د.محمد فراج يكتب: التطورات السياسية في ليبيا والأمن القومي المصري
أوضحنا بالتفصيل فى مقالنا السابق (الأموال - ١٨-٨-٢٠٢٤) الأهمية الاستراتيجية القصوى لليبيا والعلاقات معها بالنسبة لمصر والانعاكسات السلبية للمساس بالدولة الليبية واستقلالها وسلامة أراضيها أو غياب الأمن والاستقرار فيها على الأمن القومى المصري، وضربنا أمثلة على ذلك بما ترتب على انتشار الفوضى وتغلغل الإرهاب الدولى فى ليبيا من حدوث مذبحتى الفرافرة ضد حرس الحدود المصرية (٢٠١٤) والمذبحة ضد الأقباط المصريين فى سرت (٢٠١٥) وتسلل الإرهابيين وتهريب السلاح والسلع إلى مصر ... إلخ. وأشرنا إلى الجهود الكبيرة التى تم بذلها بالتعاون مع الجيش الوطنى الليبى والسلطات فى شرق البلاد لتطهير منطقة الحدود المصرية - الليبية من الوجود الإرهابى.
إلا أن الأوضاع فى ليبيا - وخاصة فى المنطقة العربية تظل باعثة على القلق ليس لمصر وحدها بل وللبلدان المجاورة كلها، إذ تتفاقم أوضاع الفوضى الأمنية والتناحرات بين الميليشيات الإرهابية والقبلية والمناطقية بصورة مستمرة ولا تكاد تهدأ نسبيًا حتى تشتعل من جديد، بما فى ذلك الاشتباكات بين الميليشيات المتناحرة على النفوذ داخل العاصمة الليبية طرابلس والتى تستخدمها الأطراف السياسية المختلفة فى تحقيق أهدافها وفرض إرادتها
الصراع المسلح حول المصرف المركزى
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما شهدته الشهور الأخيرة من تفجر للخلافات بين رئيس الحكومة المنقضية ولايتها “عبدالحميد الدبيبة” ومحافظ المصرف المركزى الليبى “الصديق الكبير” اللذين كانا حليفين مقربين لفترة طويلة، لدرجة أن محافظ المصرف المركزى لم يكن يقوم بتمويل كل أنشطة ومشروعات الحكومة فحسب، وسواء كانت فى إطار الموازنة العامة وتحظى بموافقة البرلمان أو لم تكن، بل كان يدفع أيضا ومن أموال الشعب الليبى، رواتب الميليشيات الإرهابية والقبلية والمناطقية التابعة للدبيبة! فضلًا عن تمويل مشروعات تكتنفها شبهات فساد واضحة.
إلا أن مبالغة الدبيبة الشديدة في الإنفاق غير المنضبط وغير الخاضع لأى رقابة، وإهدار المال العام فى مشروعات غير مدروسة أو تحوطها شبهات الفساد، هذه المبالغة أثارت مخاوف الصديق الكبير لأنه إذا كان مفوضًا من جانب الأمم المتحدة إلا أنه سوف يأتى يوم يكون فيه عرضة للمحاسبة، لذلك فإنه حينما وجد أن الموازنة العامة تبلغ واحدًا وعشرين (٢١ مليار دولار) لعموم ليبيا بينما يبلغ العجز عدة مليارات لدى حكومة طرابلس وحدها، ومن المتوقع أن يبلغ العجز اثنى عشر مليار دولار هذا العام وحده!! اضطر لإبلاغ صديقه “الدبيبة” برفضه للموافقة على هذا التجاوز الفاضح، فما كان من الدبيبة إلا أن أرسل ميليشياته المسلحة لحصار مبنى المصرف المركزى ومنزل المحافظ!! فاضطر الصديق الكبير للهروب إلى تركيا للاحتماء بها، كما وجه رسالة لرئيس البرلمان عقيلة صالح يبلغه فيها بهذه التجاوزات ويخلى مسئوليته عنها (الشرق الأوسط، ٥ مارس و٦ مارس ٢٠٢٤).
