د.محمد فراج يكتب : 2023 .. عام «الطوفان» الفلسطينى
عام ٢٠٢٣.. الذي يوشك أن يغادرنا.. دخل التاريخ بالفعل باعتباره عام «طوفان الأقصى».. عام تبديد الخرافات الصهيونية حول «الجيش الذى لا يقهر» وإنزال أقسى الضربات العسكرية والأمنية والسياسية بالكيان الصهيونى على يد المقاومة الفلسطينية الباسلة، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية التى أراد أعداؤها أن يصفوها ويهيلوا عليها التراب، لكنها انبعثت من جديد لتمثل مكانها الجدير بها فى صدارة اهتمامات الرأى العام العالمى والقوى المعادية للصهيونية والاستعمار الأمريكى والغربى، بفضل المقاومة الأسطورية التى تبديها المقاومة الفلسطينية فى مواجهة حرب الإبادة الفاشلة الصهيونية.
كانت السنوا الأخيرة قد شهدت استفحالا بلا حدود للعربدة الصهيونية من اقتحام للمخيمات والمدن والقرى الفلسطينية، وإعدامات ميدانية للشباب، واعتقالات واسعة النطاق امتدت لأخذ الأهالى كرهائن وتدنيس متكرر للمقدسات، وخاصة المسجد الأقصى المبارك، بمشاركة وزراء ونواب صهاينة واعتداءات علي المصلين فى الأقصى وتوسيع مستمر للاستيطان، بما فى ذلك نزع الملكية وهدم للبيوت فى القدس الشرقية وضواحيها، وخاصة بعد اعتراف ترامب بالقدس كعاصمة للكيان الصهيونى ونقل السفارة الأمريكية إليها، الأمر الذى أعطى دفعة قوية لعملية «تهويد» المدينة المقدسة، ومع توسيع الاستيطان استفحلت عدوانية قطعان المستوطنين الذين توزع الحكومة الصهيونية السلاح على أوسع نطاق، وتزايدت هجماتهم على القرى الفلسطينية وإحراقهم للبيوت والمزارع وبساتين الزيتون، وصولا إلى القتل العشوائى للشباب الفلسطينى.
وبالرغم من كل هذه الجرائم الهمجية كانت عملية «التطبيع» مع العدو الصهيونى جارية على قدم وساق، تنضم إليها دول عربية جديدة أو تستعد للانضمام إليها تحت ضغوط أمريكية شديدة، الأمر الذى كان يهدّد جديا بتصفية القضية الفلسطينية، بغض النظر عن التصريحات الأمريكية المعسولة حول «الدولتين» التى يعرف الجميع أنها مجرد كلمات للاستهلاك، وغطاء لدفع مزيد من الدول العربية نحو «التطبيع».
<<<
ومع انضمام الأحزاب الصهيونية الدينية شديدة التطرف إلى حكومة نتنياهو الأخيرة تسارعت وتصاعدت بشدة وتأثر تنفيذ مخططات الاستيطان والتهويد وتزايد جرائم تدنيس المقدمات وعربدة المستوطنين وتوزيع السلاح عليهم، وأصبح الحديث يدور علنًا عن ضرورة ترحيل الفلسطينيين ليس من الضفة الغربية وحدها، بل وأيضا من المناطق الواقعة داخل الخط الأخضر «أرض الـ١٩٤٨» لتصبح فلسطين «دولة لليهود» وحدهم بكل معنى الكلمة وكان الدعم الأمريكى والغربى من ناحية، والتخاذل العربى وتوسع عملية «التطبيع» من ناحية أخرى، أرضية مناسبة للغاية لاستفحال الإجرام الصهيونى ضد الشعب الفلسطينى وأرضه ومقدساته.
وهكذا شهد عام ٢٠٢٣ منذ بدايته زيادة ملحوظة فى هذه الجرائم كلها، ويكفى أن نشير إلى أنه خلال الفترة السابقة على عملية «طوفان الأقصى» ــ ٧ أكتوبر ــ استشهد ٢٥٠ شابا فلسطينيا فى الضفة الغربية وأصبحت عمليات تدنيس شبه يومية للمسجد الأقصى وتصاعدت بشدة فى عمليات اقتحام المدن والقرى والمخيمات.
أما غزة فقد شدد العدو الحصار عليها، واستمر فى تضييق الخناق على صياديها، وعلى التدفقات المالية إليها، ومعروف أنه منذ تم اكتشاف احتياطيات ضخمة للغاز الطبيعى قبالة سواحلها «في بحر غزة» أصبح الاستيلاء على هذه الحقول أحد أهم أحداث الكيان الصهيونى، الأمر الذى جعل من التضييق على سكانها ودفعهم- هم الآخرين- إلى الرحيل عنها موضوعا مباشرا للخطط الصهيونية، ولتصاعد الأحاديث والتصريحات مجددا حول ترحيلهم إلى سيناء!! وكأنها أرض لا أصحاب لها!!
ثم جاء مشروع إنشاء الممر الاقتصادى من الخليج إلى سواحل إسرائيل والمعروف باسم «طريق الهند- أوروبا» ليجعل من السيطرة الصهيونية على غزة ضرورة لتأمين هذا المشروع، إضافة الكيلومترات الأربعين التى تحتلها سواحل غزة على البحر المتوسط إلى المجال الأمنى للمشروع الاستعمارى الجديد.
«طوفان الأقصى» قلب الحسابات
عملية طوفان الأقصى جاءت لتقلب كل هذه الحسابات، ولتعيد فرض القضية الفلسطينية على أجندة القضايا الدولية الأكثر إلحاحا، ولتبرهن على أن رسم خريطة الشرق الأوسط على النحو الذى تريده الولايات المتحدة والدولة الصهيونية هو أمر يقوم على حسابات خاطئة، وتعترضه عقبات جدية للغاية فى مقدمتها مقاومة وإرادة الشعب الفلسطينى وشعوب ودول عدد من دول المنطقة.
