د. محمد فراج يكتب : مطلوب «مشروع مارشال عربى» لإعادة إعمار سوريا
تقريران فى غاية الأهمية صدرا عن البنك الدولى مؤخرًا حول خسائر الزلزال المدمر الذى ضرب تركيا وسوريا يوم ٦ فبراير الماضى، أولهما صدر يوم ٢٧ فبراير ويتحدث عن خسائر الزلزال في تركيا، والتى يُقدِّرها مبدئيا بـ٣٤.٢ مليار دولار تمثل أربعة في المائة (٤٪) من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد عام ٢٠٢١ والبالغ (٨٥٠ مليار دولار/ ثمانمائة وخمسين مليار دولار) يضاف إليها تباطؤ النمو الاقتصادي للعام الجارى، والذى يمكن أن يصل إلى ١٪ أو حتى ٢٪ من إجمالى النمو المتوقع الذى كانت نسبته تصل إلى ٣.٥٪، كما يذكر التقرير أن تكلفة إعادة الإعمار يمكن أن تصل إلى مائة مليار دولار (منشورات البنك الدولي - وصحف ومواقع إلكترونية، ٣/ ٣/ ٢٠٢٣).
وكان البنك قد أصدر بيانا فى (٩/٢) أى بعد الزلزال بثلاثة أيام ذكر فيه أنه قد تم اعتماد مساعدة فورية لتركيا تبلغ قيمتها ٧٨٠ مليون دولار لدعم أعمال الإغاثة، وأن البنك سيتخذ الإجراءات اللازمة لتدبير مساعدات قدرها مليار دولار بصفة عاجلة لدعم عمليات إعادة الإعمار.
مقارنة صادمة
أما التقرير الثانى المهم عن خسائر الزلزال في سوريا فقد صدر فى ٣ مارس الجارى، ويذكر أن الخسائر تبلغ ٥.١ مليار دولار (خمسة وواحد من عشرة مليار) يقول التقرير إنها تُمثل (عشرة فى المائة / ١٠٪) من الناتج المحلى الإجمالى لسوريا، وهنا لابد أن نتوقف لنقول إن البنك نفسه قد حدَّد قيمة الناتج المحلى الإجمالى لسوريا عام ٢٠١٠ (السابق مباشرة على الحرب الإرهابية الدولية ضدها) بسبعة وخمسين مليار دولار (٥٧ مليار دولار)، لكن التدمير الشامل الناتج عن الحرب الإرهابية الدولية ضد سوريا جعل الناتج المحلى الإجمالى لسوريا يتراجع إلى حوالى الربع!! أى (١٥.٥ مليار دولار) - خمسة عشر مليارا ونصف المليار دولار عام ٢٠٢٢، حسب توقعات البنك فى ربيع نفس العام (البنك الدولى- مرصد الاقتصاد السورى، ٢٢ يونيو ٢٠٢٢)، وذلك بعد تراجع الناتج المحلى السورى بنسب نمو سلبى هائلة بلغت ٦٪ عام ٢٠١١ - و١٤٪ عام ٢٠٢١ - وهكذا (حسب تقرير البنك الدولي لعام ٢٠٢٠) ليبلغ ١٥.٢ مليار دولار فقط!! بسبب الحرب الإرهابية المدمرة على البلاد والتى شارك فيها أكثر من ١٠٠/ مائة ألف إرهابى من مختلف دول العالم، فضلا عن السوريين الذين جندتهم «داعش» و«النُصرة» وغيرهما من المنظمات الإرهابية، وكذلك بسبب العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية الخانقة على سوريا، وحالة الحصار الاقتصادى التى فرضها «قانون قيصر» الأمريكى الذى كانت عقوباته تمتد إلى أى مؤسسة أو شركة من أى بلد تتعامل مع سوريا، ونتج عن الحرب الإرهابية الدولية والحصار الاقتصادى الأمريكى والغربى القاسى انهيار شامل للاقتصاد السورى، بحيث أصبح أكثر من (٩٠٪ - نكرِّر: تسعين بالمائة) من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر (راجع المزيد من التفاصيل الموثقة فى مقالين سابقين للكاتب - «الأموال» - ١٢ فبراير و١٩ فبراير ٢٠٢٣).
