أسامة أيوب يكتب : فى الاحتفال بالعام الهجرى الجديد
الهجرة كانت ضرورة استراتيجية وفريضة إلهية لفتح آفاق أرحب أمام رسالة التوحيد ونشر الإسلام
فى رحلة الهجرة.. معجزات ودروس دينية وسياسية ورسالة باقية
إذ يحتفل مليارا مسلم فى العالم بالعام الهجري الجديد لإحياء ذكرى الهجرة النبوية والحادثة الفارقة فى تاريخ الإسلام التى مهدت للحدث الأهم بفتح مكة.. ونهاية الشِرك وعبادة الأصنام ورفع راية التوحيد فى جزيرة العرب ثم فى بقاع الأرض.. مشارقها ومغاربها، فإن إحياء هذه الذكرى الخالدة يتعين ألا يقتصر على مجرد الاحتفال والاحتفاء مع الإقرار بأهمية وضرورة الاحتفال، إذ إن ثمة دروسًا بالغة الأهمية ومعجزات يتعين التوقف أمامها طويلًا وقراءتها جيدًا وبذلك يكتمل الاحتفال.
ورغم أن الهجرة إلى يثرب "المدينة" قد سبقتها هجرتان إلى الحبشة بأمر من النبى صلى الله عليه وسلم للمسلمين المستضعفين فى مكة بعد أن اشتد إيذاء كفار قريش لهم وتعذيبهم، حيث أبلغهم النبى أن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد وهو النجاشي، إلا أن الهجرة الحقيقية والمحتفل بذكراها هى الهجرة من مكة إلى المدينة.. هجرة المسلمين وهجرة الرسول شخصيًا، إذ كانت الحدث الفارق والضرورى استراتيجيًا لفتح آفاق أرحب أمام رسالة التوحيد ونشر الإسلام بعد أن ضاقت مكة مهبط الوحى بالرسالة طوال ثلاثة عشر عامًا.
<<<
فى الحديث عن الهجرة فإن الإنصاف الدينى والتاريخى يقتضى الإشادة والإشارة إلى دور السبعين رجلا وامرأتين من أهل يثرب الذين بايعوا النبى فى مكة خلال موسم الحج الذى سبق هجرته على استضافته فى بلدهم «البلد الثانى من حيث الأهمية بعد مكة» ونصرته ومنصته ونصرة الإسلام، حيث كانت هذه البيعة هى المشهد الأول فى رحلة الهجرة، ولقد كان هؤلاء طلائع الإسلام فى المدينة، والذين سبقهم قبل عام بضعة رجال من يثرب بايعوا النبى وحيث كانت بيعتهم التمهيد لبيعة السبعين رجلا.
الذى حدث بعد ذلك أن النبى أذن لمسلمى مكة بالهجرة، ثم كان قراره الموحى إليه بأن يهاجر شخصيا بعد أن اطمأن علي خروج المسلمين من مكة مهاجرين آمنين إلى يثرب، حيث استبقى معه أبا بكر ليكون رفيقه فى رحلة الهجرة.
<<<
ولقد كان قرار الهجرة.. هجرة المسلمين ثم هجرته صلى الله عليه وسلم لاحقا.. قرارًا دينيًا موحى إليه من الله بقدر ما يُعد قرارًا سياسيًا واستراتيجيًا بالغ الأهمية بحسب مصطلحات الزمن الحديث، إذ بالهجرة تحقق التمكين للإسلام ونشر رسالة التوحيد بعد فتح مكة، حيث وفرّت الهجرة إلى المدينة ملاذًا آمنًا للمسلمين من جهة، وتفرغ النبى لتبليغ رسالته ونشر الإسلام فى جزيرة العرب من جهة أخرى.
<<<
رحلة الهجرة.. هجرته صلى الله عليه وسلم التى طالت لنحو خمسة عشر يوما وما تخللتها من مشقة كبيرة يمكن التحقق منها لمن يحاول اقتفاء آثارها في الوقت الحاضر.. كانت حافلة بالدروس العملية.. التكتيكية والاستراتيجية من حيث التخطيط والتدبير والإعداد والحذر وخداع الأعداء من الكفار، ورغم أنه صلى الله عليه وسلم مؤيد من الله الذى عصمه من الناس، إلا أن أخذه بالأسباب كان رسالة للمسلمين من بعده للاقتداء به مع التوكل "وليس التواكل" على الله.
