د.محمد فراج يكتب : هل يفقد الدولار عرشه ؟ (٢ – ٢
تحدثنا فى الجزء الأول من هذا المقال (الأموال - ١٦ أبريل ٢٠٢٣) عن الظروف التاريخية التى أدت إلى صعود وهيمنة الدولار على المعاملات المالية الدولية والتجارة العالمية، ثم عن المتغيرات التى أدت إلى تراجع الوزن النسبى للاقتصاد الأمريكى فى الاقتصاد العالمى، والتحديات التى تُواجه الهيمنة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وفى مقدمتها صعود الصين والأسواق الناشئة واستعادة روسيا للجزء الأكبر من مكانتها وقوتها العسكرية والاقتصادية، وبروز تكتلات كـ"البريكس" واتجاه الصين وبعض دول المجموعة وشركائها التجاريين لتبادل أجزاء مزايدة من تجارتها بالعملات الوطنية، وارتباط ذلك بتزايد النزعات الحمائية والعدائية فى علاقات الولايات المتحدة حتى بحلفائها، ولجوء واشنطن إلى فرض شتى أنواع العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأحادية على الدول التى تعتبرها واشنطن (مارقة) أو مناوئة لسياستها، بل وأحيانًا على شركائها التجاريين التقليديين، وتجميد أرصدة واستثمارات هذه الدول، كما حدث مع إيران وفنزويلا وغيرهما فى مراحل سابقة، وما حدث مع روسيا بعد تفجر الأزمة الأوكرانية.
وهكذا بدأ يظهر فى السنوات الأخيرة اتجاه متزايد القوة للتخلص من هيمنة الدولار على المستوى العالمى، باعتباره أحد أهم سبل مواجهة الهيمنة الأمريكية، ومن أهم مظاهر هذا التوجه سعى عدد من الدول ـ فى مقدمتها الصين وروسيا - لتقليص الفرق النسبى للدولار ضمن الاحتياطيات الدولية للبلد المعني، وتنويع مكونات الاحتياطى باستخدام عملات دولية أُخرى كـ"اليورو والاسترلينى، والين الياباني، واليوان الصينى" والتوسع فى شراء البنوك المركزية للذهب، كما فى حالة الصين وروسيا، وكذلك التوسع فى التبادل التجارى باستخدام العملات الوطنية.
<<<
وهكذا رأينا مثلا أن نصيب الدولار فى مكونات احتياطيات النقد الدولية قد تراجع من حوالى (٧٠٪- سبعين فى المائة فى بداية القرن الحالى) إلى (٥٩.٢٪) في الربع الثالث من عام ٢٠٢٢، ثم إلى (٥٨.٨٪) بنهاية عام ٢٠٢٢ (الاندبندنت عربية، ٢٢ أبريل).. ونُلاحظ هنا ليس تراجع المكوّن الدولارى فى الاحتياطيات الدولية بنسبة ١١٪ خلال ٢٠ عامًا فحسب، بل تراجعه بنسبة نصف فى المائة خلال ربع واحد فقط من السنة فى نهاية عام ٢٠٢٢، وهو اتجاه متسارع ومرشح للتزايد خاصة إذا وضعنا فى اعتبارنا أن رصيد الصين مثلا من سندات الخزانة الأمريكية قد انخفض من أكثر من تريليون وثلاثمائة مليار دولار إلى أقل من تريليون دولار بنهاية العام الماضى، وأن نصيب دولة مثل روسيا انخفض حوالى (١٣٠ مليار دولار) إلى أقل من (٣٠ مليار دولار) من هذه السندات بنهاية العام الماضى، وأن دولاً عديدة بدأت فى التخلص تدريجيًا من استثماراتها فى سندات الخزانة الأمريكية وخاصة بعد الإجراءات التى اتخذتها الولايات المتحدة ضد الاستثمارات والأرصدة الروسية.
تراجع الدولار فى التبادل التجارى
أما بالنسبة لاستخدام الدولار فى التبادل التجارى العالمى، فتُشير مجلة (ناشيونال انتريست) الأمريكية النافذة إلى أنه كان يبلغ ٨٨٪ فى أواخر عام ٢٠١٩ (ناشيونال انترست - أكتتوبر ٢٠١٩)، لكنه انخفض بنهاية عام ٢٠٢٢ إلى (٨٤.٣٪) حسبما يُشير جوزيف سوليفان، أحد خبراء مجلس المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض، فى مقال له بمجلة «فورين بوليسي» مؤخرًا.. أى بنقص يقترب من ٤٪ خلال ثلاث سنوات فقط (صدى البلد - ٢٥/ ٤ / ٢٠٢٣ نقلا عن الفورين بوليسي).
ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذه الوتيرة السريعة لتراجع نسبة الدولار سواء فى الاحتياطيات الدولية، أو فى التبادل التجارى الدولى، ليست إلاّ مجرد مؤشر لما سيحدث خلال السنوات القادمة، وواضح أن الوتيرة ستزداد سرعتها. وبوضع خاص من الصين التى وجهت أول ضربة كبيرة للدولار بتأسيس «بورصة شنغهاى للنفط» عام ٢٠١٩ لشراء وبيع البترول باليوان، وصحيح أن سعر البترول يتم تقويمه بالدولار حتى الآن، إلاّ أن الصين هى أكبر مُستهلك للبترول فى العالم، وشراء جزء من احتياطياتها باليوان، يمثل سابقة مهمة، ويفتح الباب لدخول اليوان كعملة فى تجارة البترول.
