د. محمد فراج يكتب : معركة الديمقراطيين ضد ترامب
.. «الفضيحة الأوكرانية» هى آخر أخبار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.. ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسى أصدرت قرارًا بفتح تحقيق رسمى في الفضيحة التى تتلخص فى اتهام ترامب بالضغط على الرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى لإعادة فتح التحقيق في قضية كان متهمًا فيها ابن «جو بايدن» نائب الرئيس السابق باراك أوباما، وأبرز مرشحى الحزب الديمقراطى لمنافسة ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ويمثل هذا الضغط إساءة استغلال لمنصبه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة للتأثير على الانتخابات القادمة لمصلحته «ترامب» وضد «بايدن»، بطريقة غير قانونية، الأمر الذى يعد انتهاكًا للدستور.. وإذا ثبتت إدانة ترامب بهذه التهمة في مجلس النواب فإن من حق المجلس أن يرفع القضية إلى مجلس الشيوخ، مطالباً الأخير بعزل ترامب.
وهكذا.. لم يكد دونالد ترامب يخرج بصعوبة شديدة من مشكلة اتهامه بالتواطؤ مع روسيا للتأثير على الانتخابات الرئاسية لإسقاط منافسته هيلارى كلينتون، إلا ليقع فى مشكلة أكبر بالتأكيد هى اتهامه بانتهاك الدستور ومحاولة التأثير على الانتخابات القادمة.
المثير حقًا هو أن الجمهوريين (حزب ترامب) كانوا قد سرَّبوا تقارير عن ضغوط مارسها بايدن نفسه على الرئيس الأوكرانى السابق «بوروشينكو» لإغلاق التحقيق في قضية اتهام نجل بايدن بالفساد في سياق نشاط شركته في أوكرانيا..
وأشارت التقارير إلى أن نائب الرئيس الأمريكى (وقتها) مارس ضغوطًا على الرئيس الأوكرانى، بل ومارس الابتزاز، بربطه بين إغلاق التحقيق في القضية ووصول مساعدات عسكرية أمريكية بمئات الملايين من الدولارات إلى أوكرانيا!! وكان واضحًا أن الجمهوريين ينوون استخدام هذه الورقة ضد بايدن فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، بالإضافة إلى اتهامات شخصية أخرى بالتحرش!! وفجأة.. انفجرت فضيحة ترامب..
فقد سرَّب أحد ضباط الأمن القومى نص تسجيل لمحادثة تليفونية بين ترامب وزيلينسكى إلى جريدة «نيويورك تايمز» التى سارعت إلى نشرها..
ومعروف أن مكالمات الرؤساء وكبار المسئولين الأمريكيين (والغربيين) يتم تسجيلها والاحتفاظ بها وتفريغها، بعد مراجعة أجهزة المخابرات لها.. كنوع من أنواع الرقابة على هؤلاء المسئولين.
وقد أجرى ترامب هذه المكالمة مع الرئيس الأوكرانى فى شهر يوليو الماضى (بعد أسابيع من انتخابه) وفيها يطلب بوضوح إعادة فتح التحقيق في قضية نجل بايدن.. ويقول: «هناك حديث مكثف حول نجل بايدن، وحول أن بايدن (الأب) أوقف الملاحقة القضائية فى (أوكرانيا) وكثير من الناس يريدون كشف الحقيقة..
وإذا كان بإمكانك فعل أى شىء فى هذا السياق بالتعاون مع النائب العام الأمريكى، وهذا سيكون أمرًا ممتازًا (الأهرام - 26 سبتمبر 2019 ـ ص7، نقلا عن وسائل الإعلام الأمريكية) ويرد زيلينسكى على ترامب مؤكدًا أن النائب العام الأوكرانى الجديد سيكون تابعًا له بنسبة (100٪)..
«وسنعمل على التحقيق فى هذه القضية»!! وفى جزء آخر من الحوار يتهم ترامب الأوروبيين وخاصة ألمانيا وفرنسا بعدم تقديم الدعم الكافي لأوكرانيا (السياسى والمالى)..
