د. محمد فراج يكتب : الإعلام الغربى والحرب الأوكرانية.. والحقيقة الضائعة!
يومًا بعد يوم يتضح بصورة أكثر جلاءً أن الحرب المحتدمة فى أوكرانيا هى عنوان لمواجهة استراتيجية عالمية شاملة، وأنها مرشح للاستمرار لسنوات قد تطول بغض النظر عن التصريحات المرسلة حول الهجوم الأوكرانى المضاد الحاسم أو المبادرات السلمية.. إلخ إلخ، وكذلك بغض النظر عن التغطية الإعلامية المكثفة لهذا التفصيل أو ذاك، والذي قد يكون قليل الأهمية، أو التعتيم المقصود على تطور آخر قد يكون مهمًا.. فالحرب الإعلامية الغربية جزء لا يتجزأ من هذه المواجهة الشاملة، ووسائل الاعلام هى أحد أهم أسلحتها.
وعلى سبيل المثال فإن تدمير صواريخ "كنجال/ الخنجر" الروسية فائقة السرعة لبطاريات صواريخ باتريوت الأمريكية المضادة للصواريخ حول العاصمة الأوكرانية "كييف" هو حدث عسكري بالغ الأهمية جرى التعتيم عليه عمدًا، وخاصة على الاعتراف الأمريكي المتأخر بوقوعه، لأنه يشير إلى تفوق الصواريخ الهجومية الروسية فائقة السرعة، أو "فرط الصوتية" حسب الترجمة الشائعة، وخطورة هذا الحدث لا تقف عند الكشف عن ضعف منظومات الدفاع الجوي الغربية فى أوكرانيا وإمكانية ضربها، بل تمتد إلى الكشف عن ضعف ما يسمى "بالدرع الصاروخية" الأمريكية فى أوروبا الشرقية التى تكلفت مئات المليارات من الدولارات وكان الهدف منها شل قدرة روسيا علي توجيه ضربة نووية انتقامية إلى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في حالة إذا ما قررت أمريكا القيام بهجوم نووي استباقي مدمر على روسيا.. ومعروف أن صواريخ باتريوت وثاو الأمريكية تمثل عماد هذه المنظومة، ولو أن صواريخ أمريكية كانت قد تمكنت من تدمير صواريخ روسية "إس 400" مثلا، لكنا قد رأينا تغطية إعلامية مختلفة تمامًا.
مثال آخر يقدمه التعتيم الإعلامى الغربي المقصود على مخاطر تزويد بريطانيا لأوكرانيا بقذائف اليورانيوم المنضب التى تسببت فى تدمير البيئة فى العراق وصربيا في حينه ورفع مستوى الإشعاع بصورة تمنع استغلال الأراضى الزراعية وتلوث المياه الجوفية وتؤدى إلى انتشار الأورام السرطانية بين السكان المقيمين في مناطق القصف باستخدام هذه القذائف وهو لايزال العراقيون والصرب يدفعون ثمنه حتى الآن. بينما يقدّم الإعلام الغربى إمداد أوكرانيا بهذه القذائف كمجرد إمداد قذائف أكثر فاعلية في القتال وخاصة فى تدمير الدبابات والمدرعات!
واللافت للنظر بشدة أنه حينما ضربت الصواريخ الروسية مخزنا كبيرا لهذا النوع من القذائف لوحظ ارتفاع مستوى الإشعاع بشدة فى المنطقة المحيطة بالمخزن، بما يمثل خطرًا علي سكانها، يمكن لأن تمتد آثاره إلى البلدان المجاورة فى شرق أوروبا "الأعضاء فى حلف الناتو" وبينما أشارت وسائل الإعلام الروسية إلى هذا الحادث الخطير وإلى موضوع مخاطر قذائف اليورانيوم المخضب منذ اللحظة الأولى، فان الإعلام الغربى يلزم الصمت حول الموضوع.