وجدير بالذكر أن الصين تجرى مفاوضات مع كل من السعودية والإمارات حول إمكانية شراء البترول باليوان، الأمر الذي من شأنه أن يوجه ضربة قوية فعلا للدولار. ومن ناحية أخرى فإن التبادل التجارى بين الصين وروسيا قد تمت تسوية جزء كبير من مدفوعاته باليوان والروبل عام ٢٠٢١ ــ ١٤٧ مليار دولار)، بينما شهد عام ٢٠٢٢ طفرة فى التبادل التجارى بين البلدين، إذ بلغ ١٩٠ مليار دولار بنسبة ٣٠٪ تقريبًا يمثل التبادل باليوان والروبل جزءا متزايداً منها، وخاصة فيما يتصل بمدفوعات الصين مقابل البترول والغاز الروسيين، وقد اتفقت شركتا "غاز بروم" الروسية وشركة "سى إن بى سى" الصينية على تحويل مدفوعات الغاز الروسى عبر خطة «قوة سيبريا» إلى اليوان والروبل (RT - ٧ مارس ٢٠٢٣) وذلك بالإضافة إلى أجزاء متزايدة من المبادلات التجارية الأخرى اتفق البلدان على أن تكون مدفوعاتها باليوان والروبل كما هو معروف.
وتُشير صحيفة «الاندبندنت» نقلا عن مصادر دولية وصينية وندية إلى أن (ثلث) المدفوعات بين الصين وروسيا قد تمت تسويتها باليوان والروبل عام ٢٠٢١، وأكثر من نصف المدفوعات بين روسيا والهند (٢٠٢١) قد تم تسويتها بالروبل الروسى والروبية الهندية (الاندبندنت عربية - ٢٢/ ٤)، بينما أعلن وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف أن نصف التجارة المتبادلة بين روسيا والصين فى يناير ٢٠٢٣ وأن نصف التبادل التجارى بين البلدين (٢٠٢٢) قد تم بالعملات الوطنية، بعيدًا عن الدولار، وأن حصتها تنمو بسرعة (صدى البلد - ١٨ يناير ٢٠٢٣).
<<<
ومن ناحية أخرى فقد أعلنت كل من الصين والبرازيل الاتفاق على أن تتحول التجارة المتبادلة بينهما (١٢٠ مليار دولار عام ٢٠٢٢) إلى التبادل بالعملات الوطنية، وتم الاتفاق أثناء زيارة الرئيس البرازيلى لولا دا سيلفا إلى الصين (BBC- ٣/ ٤/ ٢٠٢٣) وهو ما يُمثل ضربة قوية أخرى لمكانة الدولار فى التجارة العالمية، كما دعا الرئيس البرازيلى إلى إصدار عملة موحدة لدول (البريكس)، وهو ما نعتقد أنها دعوة سابقة لأوانها، ولا تتوافر الشروط الضرورية لتحقيقها فى الوقت الراهن، أو حتى فى المستقبل القريب بسبب التباين الواضح فى الظروف الاقتصادية لدول البريكس، بالرغم من تقاربها السياسى والنمو المتسارع للعلاقات التجارية والاقتصادية بينها، والأقرب إلى الواقعية هو توسيع نطاق التبادل التجارى بين هذه الدول بالعملات الوطنية، وتسريع هذه العملية، علمًا بأن الناتج المحلى الإجمالى لدول البريكس هو حوالى ربع الناتج المحلى الإجمالى العالمى.
كما يجرى الحديث عن إصدار عملة موحدة لدول أمريكا الجنوبية الثلاث (البرازيل والأرجنتين وفنزويلا) ورأينا أنه أيضًا حديث لم تتضح شروطه بعد، ومطلوب أن تسبقه خطوات كثيرة من تعزيز التبادل التجارى، وإزالة الحواجز الجمركية (إقامة مناطق تجارة حرة) وتوحيد القوانين الاقتصادية.. إلخ، وهو ما ينطبق أيضًا على إمكانية إصدار عملة موحدة لمجموعة "البريكس".
التفكير الواقعى
ويظل الهدف الأقرب إلى الواقعية هو توسيع نطاق وتسريع وتيرة التبادل بالعملات الوطنية بين دول (البريكس) فيما بينها، ومع شركائها التجاريين مثل مصر وتركيا وإيران وفنزويلا وفيتنام، وغيرها.. وهو ما نرى مظاهر كثيرة له فى الوقت الراهن، وما يقلل بصورة مستمرة من هيمنة الدولار على الأسواق العالمية، ويسرِّع من وتيرة تقليص هذه الهيمنة، وبالتالي يُسمح بالحديث عن الإطاحة بالدولار عن عرض العملات الدولية خلال عقد أو عقدين من الزمان، ليصبح إحدى العملات الرئيسية القوية فى العالم، ولكن ليس العملة المهيمنة كما هى الحال الآن.. وبمعنى آخر لكى تتحقق تعددية القطبية المالية الدولية، أسوة بتحقق تعددية القطبية فى مجمل العلاقات الدولية.. وبهذا المعنى تحديدًا يُمكن الحديث عن فقدان الدولار لعرشه تدريجيًا.. ولكن ليس بالسرعة التى يتوقعها البعض بدافع التفكير بالتمنى.. وبعيدًا عن علاقات القوى الواقعية.