ويرد زيلينسكى: «أنا متفق معك ألف بالمائة» ـ (روسيا اليوم - 26 سبتمبر 2015).. وإذن فإن أيضًا حديث يتصل «بالدعم» إذا أظهر زيلينسكى استعدادًا طيبًا لتنفيذ ما يطلبه ترامب! وهذا ما أثار انتقادات بالغة الحدة ضد زيلينسكى في أوكرانيا حينما تم الكشف عن مضمون محادثته التليفونية مع ترامب (RT.. 26/9/2019).
ترامب كان قد أدلى بتصريح حول أوكرانيا ـ قبل فوز زيلينسكى بالرئاسة ـ قال فيه بالنص «الجميع هناك فاسدون»..
ومعروف أن أوكرانيا من أكثر الدول فسادًا فى العالم.. وأن عمليات الخصخصة هناك سيطر عليها فساد كبير.. كما أن إدارة الدولة تحيط بها اتهامات واسعة بالفساد.. وبالرغم من أن زيلينسكى خاض معركته الانتخابية تحت شعار «مكافحة الفساد» ـ مع أن الدعم المالى والإعلامى الرئيسى لحملته الانتخابية جاء من جانب أحد أباطرة وملياديرات الخصخصة.. كولومويسكى! ــ تقول.. بالرغم من ذلك فإنه يتحدث عن نائب عام تابع له «بنسبة 100٪»!! ويتحدث بثقة عن إعادة فتح التحقيق بناء على طلب ترامب..
والحقيقة أنه ليس هناك مفاجأة فى «الفساد الأوكرانى». المفاجأة الحقيقية هى «الفساد الأمريكى» وعلى مستوى قمة السلطة..
نائب الرئيس السابق (بايدن) الذى يمارس الابتزاز بالمساعات، وترامب الذى يلوّح أيضا بالمساعدات لإعادة التحقيق فى قضية تهمه شخصيًا، وترتبط بمعركته الانتخابية!! وما خفى كان أعظم!! وإذا عدنا إلى التحقيق الرسمى الذى تقرر فتحه فى مجلس النواب الأمريكى، فلابد من الإقرار بأن ترامب يواجه مشكلة جدية للغاية، بغض النظر عن محاولاته للتقليل من شأنها..
وكما ذكرنا سابقًا فإن صلاحية مجلس النواب هى التحقيق فى القضية.. لكن مجلس الشيوخ هو الذى يقوم بدور (المحكمة).. وهو الذى يفصل فيما إذا كان ينبغى عزل الرئيس أم لا؟ وتكمن المعضلة فى أن الديمقراطيين يسيطرون على الأغلبية فى مجلس النواب..
وبالتالى فإن المرجح ـ بل شبه المؤكد ـ هو أن يصدر المجلس قرارًا بإدانة ترامب والمطالبة بعزله.. لكن الجمهوريين (حزب ترامب) يملكون الأغلبية فى مجلس الشيوخ.. كما أن عزل الرئيس ـ باعتباره إجراء بالغ الأهمية ـ يحتاج إلى أغلبية ثلثى الأعضاء (76 من مائة سيناتور)..
ومن الواضح أن الحصول على مثل هذه الأغلبية لصالح قرار بعزل ترامب هو أمر مستحيل عمليًا.. فحتى لو كان (ضمير) بعض النواب مطمئنًا لإدانة ترامب، إلا أن عزله فى مثل هذه الظروف (وقبيل انتخابات الرئاسة والتجديد النصفى للكونجرس فى نوفمبر 2020) يعنى كارثة كبرى للحزب الجمهورى، وهزيمة انتخابية ساحقة فى انتخابات الرئاسة ـ أيًا ما كان المرشح الجمهورى ـ وكذلك فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس وحكام الولايات. هناك سيناريو ثان يتمثل في إفلات ترامب من العزل مع عدم ترشيح الجمهوريين له فى انتخابات 2020..
