أسامة أيوب يكتب : الأيام والأحداث الإسلامية الفارقة فى التاريخ الإنساني (5)

بعودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد فتح مكة وبعد أن دانت شبه الجزيرة العربية بالإسلام، حيث ارتفعت راية التوحيد بين العرب الذين وحَدَهُم الإسلام لأول مرة فى تاريخهم، فإنهم صاروا قوة كبرى وأمة عربية مسلمة واحدة تحت قيادة نبى هو خاتم المرسلين بآخر الكُتب والرسالات السماوية ليس للعرب وحدهم، ولكن لكل الناس فوق الكوكب.
وقبل سنة من انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى رحاب الله كان يقف فوق جبل عرفات فى حجة الوداع.. الأولى والأخيرة فى حياته.. مُخاطبًا مائة ألف حاج جاءوا من كل فج عميق فى شبه الجزيرة العربية.
...
خطبته صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع كانت وبحق أول إعلان عالمى ٍلحقوق الإنسان ٍقبل أكثر من أربعة عشر قرنًا.. سبق كل ما تمخضت عنه المواثيق والإعلانات العالمية اللاحقة من مبادئ وقيم وتفوق عليها جميعًا، إذ بقدر ما تضمَّن تأكيد كل ما جاءت به الشريعة الإسلامية فإنه تضمَّن فى نفس الوقت أرقى مبادئ العدالة والمساواة بين البشر جميعًا على اختلاف عقائدهم وأعراقهم وألوانهم (لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود)، وكذلك مبدأ (الناس سواسية كأسنان المشط)، ثم إنه سبق كل المواثيق والدعاوى الخاصة بحقوق المرأة (رفقًا بالقوارير)، ثم (واستوصوا بالنساء خيرًا).
ومن ثَمَ فقد كان هذا الإعلان العالمى الأول فى حجة الوداع بمثابة رسالة هذا الدين الخاتم الذي يعنى الخير للناس جميعًا بقدر ما حملت فى طياتها مبادئ وقيم إنسانية حضارية متقدمة سبقت كل محاولات الحضارات والأمم اللاحقة للتوصل إليها، ولذا فإنه يمكن القول وبكل الإنصاف التاريخى أن خطبة الوداع تُعدّ حدثًا فارقًا فى التاريخ الإنسانى.
....
ولأن حجة الوداع وحسبما يتضح من اِسمها كانت آخر لقاء للرسول بهذا الحشد الضخم من المسلمين (مائة ألف حاج) وهو عدد كبير مقارنةً بعدد أهل الجزيرة العربية فى ذلك الوقت، وبحسب قوله صلى الله عليه وسلم لهم (لعلى لا ألقاكم بعد عامكم هذا)، فقد انطوت خطبته على اشارات إلى قرب انتقاله إلى الرفيق الأعلى واكتمال الرسالة بحسب ما جاء فى الآية الكريمة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا)، وهو الأمر الذى تنبه إليه أبوبكر الصديق بحدسه الإيمانى العميق، إذ بكى بعد نزول هذه الآية مثلما بكى عند نزول سورة النصر (إذا جاء نصر الله والفتح.....) وهمسَ إن الله ينعى رسوله إلى نفسه، ويبقى توضيح مهم وهو أن آية (اليوم أكملت لكم دينكم...) ليست آخر ما نزل من القرآن بحسب خطأ شائع عند المسلمين من غير العلماء والمتخصصين.
...
ولقد جاءت وفاته صلى الله عليه وسلم فى المدينة المنورة في يوم التاسع أو الثانى عشر من ربيع الأول فى بداية السنة الحادية عشرة من الهجرة بمثابة صدمة مفجعة زلزلت المسلمين.. غير مصدقين لأن النبى مات حتى عُمر بن الخطاب ذاته رفض تصديق الخبر وبلغ به الحُزن مبلغًا لم يكن متوافقًا مع شخصيته، وهُنا يتجلى إيمان أبى بكر الراسخ الذى احتوى الصدمة والحُزن بحِكمة وحسم مُخاطبًا الناس بقولته التى أعادت لهم صوابهم (من كان يعبُد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدًأ فإن محمدًا قد مات)، ثم جاءت تلاوته للآية الكريمة (وما مُحمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم).. قولاً فصلاً استدعى لذاكرة المسلمين تلك الآية لدرجة أنهم قالوا كأننا نسمعها لأول مرة!
....
