د.محمد فراج يكتب : الحرب الأوكرانية.. صراع على حافة الهاوية النووية (1)
الحرب الدائرة بين روسيا والناتو على الأراضى الأوكرانية الروسية تزداد احتداما، وتتصاعد مخاطرها مع اتساع المشاركة الأمريكية والغربية فيها بصورة متزايدة.
مجموعة الاتصال الخاصة بأوكرانيا اجتمعت يوم 6 سبتمبر الجارى فى قاعدة "رامشتاين" الأمريكية الكبرى فى ألمانيا بحضور ممثلى خمسين دولة من وزراء الدفاع وكبار المسئولين العسكريين والسياسيين، على رأسهم وزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن وبحضور الرئيس الأوكرانى زيلينسكى، واتخذ الاجتماع قرارات بزيادة المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا، بما فى ذلك إمدادها بأسلحة أكثر تطورا وقدرة على الوصول للعمق الروسى حتى ثلاثمائة كيلومتر، سواء من الصواريخ أو طائرات إف 16 الأمريكية.
والأخطر من ذلك أن بريطانيا وفرنسا قررتا السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحتهما المتطورة فى ضرب العمق الروسى، وهو ما ردت عليه موسكو بأنها ستراجع عقيدتها النووية الدفاعية فى إشارة إلى ما أعلنه أكثر من مسئول روسى كبير بإمكانية استخدام الأسلحة النووية التكتيكية فى أوكرانيا ردًا على تصعيد الدعم العسكرى الغربى لها بأسلحة تسمح بضرب المطارات ذات الأهمية الاستراتيجية ومنشآت البنية التحتية المدنية والاقتصادية الروسية، كما هدد الرئيس الروسى بوتين بوجه متجهم ولهجة صارمة، بأن بلاده ستتخد جميع الإجراءات المُناسبة في حالة سماح الغرب لأوكرانيا باستخدام الأسلحة المذكورة لضرب العمق الروسى.
وفى هذا الصدد تشير موسكو إلى أن العسكريين الأوكرانيين وحدهم غير قادرين على توجيه الأسلحة الغربية المتطورة وأن من يقوم بتوجيه هذه الأسلحة هم خبراء من دول الناتو يتدفقون على أوكرانيا بصورة متزايدة، ويشاركون فعلية فى الحرب وتوجيه الضربات إلى الأهداف الروسية، مستندين إلى الدعم المباشر من جانب الأقمار الصناعية العسكرية الغربية، وخاصة الأمريكية والبريطانية والفرنسية، بالإضافة إلى المعلومات الغزيرة التى تقدمها أجهزة المخابرات الغربية.
تُشير موسكو إلى أن الدعم العسكرى الغربى المباشر للقوات الأوكرانية لا يتوقف على الإمداد بالأسلحة المتطورة والخُبراء الذين يقومون بتوجيهها فحسب، بل يشمل أيضًا تدفق الآلاف من المرتزقة من العسكريين السابقين "والمستقيلين حديثا" فضلا عن قيام جيوش الناتو بتدريب عشرات الآلاف من جنود وضباط أوكرانيا فى مختلف البلدان الأوروبية، كما بدأ بعض الخبراء من هذه الجيوش فى التدفق على أوكرانيا لتدريب قواتها على أراضيها مباشرة، بالرغم من كونهم في الخدمة العسكرية الرسمية، وهو ما يعنى درجة أعمق فى التورط فى الحرب.
التصعيد الغربى والإشارات المتناقضة
اللافت للنظر أنه وسط احتدام المواجهات العسكرية والسياسية والأحاديث عن "الخطوط الحمراء" التى لن تسمح الأطرف بتجاوزها، فإن صرامة التهديدات الروسية بالرد على التصعيد بالتصعيد كان لها دور في وقف الاندفاع الغربى نحو توجيه الضربات الصاروخية إلى العمق الروسى، ولو مؤقتا.. وخاصة على ضوء الأداء العسكرى الأوكرانى الضعيف على جبهات القتال.