<<<
دروس الهجرة تبدّت في مواقف كثيرة قبل وأثناء الرحلة.. أولها أن النبى تكتّم أمر قرار الهجرة وموعدها، ثم فى اختيار رفيق الرحلة وهو أقرب الناس إليه الصديق أبو بكر الذى أسرّ إليه بموعد الخروج من مكة وهو الأمر الذى يعنى أنه المؤتمن على سر النبى، وهو الذى أعد فى سرية تامة الراحلتين، وأسند إلى رجل آخر مؤتمن من رعاة الغنم مهمة السير خلف الركب لمسح آثار السير حتى لا يقتفى أثره قصاصو الأثر الذين استعان بهم كفار قريش للحاق بالنبى ورفيقه لقتلهما أو منعهما من الهجرة.
درس آخر مهم وهو اختيار قصاص أثر على علم بدروب الصحراء، حيث كان من أهل الكتاب ويدعى «أريقط» وهو أمر له دلالته التى تؤكد سماحة الإسلام والرسول بقدر ما تؤكد ضرورة اختيار الرجل المناسب للمهمة المطلوبة وفقًا لمعيار الكفاءة.
>>>
ثم كان قرار النبى فى بداية الرحلة بالسير عكس الاتجاه إلى يثرب لتضليل الكفار الذين يحاولون اللحاق به.. درسًا آخر فى الأخذ بالأسباب وخداع الأعداء، وكذلك كان الاختباء فى غار ثور في بداية الرحلة درسا آخر استهدف تثبيط همة الكفار فى العثور عليه حتى ييأسوا من اللحاق به ومنعه من الهجرة أو قتله، وهو ما تحقق بالفعل بمعجزة إلهية تثبيتًا له ولصاحبه فى الغار وإثباتًا لأنه رسول الله حقًا، إذ إن الكفار توقفوا أمام الغار حيث انتهت آثار السير وهو الأمر الذى يؤكد وجود النبى داخله حتمًا وحيث همس أبوبكر قائلا «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، بينما رد النبى بثقة من الله وثبات حقيقى «ما ظنك باثنين الله معهما» وهنا تتجلى المعجزة إذ نسج العنكبوت خيوطه على فتحة الغار وباضت حمامتان عندها أيضا وحيث بدا للكفار أن وجود النبى وصاحبه داخل الغار غير ممكن ومستحيل فرجعوا خائبين.
<<<
هذه المعجزة ذكرها القرآن الكريم فى الآية الكريمة «إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا»، وفى هذه الآية تشريف وتكريم للصديق أبى بكر بذكره فى آية تتلى ويتعبد بها إلى يوم القيامة، وهو تكريم مستحق بوصفه الصديق الأقرب للنبى ووالد زوجته الأقرب إلى قلبه السيدة عائشة والذى كان زواج النبى بها تكريمًا آخر من الرسول لأبيها، وهو من قال عنه النبى «لو وزن إيمان الأمة في كفة وإيمان أبى بكر في كفة لرجحت كفة أبى بكر»، وحيث كان هذا التكريم القرآنى استشرافًا لأنه سيكون الخليفة الأول للرسول.
ثم إن ثمة معجزة أخرى من معجزات عديدة شهدتها رحلة الهجرة وهى نجاح سُراقة من قصاصى الأثر فى التمكن من معرفة وجود الرسول فى الغار بعد أن غادر الكفار المكان، ولما حاول الوصول إلى الرسول تعثر فرسه عدة مرات كلما همَّ بالوقوف، وهنا عرف الرجل أن النبى ممنوع من الأذى فاعتذر آسفًا معاهدًا على منع الكفار من الوصول إليه، وقد بشره النبى بأنه سوف يغنم سوار كسرى وهو ما تحقق بالفعل في زمن عمر بن الخطاب فكان ذلك معجزة أخرى.
<<<
بوصوله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب «المدينة» وباستقبال أهلها له بحفاوة غير مسبوقة فى تلك المدينة، وباستقراره بين الأنصار مع المهاجرين، فإن فجرًا بازغًا للإسلام طلع فى سماء المدينة وفى سماوات الدنيا معلنًا انتصار الإسلام.
ثم كان أول درس بعد الهجرة هو مشهد التآخى الذي دعا إليه النبى بين المهاجرين والأنصار الذين اقتسموا بيوتهم وأملاكهم مع إخوانهم المهاجرين ريثما يستقرون ويؤسسون لحياتهم ومعيشتهم في بلد المهجر الذى صار بلدهم وموطنهم.
