أسامة أيوب يكتب : من خروشوف إلى بايدن
عندما يخرج الرؤساء على قواعد الدبلوماسية وتقاليد الخطاب الرئاسى
بينما تتصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية التى بدأت قبل أسابيع ولاتزال نيرانها مستعرة، وبينما جرت وتجرى مفاوضات بين البلدين على وقع أصوات المدافع وقصف الطائرات والصواريخ، ورغم الوساطات الدولية وتحديدًا التركية، ولأن العملية العسكرية بغزو أوكرانيا لم تحقق أهدافها حسبما خطط لها الرئيس بوتين، فإنه من غير الممكن حتى كتابة هذه السطور التنبؤ بسيناريوهات إنهاء الأزمة سياسيًا مع استمرار التشدد الغربى بقيادة واشنطن والرئيس بايدن من جهة والروس من جهة أخرى.
غير خاف أن هذه الأزمة تعكس في حقيقتها الصراع على النفوذ في هذه المنطقة من شرق أوروبا بين الولايات المتحدة وروسيا وريثة الاتحاد السوفيتى السابق والتى تواجه خطر التمدد الأمريكى وتمدد حلف الناتو على حدودها وبما تعتبره تهديدًا لأمنها القومى، ولأن الرئيس بايدن ماض قدمًا في تصعيد الأزمة ليس عسكريًا فقط ولكن كلاميًا أيضًا وبعد أن حشد دول الاتحاد الأوروبى معه وجرها إلى أتون الأزمة أو بالأحرى ورطها من خلال فرض حزمة من العقوبات ضد روسيا، فقد بدا واضحًا أن أوروبا ستدفع تكلفة فادحة جراء تلك العقوبات، ورغم الاستبعاد الكامل لأن تتحول الأزمة إلى حرب عالمية ثالثة بين الغرب وروسيا، إلا أنها باتت حربا عالمية اقتصادية سوف تكون لها تداعياتها الخطيرة على العالم وخاصة الدول محدودة ومتوسطة الدخل وفي المقدمة دول القارة الأفريقية التى تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنها قد تواجه خطر المجاعة، ولقد جاءت أزمة الغذاء التى اجتاحت الكثير من الدول حتى الآن وبعد شهر واحد من الحرب في أوكرانيا لتؤكد تلك المخاوف.
<<<
وسط أجواء هذه الأزمة التى تخيّم على العالم، ودون الدخول فى تفاصيل المعارك الحربية الدائرة علي أرض أوكرانيا، ومع لغة الخطاب الأمريكى والأوروبى شديدة اللهجة لإدانة الغزو الروسى، جاءت تصريحات الرئيس بايدن متجاوزة لكل الأعراف السياسية الدولية، عندما وصف الرئيس بوتين بأنه جزار تارة وبأنه مجرم حرب تارة أخرى، أما الأخطر عندما قال إن بوتين لا يجب أن يبقى فى السلطة، وهو التصريح الذى استنكره الكرملين بشدة باعتباره تدخلا فى الشئون الداخلية، مشيرًا إلى أن الشعب الروسى هو الذى انتخب بوتين وأنه من يقرر بقاءه أو خروجه.
تصريحات بايدن والتى بدت خروجًا على قواعد الدبلوماسية وتقاليد الخطاب الرئاسى دفعت موظفى البيت الأبيض إلى المسارعة بالإعلان عن أنها كانت تعبيرًا عن الغضب وأنه لم يقصد ما فُهم فيها بشأن عدم بقاء بوتين في السلطة.
المثير أن بايدن ورغم محاولات موظفى البيت الأبيض تجميل تصريحاته المسيئة والتراجع عنها، رفض الاعتذار والتراجع فى عناد شديد مؤكدًا أنه لن يعتذر عن رأيه الشخصى!
وفى نفس الوقت فإن بعض المحللين السياسيين داخل أمريكا أرجعوا السبب إلى أسباب صحية بحكم كبر سن بايدن الذى يقترب من الثمانين من العمر، وعلى النحو الذى أثر على قدراته الذهنية وجعلته غير قادر على ضبط انفعالاته الشخصية لمراعاة قواعد الدبلوماسية فى خطابه أمام الكاميرات بصفته الرئاسية.
