أسامة أيوب يكتب : فى اليوبيل الذهبى لكلية الإعلام بجامعة القاهرة
بينما يُحضّر خريجو الدفعة الأولي «دفعة ١٩٧٥» بكلية الإعلام بجامعة القاهرة للاحتفال في نهاية شهر أكتوبر الجارى خلال لقائهم الشهرى المستمر منذ سنوات بمرور خمسين عامًا علي إنشاء الكلية وبدء الدراسة عام ١٩٧١، فإنى أحسب أن هذه المناسبة الأكاديمية التاريخية تستوجب بقدر ما تستحق احتفالا واجبًا من جانب الكلية وأيضًا من جانب الجامعة باعتبارها صاحبة المبادرة في استحداث هذه الكلية.
إن مرور نصف قرن على إنشاء كلية الإعلام.. أول كلية جامعية من نوعها في مصر والعالم العربي مناسبة تستوجب بقدر ما تستحق أيضًا الاحتفاء والاحتفال.. إعلاميًا وصحفيًا.. مصريًا وعربيًا وذلك بالنظر إلي تاريخها الطويل الممتد عبر كل تلك السنوات ودورها الريادي في تدريس فنون الإعلام المختلفة، والذى كان بمثابة نقلة نوعية على نحو أوسع وأشمل في مجالات الصحافة والإذاعة والتليفزيون والعلاقات العامة والإعلان وبديلا لقسم الصحافة بكلية الآداب الذي كان متخصصًا في تدريس الصحافة فقط.
< < <
ثم إنه من المهم أن يكون الاحتفال بهذه المناسبة مدعاة لتوثيق تلك المسيرة الأكاديمية منذ بدايتها وعلى نحو موضوعى، ومن جانبى ومتحدثًا عن بواكيرها بوصفي كنت ضمن أول دفعة التحقت بالكلية ثم بوصفى من خريجى الدفعة.. أجدنى مدفوعًا قبل أن أكون مدعوًا وبالإنابة عن زميلاتى وزملائى خريجى الدفعة الأولى التي تستحق أن توصف بدفعة الرواد.. أن أستعيد وأسترجع بدايات هذه الكلية التي لاتزال ذكرياتها ماثلة في أذهاننا ومحفورة في وجداننا طوال مسيرتنا المهنية منذ التخرج واحتراف العمل الصحفي والإعلامى فى بدايات الشباب وحتي اقتربت أعمارنا من السبعين.
< < <
إنها ليست «شوفينية» أو استعلاء أو توصف الدفعة الأولى بدفعة الرواد ولكن لأن طلابها وخريجيها كانوا السابقين في الالتحاق بالكلية مع تأسيسها.. مدفوعين بشغف واستعداد لدراسة الإعلام واحترافه، بينما كان الالتحاق بها ذهابًا إلى المجهول ومغامرة غير محسوبة بحسب آراء الآباء والأمهات في ذلك الوقت خاصة أنها بدأت تحت اسم معهد الإعلام ولم تتحول إلي كلية إلا في العام الدراسى الثالث، مع ملاحظة الفارق الكبير بين الكلية والمعهد في سياق الثقافة السائدة في ذلك الوقت.
< < <
الالتحاق بمعهد الإعلام كان خارج مكتب تنسيق القبول بالجامعات ومشروطًا باجتياز اختبارات تحريرية وشفوية استهدفت قياس قدرات ومعلومات المتقدمين العامة ومن ثم استعدادهم للدراسة، وهي الاختبارات التي أسفرت عن قبول ٢٥٠ طالبًا من بين أكثر من ألف طالب بنسبة ٢٥٪ من المتقدمين للالتحاق بالمعهد.
ومع أن الحد الأدنى الذى حدده المعهد للتقدم للالتحاق بالدراسة ودخول الاختبارات كان ٦٥٪ من مجموع الدرجات في الثانوية العامة، إلا أن غالبية المتقدمين كانوا من الحاصلين علي درجات أعلى بينما كانت الغالبية العظمى من الناجحين في الاختبارات والمقبولين من الحاصلين على مجاميع تزيد علي ٨٠٪ من القسم الأدبى و٨٥٪ من القسم العلمى، وهى مجاميع مرتفعة جدًا بمقاييس تلك الفترة، وحيث كانوا مقبولين في كليات الطب والهندسة والصيدلة والاقتصاد والعلوم السياسية، غير أنهم فضلوا الدراسة بمعهد الإعلام وهو الأمر الذى يعنى أن هذه الدفعة تستحق وصف دفعة الرواد.
ثم إن ريادة الدفعة الأولى مستمدة من ريادة كلية الإعلام ذاتها باعتبارها الأولى من نوعها، وهى مستمدة أيضًا من التجربة الدراسية الأكاديمية المتفردة والتى جمعت بين الدراسة النظرية والعملية وعلي نحو غير مسبوق.
< < <
لقد ارتكزت فلسفة تلك التجربة الدراسية الأكاديمية على رؤية شاملة واسعة تضمنت دراسة مختلف العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والثقافية، إضافة إلى الفلسفة عبر مقررات ومناهج رفيعة المستوى على أيدى أساتذة علماء رفيعى المستوى أيضًا أمثال الدكاترة إبراهيم إمام أول عميد للكلية وعبدالملك عودة العميد الثانى وعثمان أمين وعزالدين فودة ومحمد أنيس وسامى عزيز وخليل صابات وصبحى عبدالحكيم وجمال العطيفي وغيرهم ممن لم تسعفنى ما تبقى من ذاكرة أن أذكرهم.
