كما يشمل جماهير غفيرة فى بلدان عديدة معروفة بدعمها التقليدى «ودعم الجمهور فيها» للعدو الصهيونى، بحكم السيطرة الصهيونية والرجعية الواسعة على وسائل الإعلام.
غير أن البث الحى لجرائم الجيش الصهيونى الفاشى فى غزة «والضفة».. والبطولة الأسطورية التى تبديها المقاومة الفلسطينية والضربات القاسية التى تنزلها بجيش العدوان هما أمران نجحا فى إحداث تحول تاريخى بالفعل فى الرأى العام العالمى منذ عملية «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر الماضى، وبالإضافة إلى مواقف الدول التى ذكرناها فيما سبق من مقالنا، والمظاهرات الحاشدة التى تحدثنا عنها فى عواصم الغرب، يجب الحديث عن تحول بالغ الأهمية فى مواقف الشباب الأمريكى بالذات، الذى أصبحت غالبيته تدعم الحقوق الفلسطينية وتقف ضد الدولة الصهيونية، كما تشير استطلاعات الرأى، كما رأينا آلافا من اليهود الأمريكيين الديمقراطيين المعادين للصهيونية يشاركون فى المظاهرات ضد إسرائيل بل ووصل الأمر إلى حد احتلالهم لقسم من مبانى الكونجرس الأمريكى واعتصامهم بها، وهذه أمور كان من الصعب تخيلها قبل «طوفان الأقصى».
والمؤسف أنه بينما يحدث كل هذا فإننا نجد شوارع أغلب المدن العربية خالية من مظاهر ومظاهرات الدعم الجماهيرى للمقاومة الفلسطينية، لأن الحكومات لا تسمح بمثل هذه المظاهرات!!
ومهما يكن من أمر فإن التحول الكبير فى الرأى العام العالمى، والصدى الواسع الذى أحدثته دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية والدعم الهائل غير المسبوق الذى أبدته دول العالم للشعب الفلسطينى فى الأمم المتحدة «بتصويت ١٥٣ دولة لصالح فلسطين ضد عشرة أصوات فقط لصالح أمريكا وإسرائيل وذلك من ١٩٢ دولة»، كل هذه التطورات تضع الدول العربية والإسلامية أمام ضرورة الاستفادة منها لتعميق عزلة أمريكا والكيان الصهيونى على المستوى الدولى، بما لذلك من تأثير نراه فى تراجع ملموس عن مواقف الصلف الوقح الذى كان يتحدث به المسئولون الأمريكان والصهاينة فى الأيام الأولى التالية «للطوفان».
يجب التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية وإلى كل مجالس ومنظمات حقوق الإنسان الأممية والقارية والإقليمية وفضح همجية العدو وتدنيسه للمقدسات وتوسعه فى التهويد والاستيطان وتعميق عزلته وعزلة أسياده الأمريكان والغربيين، والدعوة لمقاطعته، وكل هذا سينعكس على الاستثمار والتجارة والسياحة فى إسرائيل بدرجات متفاوتة، لكنها مهمة وكل هذه إجراءات لن تكلف «الخائفين والمتخاذلين» حربا ولا سلاحا، لكنها ستضعف العدو وستعزز موقف الشعب الفلسطينى ومقاومته المشروعة الباسلة.
والأهم من ذلك هو ضرورة مراجعة مواقف الدول العربية والإسلامية من التطبيع مع العدو، وحرمانه من المزايا الاقتصادية والسياسية التى يوفرها له «التطبيع».. وإذا كانت دول فى أمريكا اللاتينية تقطع علاقاتها مع الكيان الصهيونى وتسحب سفراءها لديه وتطرد سفراءه، فأولى بالدول العربية والإسلامية أن تفعل ذلك.