< < <
تصريحات بايدن استدعت إلى الذاكرة الصحفية والسياسية أشهر تصريحات مماثلة لرؤساء وزعماء في التاريخ السياسى الدولى الحديث.. والتى كانت خروجا على قواعد الدبلوماسية وتقاليد الخطاب الرئاسى حتى وإن كان بعضها زلة لسان، ولقد كان الزعيم السوفيتى الأسبق خروشوف هو الأشهر على الإطلاق في الخروج على قواعد الدبلوماسية عندما ضرب بحذائه على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة أثناء ما عُرفت بأزمة خليج الخنازير أيام الحرب الباردة مع الغرب في أوائل ستينيات القرن الماضى.
> > >
أمريكيًا: كان وصف الرئيس الأمريكى الأسبق چورچ بوش الابن الحرب على العراق وغزوه بأنها حرب صليبية جديدة.. نموذجًا بالغ الفجاجة والخروج على قواعد الدبلوماسية باعتباره تأجيجًا لصراع طائفى بين الأديان فى العالم، ولقد ظل تأثير هذا التصريح باقيًا فى الذاكرة العربية رغم محاولة التراجع عنه بأنه كان زلة لسان غير مقصودة.
أما الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، فقد ضرب الرقم القياسى فى الخروج على قواعد الدبلوماسية وتقاليد الخطاب الرئاسى سواء داخليًا من خلال تصريحات العنصرية وخارجيًا من خلال التطاول على الدول والرؤساء والملوك.
<<<
عربيًا: كان الرئيس الليبى السابق معمر القذافى الأسوأ من بين الرؤساء العرب والأشهر خروجًا على قواعد الدبلوماسية من خلال تصريحاته المسيئة والمهينة لغيره من القادة العرب والأجانب والتى بلغت ذروتها فى هجومه على الولايات المتحدة بعبارة بالغة الوقاحة تعد خروجًا أيضًا على الشريعة الإسلامية عندما سبّ الدين لأمريكا على الهواء أمام الكاميرات.
< < <
مصريًا: وحيث مخزون الذكريات الشخصية هو الأكبر بحكم المتابعة الصحفية والاهتمام الكبير بالشأن الوطنى العام.. أتوقف عند تصريحات وعبارات جاءت على لسان الرئيس عبدالناصر.. أولها وأخطرها وعلى النحو الذى أذهلنى لاحقًا إذ لم أكن معاصرها عندما قال فى ذروة انفعاله بعد إطلاق الرصاص عليه وهو يلقى خطابه فى حى المنشية بالاسكندرية.. مخاطبًا الجماهير المحتشدة في الميدان: «اثبتوا يا رجال.. أنا الذى علمتكم العزة والكرامة»!، وهذه العبارة تمثل إهانة للمصريين جميعًا وكأنهم لم تكن لديهم لا عزة ولا كرامة إلا بعد مجىء عبدالناصر للسلطة.
إضافة إلى تلك العبارة التى تعد الأسوأ على الإطلاق، فقد اتسم خطاب عبدالناصر الخارجى بالخروج على قواعد الدبلوماسية والخطاب الرئاسى والذى انطوى علي أوصاف وعبارات مهنية لزعماء وملوك عرب عاصرتها وسمعتها بنفسى، ومن بينها ذكر اسم ملك منسوبًا لأمه وهى إهانة بالغة بحسب الثقافة العربية والإسلامية.
وفي ذروة العداء بين مصر وبريطانيا، وحيث دأبت الإذاعة البريطانية على الهجوم على عبدالناصر وسبه وإلى درجة وصفه بـ«الكلب» جاء رده على هذا السب بقوله في إحدى خطبه: «أنتم كلاب ولاد ستين كلب»، وهى لغة لا تليق بالخطاب الرئاسى، إذ كان الأجدر أن يأتى الرد وهو من حق مصر دفاعًا عن رئيسها من جانب الإعلام المصرى حتى لو قال للبريطانيين ما قاله عبدالناصر.