وبناءً على ما سبق - وعلى أرقام البنك الدولى نفسها - فإن خسائر سوريا من الزلزال البالغة خمسة مليارات ومائة مليون دولار تُمثل (ثلث الناتج المحلى الإجمالى) السورى، وليس ١٠٪ منه كما ذكر التقرير الأخير، علمًا بأن التقرير يعود ويذكر أنه توجد درجة عالية من عدم اليقين فيما يتعلق بعدد من عناصره، بما يجعل أرقام الخسائر يُمكن أن تقفز إلى ٧.٩ مليار دولار.. أى حوالى ثمانية مليارات دولار! وكل هذه الأرقام يجب نسبتها إلي ناتج محلي إجمالى قدره (١٢.٢ مليار دولار) حسب تقرير البنك لعام ٢٠٢٢.
تمييز حتى في الموت!
وبالرغم من كل هذه الأرقام والأوضاع الكارثية فإن المساعدات الغربية تدفقت فورًا على تركيا، ومع التسليم بأن كارثة تركيا أكبر فإن قدرتها على المواجهة أكبر بما لا يُقاس من قدرة سوريا ذات الاقتصاد المنهار. ويكفي أن نعيد التذكير بأن الناتج المحلى التركى (٨٥٠ مليار دولار) أكبر من نظيره السورى بأكثر من خمسين مرة، وأن تركيا دولة ذات اقتصاد مزدهر ينمو في أوضاع طبيعية، بينما سوريا تعيش منذ ما قبل الزلزال فى أوضاع كارثية أصلا، وأنها تعانى من نقص شديد الفداحة فى معدات رفع الأنقاض، لدرجة أن جهود انتشال الضحايا كانت تتم بمعدات بدائية في كثير من الأماكن، وتحدثت السلطات السورية عن الآلاف من المفقودين الذين يمكن استنتاج أنهم لقوا حتفهم تحت الأنقاض بسبب قصور إمكانات الإنقاذ، وسيتم اكتشاف جثث الكثيرين منهم عند اكتمال عمليات رفع الأنقاض! وكل ذنب الشعب السورى أن الحكومات الغربية ـ وبعض الحكومات العربية - غير الراضية عن سياسة حكومته!
مهزلة سوداء أخرى شهدتها سوريا وكشف عنها تقرير البنك الدولى، ذلك أن النسبة الكبرى من الخسائر (انهيار البيوت والمنشآت ومرافق البنية التحتية) كان فى حلب (٤٦٪- ستة وأربعون فى المائة)، بينما بلغت الخسائر ٣٧٪ فى إدلب و١١٪ في اللاذقية، وتوزعت بقية الخسائر بين حماة وشرق الفرات، ومع ذلك فإن المساعدات الدولية والغربية تدفقت بصفة أساسية على محافظة إدلب (شمال غرب سوريا) التي يحتلها الجيش التركى، وتتجمع فيها وتسيطر عليها عسكريًا، تحت إشراف تركيا، فصائل الإرهابيين من «داعش» و«النُصرة» والشيشان والتركستانيين وغيرهم من الإرهابيين الأجانب الذين هزمهم الجيش السورى وأجبرهم على الانسحاب من بقية مناطق البلاد، بينما تمتنع الدول الغربية والمنظمات الدولية عن تقديم المساعدات للمناطق التى تسيطر عليها الحكومة السورية! مع أنها أكثر المناطق تعرضًا للخسائر (حلب ٤٥٪ + اللاذقية ١١٪) وأكثرها في عدد الضحايا والمصابين! والمساعدات التى تصل إلي حلب واللاذقية هى أساسًا تلك التى ترسلها البلاد العربية والصديقة لسوريا، وهى مساعدات مشكورة وبالغة الأهمية بالطبع، لكن لا يمكن مقارنتها بالمساعدات الغربية والدولية التى تصل إلى تركيا، وهى أقل حتى مما يصل إلى إدلب.. علمًا بأن أغلب الدول العربية ترسل مساعدات إلى تركيا وإدلب أيضًا.