وعلى الفور تلقي محافظ المصرف المركزى دعمًا من البرلمان ومن البعثة الأممية والسفير الأمريكى كما أن الدبيبة تلقى تحذيرا من أصدقائه وحماته الأتراك (وهم أيضا أصدقاء وحماة محافظ المركزى وبينهم وبينه تاريخ طويلا لا يتسع المجال لتناوله هنا).. المهم أن الدبيبة تلقى تحذيرًا بالكف عن العبث المسلح وإشعارًا بأن الصديق الكبير يحظى بدعم أمريكى وأممى، وهكذا عاد محافظ المركزى إلى طرابلس لكنه لم يعد يقيم فيها بصفة دائمة، بل يقضى كثيرا من وقته فى بنغازى ويقدم تقارير إلى البرلمان كما تقضى الأصول الدستورية والقانونية.
إلا أنه منذ عدة أيام فوجئ الرأى العام بقرار من المجلس الرئاسى برئاسة محمد المنفى يقضى بإقالة الصديق الكبير من منصبه وتعيين محافظ جديد وأعضاء لمجلس إدارة المصرف المركزى علما بأن مثل هذا القرار يخرج عن حدود اختصاص المجلس الرئاسى، وهو ما صدر به حكم قضائى عاجل (قنوات تليفزيونية ومواقع إلكترونية عديدة ٢٠/ ٢١/ ٨) كما أصدرت البعثة الأممية بيانًا يؤكد بقاء كل الذين تم تعيينهم أو إعادة تعيينهم كالصديق الكبير بمقتضى اتفاق جنيف يظلون في مواقعهم، وهو ما أعادت القائمة بأعمال رئيس البعثة الأممية "ستيفانى خورى" التأكيد عليه فى إحاطتها أمام مجلس الأمن الدولى (الأربعاء ٢١ /٨).
وهكذا يمكن القول إن الدبيبة قد بدأ يواجه مرحلة من التضييق المالى عليه وتقليص فرصته فى إهدار المال العام على مشروعاته غير الخاضعة للرقابة، والمشبوهة بالفساد وربما كان الأمر الأهم هو تضييق فرصته فى شراء الولاءات والميليشيات التى تكلف رواتبها أموالًا طائلة، والمؤكد أن من شأن هذا كله إضعاف نفوذه السياسى وتقليص قدرته على ممارسة العنف ضد خصومه، وهو الأسلوب الذى تعود عليه طويلًا.
إعادة اصطفاف التحالفات
ضربة قوية أخرى تلقاها الدبيبة والجناح الأكثر تشددًا فى جماعة الإخوان المتحالف معه، هو نجاح خالد المشرى زعيم الجناح الأقل تشددًا من الإخوان فى استعادة منصب رئاسة المجلس الأعلى للدولة من “محمد تكالة” الزعيم الإخوانى المتشدد المتحالف مع الدبيبة، والأقل استعدادًا للحوار والتصالح مع “الشرق” والبرلمان بقيادة عقيلة صالح والجيش الوطنى بقيادة حفتر، وهذا المجلس الأعلى للدولة هو مجلس غير منتخب شعبيًا لكن الضغوط الغربية والأممية وتنازلات زعماء الشرق نجحت في فرض وضع استشارى له يجعل موافقته إلزامية فى عدد من أمور الحكم والتشريع بما في ذلك تعديل الدستور، والمهم هنا هو أن الدبيبة حاول إبقاء محمد تكالة رئيسا لهذا المجلس لكنه فشل فى هذا، وبغض النظر عن فاعلية آلية البرلمان -مجلس الدولة- فإن تحالفات الدبيبة أصبحت أضيق مما كانت عليه طوال الأعوام السابقة، أما تحال المجلس الرئاسى معه فهو أمر قليل الأهمية نظرا لمحدودية صلاحيات “الرئاسى” وعدم امتلاكه لقوة تنفيذية فعلية، أو ميليشيا قادرة على مواجهة الميليشيات الأخرى الكثيرة والقوية.
لكن المؤكد أن فقدان الدبيبة لحليفه الأهم الصديق الكبير محافظ المصرف المركزى والمتمتع بصلاحيات إنفاق أموال الدولة الليبية هى الخسارة الأكبر التى أصابت الدبيبة وهى أيضا الخسارة التى تشير إلى أن القوى الغربية والبعثة الأمية فى ليبيا قد بدأت تضيق ذرعا به بسبب عدم انضباطه المالى وشبهات الفساد التى تحيط بمشروعاته وصفقاته.