أما أشهر تصريحات وعبارات عبدالناصر فكان عشية حرب ٥ يونيو ١٩٦٧ عندما تحدث عن نفسه وأن سنه ليست كبيرة إذ لم يبلغ الخمسين بعد ثم أضاف قولته الشهيرة: «وأنا مش خِرع زى مستر إيدن».. الذى كان رئيس وزراء بريطانيا أثناء العدوان الثلاثى، أما لفظ «خرع» فقد حيّر المراسلين الأجانب الذين بحثوا عن ترجمة دقيقة له، ولقد كان هذا التصريح العنترى بقدر ما كان خروجًا على قواعد الدبلوماسية وتقاليد الخطاب الرئاسى بقدر ما كان نذير شؤم على مصر، إذ بعد أيام قليلة وقعت النكسة بتداعياتها الكارثية المستمرة حتى الآن.
< < <
ورغم أن الرئيس السادات لم تصدر عنه كثيرًا عبارات فيها خروج علي تقاليد الخطاب الرئاسى إلا أن الاستثناء كان عند وصفه للقذافي بـ«الولد المجنون»، ومثلها عندما وصف ملك عربى يتسم بقصر القامة بأنه لن يزيد على حجمه.
أما أسوأ زلة لسان للسادات فكانت بعد اعتقالات سبتمبر ١٩٨١ وقبيل اغتياله في حادث المنصة أثناء العرض العسكرى في الاحتفال بذكرى نصر أكتوبر، وذلك عندما وصف إمام مسجد بالإسكندرية كان من بين المعتقلين وكان دائم الهجوم الشخصى على الرئيس وأسرته بأنه «مرمىّ زى الكلب في السجن»، ورغم أن زلة اللسان هذه كانت تعبيرًا عن غضب السادات من الرجل لتعرضه لأسرته، وحيث بدا أن سجنه كان انتقامًا شخصيًا، إلا أن العبارة كانت صادمة للمصريين وقتها بقدر ما كانت نذير شؤم إذ جرى اغتيال السادات بعدها بأسابيع قليلة.
< <<
أما الرئيس مبارك فإنه لم يُذكر له طوال فترة حكمه التي طالت لثلاثين سنة خروجه علي تقاليد الخطاب الرئاسى أو قواعد الدبلوماسية سواء فى خطابه الداخلي أو الخارجى، وإذ لم يُسجّل عليه تفوهه بأى عبارات فيها مساس أو إساءة لأى رئيس دولة عربية أو غير عربية، ولقد كان ذلك مما جعله ينجح فى استعادة العلاقات بين مصر وكافة الدول العربية التى قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع القاهرة بعد معاهدة السلام التى وقعها السادات مع إسرائيل في عام ١٩٧٩، وحيث عادت جامعة الدول العربية إلى القاهرة مقرها المنصوص عليه فى ميثاق تأسيسها عام ١٩٤٥، وحيث عاد منصب الأمين العام إلى مصر بحسب الميثاق أيضًا.
غير أن المرة الوحيدة والتى كانت الأخيرة للرئيس مبارك والاستثناء فى لغة خطابه كانت فى افتتاح الدورة البرلمانية لآخر مجلس شعب تم انتخابه في نوفمبر عام ٢٠١٠ عندما سخر من تشكيل مرشحى أحزاب المعارضة الذين تم إسقاطهم بالتزوير الفج غير المسبوق لما سُمىَّ بـ«البرلمان الموازى» وقال قولته الشهيرة: «خليهم يتسلوا».
ومثلما كانت عبارة عبدالناصر: «أنا مش خرع زى إيدن»، وعبارة السادات «أهو مرمى زى الكلب» نذير شؤم للرئيس، فقد كانت عبارة «خليهم يتسلوا» نذير شؤم أيضًا للرئيس مبارك مثل سابقيه، إذ بعدها بأسابيع اندلعت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ التى أسفرت عن إسقاطه وإسقاط نظامه، ودفعت مصر وشعبها ثمنًا فادحًا لاتزال تداعياته حتى الآن.
< < <
أحسب أن ما سبق ذكره فى هذه السطور من زلات لسان الرؤساء في العالم وخروجهم على قواعد الدبلوماسية وتقاليد الخطاب الرئاسى.. ليست علي سبيل الحصر، ولكنها كانت الأشهر في سجل التاريخ السياسى الدولى المعاصر.