هذا الموقف الإيمانى الحكيم الحاسم فى تلك اللحظات العصيبة الحزينة هو أحد المسوغات العديدة التى أهلّت أبا بكر لكي يخلف الرسول فى قيادة الأمة الإسلامية ورعاية شئون وتنفيذ تشريعات الإسلام، بالنظر إلى أنه أول من أَسلَمَ من الرجال والثانى بعد السيدة خديجة زوج الرسول، وهو أول من صدق الرسول فى حادثة الإسراء والمعراج وقال للذين استنكروا تصديقه إنى أُصدقه فى وحي السماء فكيف لا أصدقه فى الإسراء والمعراج، ثُمّ إنه كان من اختاره الرسول ليكون صاحبه ورفيقه فى رحلة الههجرة إلى المدينة، وهي الصُحبة التى وثقها القرآن الكريم فى آية (إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) فكان ذكره فى هذه الصحبة تكريمًا وتشريفًا له وهو الذى قال عنه الرسول (لو وزن إيمان أبى بكر وإيمان الأمة لرجحت كفة أبى بكر)، وأخيرًا وليس آخرًا أن الرسول استخلفه فى مرضه قبل وفاته ليؤم المسلمين فى الصلاة.. تأكيدًا لمكانته فى الإسلام ولدى الرسول.
....
بتلك المسوغات والمؤهلات وبتلك المكانة الكبيرة وبصفته الصدّيق تم استخلاف أبى بكر بعد أن قدّمه عمر بن الخطاب مبايعًأ وبايعه المسلمون بالإجماع وفى مقدمتهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ليكون الخليفة الأول للرسول.
غير أنه تجدر الإشارة إلى أن الأنصار كانوا قد تعجلوا واجتمعوا فى (سقيفة بنى ساعدة) واختاروا من بينهم خليفة، إلا أن عمر تدارك الأمر بحسم وأبطل اختيار الأنصار، وبمواءمة سياسية قال لهم (منا الأمراء).. قاصدًا المهاجرين المنتمين إلى قريش، (ومنكم الوزراء).. قاصدًا الأنصار، وبهذا القرار أرسى عمر مبدأ ظل ساريًا فى زمن الخلفاء الراشدين الأربعة ثم فى عهدى الدولتين الأموية والعباسية، وطوال تلك العصور والقرون وبإجماع الأئمة وفقهاء وعلماء المسلمين كان شرط تولى الخلافة أن يكون الخليفة قرشيًا.
....
خلافة أبى بكر الصديق التى زادت قليلا على السنتين والتي استهلها.. متهيبًا أن يكون أول من يخلف الرسول فى تولى أمور المسلمين ومتواضعًا بحسب قوله بعد مبايعته (لقد وليت عليكم ولست بخيركم.....).. كانت تثبيتًا لدعائم الاسلام والأمة التى تركها الرسول وهى (خير أمة أخرجت للناس)، ثم استكمالا للغزوات وأهمها الغزوة التى كان الرسول قد أعدها قبل رحيله بقيادة الشاب صغير السن أسامة بن زيد فى دلالة على إعطاء الفرصة للشباب الأكفاء للقيام بدورهم فى بناء دولة الإسلام.
...
غير أن أهم نجاحات أبى بكر كانت التصدى للمرتدين ومُدعى النبوة ومنهم من رفض دفع الزكاة.. مستندين بجهل وبقصد سيئ إلى الآية الكريمة (وخذ من أموالهم صدقة تُزكيهم وتُطهرهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) متعللين زورًا وبهتانًا فى تدليس كبير بأن من كانت صلاته سكناً لنا (يقصدون الرسول) قد مات.
وهُنا تتجلى قوة إيمان أبى بكر وتحمله أمانة خلافة الرسول فى مواجهة أخطر التحديات التى واجهت الإسلام والمسلمين بعد أشهر من رحيله صلى الله عليه وسلم، فكان قراره الحاسم شن الحرب على هؤلاء المرتدين الذين يهددون بقاء الإسلام فى الجزيرة العربية وحيث جاء تأكيده بأنهم «لو منعونى عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله قاتلتهم عليه»، ثٌمَّ إنه فى سياق هذا الموقف الحاسم وعندما أبدى عُمر بن الخطاب تحفظًا وترددًا فى محاربة المرتدين كان رده القاسى على عُمر «أجبار فى الجاهلية خوار فى الإسلام».
وبانتصار أبى بكر فى حروب الردة، ورغم الخسائر البشرية الكبيرة باستشهاد كثير من الصحابة الأوائل خاصة حفظة القرآن الكريم، فإنه يُحسب له أنه حافظ على الإسلام من الارتداد عنه بقدر ما حافظ على وحدة الأمة والدولة الإسلامية العربية الناشئة وحالَ بين محاولة تكرار الردة مرة أخرى ليستمر الإسلام باقيًا قويًا فى شبه الجزيرة العربية توطئة لنشره وانتشاره فى مشارق الأرض ومغاربها لاحقًا، وحيث كانت الرسالة المحمدية حدثًا فارقًا فى التاريخ الإنسانى.