لكن مشكلة هذا السيناريو وتكمن فى أن القاعدة هى أن الرئيس يكون تلقائيًا هو مرشح الحزب الذى ينتمى إليه.. والمؤكد أن ترامب بشخصيته العنيدة والمقاتلة، لن يتخلى عن ترشيح الحزب له.. كما أن عدم ترشيح الجمهوريين لترامب ـ بفرض حدوثه ـ سيتضمن إقرارًا بفساده وعدم صلاحيته، ومن شأن هذا أن يؤثر سلبًا على فرصة الجمهوريين فى انتخابات الرئاسة والتجديد النصفى على السواء. السيناريو الثالث هو أن الديمقراطيين يعرفون كل ما ذكرناه جيدًا.. وهذا مؤكد.. لكنهم يقومون بمناورة سياسية كبرى، لإضعاف ترامب والحزب الجمهورى..
وأنهم يسعون إلى وضع ترامب «على صفيح ساخن» ليس بمناقشة «الفضيحة الأوكرانية» وحدها ـ ونعتقد أنها ستحمل فى المستقبل القريب اسم «أوكرانيا جيت» على غرار فضيحة «ووتر جيت» الشهيرة..
بل سيلجأون إلى إعادة مناقشة تقرير مولدر الذى برأ ترامب من التواطؤ مع الروس في الانتخابات الرئاسية وإلى فتح أوسع مناقشة حول ذمته المالية، بسبب عدم تقديمه إقرارات ضريبية تفصيلية عن أعماله حتى الآن. وعدم ابتعاد أفراد أسرته عن إدارة إمبراطوريته المالية، بخلاف القاعدة الثابتة التى تقتضى تسليم الرؤساء إدارة أموالهم للدولة، وابتعادهم عنها بالكامل هم وأعضاء أسرهم، تجنبًا لشبهات الفساد..
وهناك بالطبع الاتهامات الدائمة بالتفريط فى مصالح الأمن القومى الأمريكى، والتهاون مع روسيا وكوريا الشمالية وإيران، وفنزويلا.. إلخ.. وهناك أيضًا الاتهامات المتطرفة بالتهاون فى المواجهة السياسية والعسكرية للصين (بالرغم من الحرب التجارية الضارية التى أشعلها ترامب ضدها)!! وباختصار يسعى الديمقراطيون إلى إقامة «محاكمة» سياسية لترامب حول قضايا الأمن القومى. والهدف من هذا كله هو إضعاف ترامب والحزب الجمهورى سياسيًا وجماهيريًا، استعدادًا للمعركة الانتخابية القادمة..
وبديهى أن الإعلام لن يتأخر عن مواكبة المعركة الدائرة فى الكونجرس بكل تفاصيلها. وهذا ما يفهمه ترامب بالتأكيد.. ولهذا فإنه صرح بأنه «يلقى أسوأ معاملة شهدها رئيس فى التاريخ الأمريكى»..
وأن الديمقراطيين يسعون «لإفشاله، والنيل من منجزاته» حتى لو كان ذلك علي حساب المصلحة القومية الأمريكية.
ومن المستحيل بالطبع التنبؤ بمصير هذه المعركة الشرسة، التى سيبذل كل طرف فيها أقصى ما لديه من جهد.. وكل ما يملك من أسلحة مشروعة وغير مشروعة للنيل من الطرف الآخر.. ولعلنا لا ننسى كيف كانت كل استطلاعات الرأى تشير إلى فوز هيلارى كلينتون حتى اللحظة الأخيرة.. ثم فاز ترامب..
لذلك فإن الأحاديث غير المتحفظة عن «عزل ترامب» أو هزيمته فى المعركة الرئاسية القادمة، تبدو لنا متسرعة.. وتنطوى على قدر واضح من المجازفة، وسابقة لأدائها كثيرًا.. فلننتظر ونر.. لكن المؤكد أن ترامب سيقضى المدة الباقية من رئاسته على صفيح ساخن.. وسيخوض معركة انتخابية طويلة جدًا.. بدأت بالفعل منذ الآن.. ستكون لنا عودة إليها أكثر من مرة في الفترة القادمة.