فبعد اجتماع "رامشتاين" مباشرة توجه وزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن إلى كييف، واجتمع بالقيادات العسكرية الأوكرانية ثم أدلى بتصريح علق فيه على قرارات الدول الغربية الخاصة برفع الحظر على استخدام الصواريخ البريطانية والفرنسية وغيرها من ضرب العمق الروسى بتصريح قلل فيه من أهمية هذه الخطوة، وقال إن الحرب تدخل فيها عناصر كثيرة مترابطة ومتشابكة ومسألة استخدام الصواريخ بعيدة المدى للضرب فى العمق ليست قادرة وحدها على الحسم، وهذا حقيقى تماما واضح أن هذا التصريح يحمل فى طياته تقديرًا متواضعًا لمستوى الأداء العسكرى للقوات الأوكرانية.
وبعد هذا التصريح بأيام قليلة قام رئيس الوزراء البريطانى "كيرر ستارمر" بزيارة إلى واشنطن والتقى بالرئيس الأمريكى بايدن، وكان المراقبون الغربيون يتوقعون أن يُسفر هذا الاجتماع على اتفاق الطرفين حول رفع الحظر عن الضربات الصاروخية للعمق الروسى، لكن قمة بايدن – ستارمر انتهت دون إشارة إلى هذه المسألة، مما يشير إلى أنها مؤجلة مؤقتا على الأقل.
ومن ناحية ثالثة فإن الكونجرس الأمريكى قد أوقف صرف حوالى واحد وستين مليار دولار كانت قد تقررت كمساعدات اقتصادية وعسكرية لأوكرانيا، وجاءت هذه الخطوة بناء على إصرار النواب الجمهوريين، وتمكن البنتاجون من الحصول على مليارين ونصف المليار دولار فقط من فوائض أو بقايا مخصصات أخرى كانت قد تقررت من قبل لمساعدة أوكرانيا، علمًا بأن إيقاف صرف مبلغ الواحد وستين مليار دولار جاء فى إطار صفقة لموافقة الكونجرس على رفع سقف ديون الإدارة الأمريكية.. وهى من الصفقات التى تتسم بحساسية شديدة خاصة فى أعوام الانتخابات.
.. وفى المقابل – من ناحية رابعة – طلبت أمريكا من الدول الأوروبية الحليفة، وخاصة ألمانيا زيادة مساعداتها الاقتصادية والعسكرية لأوكرانيا، إلا أن برلين أعلنت رفضها الاستجابة للطلب الأمريكى، بعد خلاف معلن بين وزيرى الدفاع والمالية الألمانيين حول إمكانية زيادة المساعدات، ومعروف أن الأزمات الاقتصادية تأخذ بخنق أغلب الدول الأوروبية.
.. ومن ناحية خامسة فقد قررت الدول الغربية التى سبق لها الاجتماع فى سويسرا – بدون دعوة روسيا للحضور – لبحث سبل تسوية الأزمة الأوكرانية على أساس خطة قدمها زيلينسكى، أن تدعو روسيا إلى اجتماعها القادم، إلا أن موسكو أعلنت عدم اهتمامها بمؤتمر سويسرا، ورفضها لحضور أى اجتماع على أساس مقترحات زيلينسكى.
وأشارت تقارير إعلامية مؤخرا إلى أن الرئيس الأوكرانى السابق فى برلين طلب من المستشار الألمانى "جس نبض" بوتين فيما يتصل بإمكانية التسوية، وبديهى أن مثل هذا الشخص لا يمكن أن يلقى القول جزافا أو يتصرف من تلقاء ذاته.
إلا أن مثل هذه الإشارات السلمية لا يمكن أخذها على محمل الجد، وإنما يمكن تفسيرها بالعجز عن إلحاق الهزيمة بروسيا، وإجبارها على الانسحاب من أوكرانيا، وهو ما كان زعماء الناتو يطرحونه كهدف للحرب، غير أن استنزاف روسيا وإضعافها يظل هدفا غربيا أكيدًا بالرغم مما ينطوى عليه استمرار الحرب من مخاطر كبرى، وهو ما سنناقشه لاحقا فى سياق مقالنا.
الهجوم الروسى وفتح كورسك
فى ظل التصاعد الحاد للمعارك وللموقف السياسى قامت القوات الأوكرانية بهجوم مفاجئ على مقاطعة كورسك الروسية وتمكنت من اختراق الحدود واحتلال مساحة تصل إلى ألف ومائتى كم2 (1200 كم2) من هذه المقاطعة المجاورة مباشرة لحدود أوكرانيا الشمالية، واعتبر الخبراء –عن حق– هذا الهجوم فشلا للمخابرات العسكرية الروسية، التى أخفقت فى اكتشاف الاستعدادات الأوكرانية فى الوقت المناسب وإحباطه منذ البداية.