كارثة أكبر من الزلزال!
والحقيقة أنه بالرغم من هول كارثة الزلزال فى سوريا، فإن الدمار الذي ألحقته الحرب الإرهابية الدولية، وما صاحبها من عقوبات قاسية وحصار اقتصادى شامل، كل ذلك ألحق بالبلاد خسائر أكبر بكثير من خسائر الزلزال. وقدَّر البنك الدولى نفسه فى تقرير له سنة ٢٠٢٠ أن خسائر سوريا بسبب الحرب والعقوبات الدولية قد بلغت ٤٤٢ مليار دولار (أربعمائة واثنين وأربعين مليار دولار)، كما أشارت منظمة دول غرب آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة فى تقرير لها عام ٢٠٢٠ إلى أن تكلفة إعادة إعمار سوريا تبلغ ٤٥٠ مليار دولار.. يجب أن تضاف إليها تكلفة إعادة إعمار ما دمره الزلزال.. تكلفة إسكان اللاجئين السوريين فى تركيا ولبنان والأردن والعراق المطلوب عودتهم إلى وطنهم بعد أن شردتهم الحرب لسنوات طويلة.
مشروع «مارشال» عربى لإنقاذ سوريا
ولسنا بصدد إهاجة الجراح القديمة، لكن استمرار الأوضاع الكارثية التى يواجهها الشعب السورى يمثل بدون أدنى شك سُبة فى جبين الحضارة الإنسانية، وفى جبين العرب قبل الجميع. ومعروف تمامًا من الذين حولوا الحرب على سوريا، لكن ما يعنينا هو أنه قد آن الأوان لوضع حد لهذه المأساة التى طالت شعبًا عربيًا عريقًا صاحب حضارة عظيمة ضاربة الجذور فى التاريخ. فالكارثة التى عانى منها السوريون منذ عام ٢٠١١ هى بدون أدنى شك أوسع وأقسى من كارثة الزلزال الأخير، وقد آن الأوان لعودة سوريا إلى مقعدها فى جامعة الدول العربية، والبدء بمشروع عربى جماعى لإعادة إعمار سوريا، تقوم بالدور الأكبر فى تمويله الدول البترولية، باستثمارات من فوائضها التى تتعرض لشتى المخاطر فى بنوك وأسواق أمريكا والدول الغربية الكبرى.. مشروع تتضافر فيه الجهود العربية مع جهود الدول الصديقة كالصين وروسيا، ويكون من أولوياته أيضًا ممارسة الضغوط من أجل إنهاء العقوبات الأمريكية والغربية ضد الشعب السوري، وفى مقدمتها «قانون قيصر» واستخدام المصالح المشتركة مع تركيا لحملها على الانسحاب من سوريا وإنهاء الوجود الإرهابى فى إدلب وشرق الفرات، واحترام حقوق سوريا (والعراق) فى مياه نهرى الفرات ودجلة، وكذلك ممارسة ضغط على الولايات المتحدة للكف عن سرقة بترول وغاز سوريا، وسحب القوات الأمريكية من أراضيها.
والحقيقة أن الظروف الدولية والإقليمية مواتية لتحقيق هذه الأهداف التي قد تبدو طموحة، لكنها ممكنة.
لكن نقطة البدء لابد أن تكون لتطبيع العلاقات العربية مع سوريا وعودتها للجامعة العربية، والبدء فى توجيه المساعدات والاستثمارات إليها للتخفيف من أزمتها الاقتصادية الطاحنة.. ويعرف الجميع أن الشعب السورى شعب مشغول مُحب للكفاح وطموح وخلاق، وأن عجلة إعادة الإعمار ما أن تبدأ فى الدوران، فإن النتائج ستكون مبهرة وستحقق الاستثمارات أرباحا ممتازة.
ولا تنسوا أبدًا أن سوريا هي البوابة الشمالية للأمن القومى العربى، وللنظام الإقليمى العربى الذى يجب ترميمه وإحياؤه، خاصة فى هذه الظروف التي يمور فيها العالم بالمتغيرات، وتجرى إعادة رسم خرائطه.