<<<
أما الدرس الثانى والمهم فكان إعلان الرسول عن وثيقة المدينة والتى كانت بمثابة ميثاق اجتماعى ودستور سياسى لتنظيم العلاقات بين المسلمين من المهاجرين والأنصار واليهود وبقية أهل يثرب الذين لم يكونوا قد دخلوا الإسلام بعد، وهى الوثيقة الدينية والسياسية والاجتماعية التى تعد واحدة من أقدم وأهم المواثيق والمعاهدات فى التاريخ الإنسانى بقدر ما كانت أول وثيقة من نوعها في التاريخ الإسلامى.
<<<
من دروس الهجرة أيضا أن أول بناء أقامه صلى الله عليه وسلم فى المدينة كان مسجده الذى كان أول مسجد يقام فى الإسلام بعد مسجد قباء الذى بناه الرسول قبيل وصوله إلى المدينة بأيام، وحيث كان أول مكان لعبادة الله بعد الهجرة تقام فيه الصلوات مثلما كان المدرسة الإسلامية التى يلتقى فيها النبى مع المسلمين ويتلقى فيها المسلمون ما يتنزل علي النبى من وحى السماء من آيات القرآن الكريم ويتعلمون منه ويتلقون تعاليم الإسلام ومقاصد الشريعة والسنة المشرفة، ومنه انطلقت رسالة الإسلام إلي أرجاء الجزيرة العربية والفتوحات حتى تم فتح مكة.
ولأن من أهم مقاصد الهجرة أن تكون ابتغاء وجه الله وطاعة الرسول ونصرة الإسلام، فإن الأجر والثواب متعلقا بالنية، ولذا قال صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال النيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، ومن المتواتر أن هذا الحديث جاء فى مهاجر أم اسحق وهو رجل هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج من امرأة اسمها أم اسحق، ورغم أن ثواب أى عمل للمسلم مرهون بنيته فإن الهجرة كانت أوضح مثال لذلك كما أنها أول ما قاله الرسول فى هذا الشأن.
<<<
من دروس الهجرة يظل موقف الأنصار ملمحا مهما لا يغيب سواء منذ مبايعة النبى علي نصرته واستضافته والمسلمين فى يثرب ثم فى التآخى الإنسانى المشهود مع المهاجرين، وحيث كانوا سندا مهما للرسول وللرسالة حتى تم فتح مكة، حيث حظى الأنصار بمكانة عظيمة لدى الرسول حتى آخر يوم في حياته.
وفى هذا السياق تجدر الإشارة إلي واقعة جرت بعد غزوة حنين التي وقعت بعد فتح مكة حيث اختص الرسول أهل ممكة وأبناء هذه القبائل بنصيب أكبر من الغنائم دون الأنصار الذين تحفظوا فيما بينهم وهمس بعضهم بما يعنى أن الرسول قد مسه الحنين إلى أهله من قريش، ولما شعر صلى الله عليه وسلم بما يتهامس به الأنصار والذين غفلوا عن مقصده السياسى من توزيع غنائم أكثر علي حديثى الإسلام لتأليف قلوبهم، فقد جمعهم وخطب فيهم «ألا يسركم أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله، والله إن المحيا محياكم والممات مماتكم، ووالله لو سلكت الناس طريقا وسلك الأنصار طريقا لسلكت طريق الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار»، وعندها بكى الأنصار وتأكدوا من مكانتهم لدى الرسول، وحيث كان حديثه عن العودة إلى المدينة وأنها المحيا والممات بشارة وإشارة إلى أنه لن يعود إلى مكة وأنه باق فى المدينة.. إقرارًا بمكانة الأنصار.
<<<<
تبقى معلومة مهمة تستوجب الإشارة إليها لإزالة الالتباس لدى البعض من عامة المسلمين والأجيال الناشئة وايضاح الفارق بين بداية العام الهجرى فى غرة المحرم وبين شهر الهجرة التى كانت فى ربيع الأول وفى اليوم الثانى عشر على أرجح الأقوال.
صحيح أن التاريخ الإسلامى وفقا للتقويم والشهور القمرية العربية بدأ احتسابه من سنة الهجرة، إلا أن تحديد غرة المحرم كبداية لهذا التاريخ كان قرار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
لقد رأى الصحابة ضرورة العمل بتقويم اسلامى عربى لتأريخ الأحداث بعد وفاة النبى، حيث اقترح البعض أن يبدأ التاريخ بسنة وشهر مولد النبى «ربيع الأول» ورأى آخرون أن يبدأ التاريخ بشهر رمضان وسنة فتح مكة، بينما اقترح عمر أن يبدأ بسنة الهجرة ولكن بداية من شهر المحرم باعتباره الشهر الذى يفيض منه الحجيج عائدين إلي ديارهم، وهو الرأى الذى أقره الجميع.