وهلل الإعلام الأوكرانى والغربى لهذا الاختراق، ووصل إلى حد الحديث عن نشوء وضع سيفرض على روسيا الانسحاب من الأراضى الأوكرانية مقابل انسحاب اوكرانيا من الأراضى الروسية!! وبالغ البعض فذكر أن أوكرانيا نجحت خلال أيام قليلة فى احتلال مساحة من الأراضى الروسية تعادل مساحة الأراضى التى احتلتها روسيا خلال عامين ونصف من الحرب!
وهذا كله لا أساس له من الصحة، والحقيقة أنه بالرغم من الدلالة الرمزية والمعنوية للاختراق الأوكرانى فإن المساحة التى احتلتها القوات الأوكرانية لا تمثل سوى جزء ضئيل من مساحة مقاطعة كورسك البالغة تسعة وعشرين ألف كم (29 ألف كم2) وهى لم تستول على أى هدف استراتيجى فى المقاطعة، وهى تقف على بُعد سبعين كيلومترا من محطة كورسك النووية التى قيل فى بداية الهجم أنها مهددة بالوقوع فى أيدى الأوكرانيين.
بينما تحتل روسيا عشرين بالمائة من مساحة أوكرانيا البالغة "ستمائة ألف كم2" – 600 ألف كم2 – أى أكثر بمائة مرة من الأراضى التى احتلتها أوكرانيا فى مقاطعة كورسك، وإذا كانت هذه الحقيقة لا تنفى المغزى المعنوى لاختراق الحدود الروسية، إلا أن الحديث عن المساحات المتساوية والمقايضة بها من أجل التسوية، وانسحاب روسيا.. الخ، هو حديث فارغ لا علاقة له بالحقيقة.
ومن الضرورى هنا ملاحظة أن أوكرانيا قد سحبت حوالى خمسة عشر ألفا من خيرة قواتها على جبهات "الدونباس" وهو ما أتاح للقوات الروسية تحقق مزيد من النجاح فى الهجوم الذى تشنه فى جنوب وشرق أوكرانيا، واحتلال مساحات كبيرة من الأراضى على هاتين الجبهتين، وتحقيق تقدم هام فى هجومها باتجاه مدينة "بكرفسك" الاستراتيجية التى تمثل عقدة هامة للمواصلات بين شرق ووسط أكرانيا والتى أصبحت مهددة بالسقوط فى أيدى القوات الروسية، علمًا بأن القوات الأوكرانية تعانى من نقص كبير فى العدد والعتاد مقارنة بالقوات الروسية المهاجمة، كما أن الجانب الأوكرانى يتكبد خسائر فادحة فى الأفراد والمعدات في المعارك المتواصلة، ويجد صعوبة كبيرة فى تعويض خسائره.
وقد تصرفت القيادة الروسية بأعصاب هادئة بالرغم من الضجة الإعلامية الغربية ومن الدلالة الرمزية الهامة للاختراق الأوكراني في كورسك- فواصلت القوات الروسية هجومها على الجبهتين الشرقية والجنوبية لأوكرانيا. ولم تسحب روسيا أياً من وحداتها على هاتين الجبهتين. بل جمعت وحدات من القوات المنتشرة في عمق البلاد، ومن المقاتلين الشيشان، ونججت في إيقاف تقدم القوات الأوكرانية في كورسك، وفي استعادة مساحات من الأراضي التي استولى عليها الأوكرانيون، وتقوم بتوجيه ضربات قوية بالطيران والمدرعات والمدفعية إلى خطوط إمدادهم. وألحقت بهم خسائر كبيرة تصل إلى أكثر من أربعة عشر ألف جندي وضابط ومئات الدبابات والمدرعات حتى صباح الخميس ١٩ سبتمبر، وإذا استمرت المعارك علي هذه الوتيرة فإن القوات الأوكرانية ستكون مجبرة على الانسحاب أو الوقوع في الحصار والأسر خلال فترة غير طويلة، بالرغم من التحصينات القوية التي أقامتها منذ اليوم الأول لاختراقها للحدود الروسية.
وهكذا بدأ الخبراء الغربيون يتراجعون عن تهليلهم لعملية كورسك. وبدأ زيلينسكي يتحدث عن صعوبة الأوضاع علي جميع الجبهات بما فيها كورسك والجبهتين الشرقية والجنوبية.
وللحديث بقية