ولعل هذا هو ما يفسر عصبية الدبيبة الزائدة تجاه استقبال مصر لرئيس الوزراء المعترف به من جانب البرلمان د. أسامة حماد وافتعال أزمة مع القاهرة حول الشرعية خاصة بعد أن اتخذ البرلمان الليبى قرارًا بعزله بدلًا من سحب الثقة منه فقط وتعيين الدكتور حماد رئيسًا لوزراء عموم ليبيا فى ١٣ أغسطس الماضى، وكما أشرنا فى مقالنا السابق “الأموال ١٨/ ٨/ ٢٠٢٤” فإن القاهرة تتعامل بهدوء مع عصبية الدبيبة ولا تعطيه الفرصة للتصعيد حرصًا على حسن العلاقات مع الشعب الليبى الشقيق وهذا هو الموقف الصحيح، غير أن هذا الموقف الصحيح لا يعنى بالطبع أننا يمكن أن نهدر فرصا لتطوير التعاون الاقتصادى مع الشرق الليبى، أو المشاركة فى إعادة إعمار درنة أو أى فرص استثمارية أخرى للشركات المصرية أو أى إمكانية لتطوير التعاون السياسى والعسكرى لأن هذا لا يروق للدبيبة أو لغيره مادام هذا التعاون يتم برغبة ممثلى الشعب الليبى الشقيق.
الإرهاب فى الجنوب الغربى
مسألة أخرى تثير غضب الدبيبة وحلفائه في الغرب، تلك هى قرار المشير حفتر قائد الجيش الوطنى الليبى بتوجيه قواته إلى منطقة الجنوب الغربى “ولاية فزان” ضد المثلث الحدودى بين ليبيا والنيجر والجزائر وذلك لمواجهة النشاط الإرهابى المتنامى فى تلك المنطقة، وعمليات تسلل المهاجرين الاقتصاديين إلى ليبيا قاصدين أوروبا كمحطة نهائية.
الحدود الطويلة بين الدول في هذه المناطق الصحراوية الشاسعة مع ضعف أجهزة الدولة والجيوش وقوات الأمن فى دول منطقة الساحل والصحراء وقلة عددها وعدتها تجعل من المنطقة معبرا سهلا أشبه بالثقب الأسود لعبور الإرهابيين الذين يتجولون فى المنطقة وصولًا إلى نيجيريا جنوبا، ولا شك أن سد هذه الثغرة يمثل حماية لليبيا، ويقيم حاجزا بين حركة الإرهاب في مناطق الصحراء الكبرى الشاسعة وبين ليبيا وعبرها إلى جنوب شرقى الجزائر وجنوبى تونس، وكذلك عبرها إلى مصر شرقا وإلى أوروبا شمالا وخاصة بالنسبة للهجرة الاقتصادية ومن هذه الزاوية فإن سد الثغرة الواقعة جنوب غربى ليبيا هو خطوة إيجابية سبقتها خطوات أخرى لحماية حدود جنوبي ليبيا الشرقي مع تشاد مما ساعد علي الحد من تحركات الإرهابيين والهجرة غير الشرعية.
ومع ذلك فإن ما إن بدأت قوات الجيش الوطنى الليبي في التحرك باتجاه الجنوب الغربي حتى سارعت الميليشيات الموالية للدبيبة وقواته النظامية لإعلان التعبئة العامة رافضة لخطوة الجيش الليبى وهو ما يرفع درجة التوتر فى منطقة الجنوب الغربي ويهدد بنشوب اشتباكات واسعة وهذا تطور إذا حدث فلن يكون في صالح أمن ليبيا ولا وحدتها، ولا حماية هذه المنطقة الحساسة من الإرهاب، بل على العكس سيكون الإرهاب هو المستفيد الأول من حالة الفوضى التي تمثل خطرًا على الأمن والاستقرار في الشمال الأفريقى كله وتمتد آثاره إلى أوروبا.