وقد كان الهدف من دراسة كل تلك العلوم إلي جانب الدراسة الإعلامية والصحفية المتخصصة هو توسيع آفاق الطلاب.. الخريجين بعد ذلك، حتى يكونوا قادرين على استيعاب ما يجرى في ذلك العصر ومن ثم مؤهلين لاحتراف مهنة الإعلام بامتياز.
< < <
الأهم فى تلك التجربة الأكاديمية كان فى دراسة الصحافة التي تُعد في واقع الأمر حجر الزاوية والأساس الصلب في مهنة الإعلام سواء فى بلاط صاحبة الجلالة أو الإذاعة والتليفزيون أو العلاقات العامة والإعلان.
ولقد كانت مادة «المعمل الصحفى» وهو الاسم الذى اختاره أستاذنا الجليل الراحل جلال الدين الحمامصى لمادة الصحافة التي ظل يدرسها لطلاب الدفعة الأولى طوال أربع سنوات وللدفعة الثانية بعد ذلك لمدة ثلاث سنوات حتى توقف من التدريس.. لقد كانت وبحق المعمل الذى أنتج خريجين مؤهلين لاحتراف العمل الإعلامى حيث تدفقت دماء جديدة في شرايين الإعلام المصري شهد لها الجميع بالتميز.
< < <
تفرُد وتميُز وريادة تلك التجربة الدراسية الأكاديمية التي قادها باقتدار أستاذنا الحمامصى يرجع إلى أنها جمعت بين الدراسة النظرية في المحاضرات داخل مدرجات الكلية وبين الدراسة العملية من خلال ممارسة العمل الصحفي ذاته في جريدة تصدر أسبوعيًا تحت اسم «صوت الجامعة» مارسنا فيها كل مراحل إصدار صحيفة وعلي نحو يقترب من الاحتراف حتى قبل التخرج.
«صوت الجامعة» كانت أيضًا تجربة ليبرالية فريدة داخل الجامعة حيث كانت منتدى ديمقراطيا مارسنا خلاله حرية التعبير والرأى والاختلاف السياسى مع أستاذنا الحمامصى والذى كان سعيدًا بالتجربة ومُشجعًا عليها وإلي درجة أن حواراتنا معه تضمنها كتاب أصدره لاحقا تحت عنوان «حوار وراء الأسوار» يقصد أسوار الجامعة.
< < <
أستاذية جلال الدين الحمامصى وتجربة «صوت الجامعة» ظلت ولاتزال حاضرة بقوة لدى خريجى الدفعة الأولى حتى لدى الذين لم يلتحقوا بقسم الصحافة واختاروا قسمى الإذاعة والتليفزيون والعلاقات العامة عند التخصص في السنة الدراسية الثالثة، بل إن منهم من احترف العمل الصحفي بعد التخرج بكفاءة عالية، ولأن الصحافة هى صلب العمل الإعلامى فقد أثبت من احترفوا العمل التليفزيونى والإذاعى وفي مجالات العلاقات العامة كفاءة عالية أيضًا وهى كفاءة مستمدة بكل تأكيد من تجربة «صوت الجامعة» وتأثيرها الإيجابى على أدائهم.
< < <
يبقي أن أمرًا عجيبًا بحق نتوقف عنده وبشأنه نحن خريجى الدفعة الأولى، وهو ذلك الارتباط بل الترابط الوثيق الذى يجمع بيننا بتلك الحميمية الدافئة منذ نصف قرن وحتى الآن وإلى درجة التوافق على عقد لقاء شهرى بمن حضر منذ سنوات وحتى الآن.. حرصًا على استمرار تلك الوشائج الفريدة شديدة الخصوصية، والتي أحسب أنه ليس لها مثيل في الكليات الجامعية علي اختلافها، ولعل ذلك يكون مبررًا آخر وسببًا مقبولا يُضاف إلى ما سبق لوصف تلك الدفعة الأولى بأنها دفعة الرواد، دون أن يكون ذلك تقليلا بأى شكل من الأشكال من الدفعات التالية واللاحقة.
< < <
في هذه المناسبة تبقي تحية عرفان ووفاء واجبة مرسلة من خريجى الدفعة الأولي إلى أرواح أساتذتنا الأجلاء الذين تتلمذنا على أيديهم، وتبقي تحية خاصة إلى روح أستاذنا جلال الدين الحمامصى الذى أطلقنا اسمه على الدفعة.. داعين لهم بالرحمة وأن يتغمدهم المولى بواسع رحمته.
وفي هذه المناسبة نذكر ونترحم أيضًا على من غيبهم الموت من زملاء الدفعة.. الذين رحلوا مبكرًا والذين لحقوا بهم، مع الدعاء لكل الزملاء والزميلات بالصحة وطول العمر.
< < <
هذه السطور سطرتها بوجدانى قبل قلمي.. حبًا وإعزازًا.. احتفالاً بالمناسبة العزيزة وتوثيقًا أحسبه مهمًا وضروريًا.. معتذرًا عما فاتنى ذكره.. راجيًا أن أكون قد أحسنت بقدر ما استطعت.