فبالرغم من الحرب الهمجية التى شنتها آلة الحرب الصهيونية على القطاع وسكانه ومن ارتقاء أكثر من عشرين ألف شهيد حتى الآن وترحيل أغلب سكان القطاع نحو الجنوب بالقرب من الحدود المصرية، وبالرغم من إصابة أكثر من خمسين ألف فلسطينى وتدمير مستشفيات القطاع وبالرغم من انقطاع الكهرباء والمياه وإمدادات الغذاء ومن حالة «حافة المجاعة» التى يعانيها أهل غزة. بالرغم من ذلك كله، ومن استمرار الغارات الوحشية والقصف الهمجى من الجو والبر والبحر.. بالرغم من ذلك كله لاتزال المقاومة الفلسطينية الأسطورية تلحق الضربات القاسية بجيش العدو وتُكبده خسائر فادحة فى الضباط والجنود والمعدات، بل وتحصل على غنائم من الأسلحة والذخائر تستخدمها ضد القوات الصهيونية، والمقاومة الأسطورية مستمرة أيضا فى المناطق التى تم ترحيل الأغلبية الساحقة من سكانها «مدينة غزة وبلدات ومخيمات الشمال» فضلا عن مناطق الوسط والجنوب طبعا.
واضطر نتنياهو للقبول بهدنة من أجل تبادل عدد من الأسرى بعد أن كان يتبجح بأن القتال لن يتوقف إلا بعد الإفراج عن الأسرى وتجرى الآن مفاوضات من أجل الإفراج عن دفعة ثانية من الأسرى، لن تحدث إلا بعد وقف جديد للقتال ودخول مزيد من الإمدادات، بينما باءت محاولات إطلاق سراح الأسرى القوة بفشل ذريع، وأسفرت عن قتل بعضهم بسبب القصف الصهيونى وثلاثة منهم بسلاح زملائهم، وأصبحت ضغوط أهالى الأسرى الصهاينة عنصر تأثير مهم على مواقف حكومة نتنياهو، يجبره على اقبول بالتفاوض رغم أنفه.
ولأول مرة يشهد الرأى العام العالمى تحولًا جوهريًا لصالح الشعب الفلسطينى وقضيته، وتجتاح مدن الغرب نفسها مظاهرات حاشدة تعلن دعمها للفلسطينيين وتطالب بالوقف الفورى للعدوان الصهيونى الهمجى، وتفرض على بعض الحكومات الغربية درجات متفاوتة من التغيير فى مواقفها المؤيدة لإسرائيل بصورة مطلقة، وفى الأمم المتحدة صوتت ١٥٣ دولة من أجل هدنة إنسانية فورية فى غزة، مقابل «عشر دول فقط» رفضت القرار وهو ما يشير إلى عزلة شديدة للموقف الأمريكى والصهيونى والغربى، كما سحبت عدة دول سفراءها من تل أبيب وطردت السفراء الصهاينة لديها "قطعت بوليفيا علاقاتها بالكيان الصهيونى". كما تواجه إدارة بايدن موقفا غير سهل داخل أمريكا نفسها نظراً لتغير موقف قطاعات واسعة من الشباب الأمريكى بصفة خاصة، تجاه إسرائيل، فضلا عن عشرات الآلاف من اليهود الرافضين للتطرف الصهيونى وهى ظاهرة تحدث للمرة الأولى.
الرحيل مرفوض
أما بالنسبة لخطط ترحيل سكان غزة والضفة الغربية التي تطرحها إسرائيل فإنها تصطدم بالموقف المصرى الأردنى الرافض تمامًا لهذه الخطط التى ترفضها أيضًا الغالبية الساحقة من الرأى العام العالمى ودول العالم، والأمم المتحدة وغنى عن الذكر أن هذا الرفض المصرى والأردنى والدولى لن يجعل للكيان الصهيونى وخاصة الأحزاب الأشد يمينية وتطرفًا فيه تحاول بكل السُبل تنفيذ مخططاتها الإجرامية، غير أن الرفض الإقليمى والدولى «وخاصة المصرى - الأردنى» يمثل عقبة جدية أمام هذه المخططات الإجرامية، كما أن الضغوط الإقليمية والدولية من أجل وقف إطلاق النار وزيادة الإمدادات الفدائية والإغاثية «المدعومة بموقف قوى من جانب المقاومة الفلسطينية فيما يخص موضوع تبادل الأسرى» هى اعتبارات من شأنها وضع قيود جديدة علي خطط الكيان الصهيونى الإجرامية لترحيل سكان غزة.
<<<
وهكذا تدخل المقاومة الفلسطينية العام الجديد وهى لاتزال صامدة فى قتالها الأسطورى الباسل ضد جيش العدوان، تترك به الضربات المؤلمة وتلحق به الخسائر الفادحة، وتجبره على سحب كتائب من قواته بسبب فداحة الخسائر لإعادة تنظيمها، كما رأينا مؤخرا.
ويعترف قادة جيش العدو بأنهم بجاحة إلى شهور عديدة لتحقيق هدفهم فى هزيمة المقاوة، بينما تشير وقائع الميدان إلى أن هذا الهدف الإجرامى هو هدف بعيد المنال، وبينما تظهر التشققات فى مواقف الأطراف الصهيونية بسبب فداحة الخسائر، وتدل المؤشرات على أن عام ٢٠٢٤ سيكون عام الصمود والانتصار الفلسطينى وهزيمة العدوان الصهيونى.