معركة باخموت
مثال ثالث بالغ الأهمية هو سقوط مدينة "ارتيومونسك/ باخموت" في أيدى القوات الروسية بعد معارك ضارية استمرت أكثر من ثمانية أشهر.. وقدم الغرب خلالها إمدادات هائلة بالأسلحة والذخائر والمقاتلين المرتزقة إلى الجانب الأوكراني ومعروف أن "أرتيومونسك/ باخموت" هى إحدى مدن شرق أوكرانيا التى جرى بناء تحصينات قوية جداً فيها على مدى تسع سنوات (منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014) وأن طبيعة الأرض في هذه المدينة (وجود مناجم كثيرة للملح والجبس والفحم) قد ساعدت على جعل هذه التحصينات أكثر قوة بحيث أن الاستيلاء على كل شارع فيها كان يحتاج إلى معارك ضارية، وبحيث تحولت معارك "ارتيومونسك" إلى مفرمة لحم – كما وصفها الرئيس الأوكراني زيلينسكى– وبالتالى فقد كانت الخسائر البشرية ضخمة من جانب المهاجمين الروس والمدافعين الأوكرانيين على السواء.
وحينما كان الهجوم الروسي على المدينة والقرى المحيطة بها يتعثر، كان الإعلام الغربي يتحدث عن أهميتها الاستراتيجية الكبيرة.. وكيف أنها قلعة حصينة فى وجه التقدم الروسي نحو الغرب.. إلخ علمًا بأن الأهمية الاستراتيجية للمدينة محدودة.. وما أكسبها الأهمية هو الجانب المعنوي أساسا أي أنها تحولت إلى رمز للتصدى للهجوم الروسى وإبطائه.. وبالنسبة للروس فقد تحولت إلى عقبة لابد من تجاوزها.. وباختصار فقد اكتسبت مدينة "أرتيومونسك/ باخموت" للطرفين أهمية رمزية تفوق بكثير أهميتها الاستراتيجية الفعلية..
ولكن حينما سقطت المدينة ومنطقتها في أيدى القوات الروسية (وباعتراف الرئيس الأوكراني زيلينسكى نفسه بذلك) عاد الإعلام الغربى والأوكراني للتقليل من أهميتها الاستراتيجية!! علمًا بأن التركيز المبالغ فيه على أهمية " باخموت" قد جعل من سقوطها فى أيدى الروس هزيمة معنوية كبيرة للقوات الأوكرانية لن يخفف من أثرها الآن التقليل من أهميتها العسكرية وبالإضافة إلى ذلك فإن التركيز الشديد على باخموت والخسائر البشرية الكبيرة فيها كانا من أهم أسباب تعطيل عملية حشد القوات لشن هجوم الربيع المضاد الذى علق عليه الحلفاء الغربيون آمالا كبيرة.. وهنا لابد من ملاحظة فارق القدرة على الحشد وعلى تحمل الخسائر بين روسيا وأوكرانيا بغض النظر عن الدعم الغربى الضخم لها.
دعم أم تجارة سلاح؟!
مثال رابع للتمويه باسم المبادئ على مواقف مغرضة تحقق مصالح الولايات المتحدة ومصانع السلاح فيها بصورة رئيسية بالإضافة الى صناعة السلاح الأوروبية طبعا.. فحينما بدأت الحرب فى أوكرانيا روج الإعلام الغربي لضرورة إمدادها بالسلاح على أوسع نطاق لكننا لاحظنا أن أنواعا من الأسلحة الغربية المتقدمة مثل طائرات إف 16 كان يجري الحديث عنها باعتبار أن توريدها يمثل تصعيدًا غير ضروري وفي المقابل تم التركيز على إمداد أوكرانيا بالأسلحة السوفيتية الموجودة لدى دول أوروبا الشرقية منذ زمن حلف وارسو مثل طائرات ميج 29 والدبابات والمدفعية السوفيتية الروسية الصنع بل وصواريخ الدفاع الجوى اس 300.. حتى يتم تفريغ مخازن تلك الدول من الأسلحة السوفيتية تمامًا لتبدأ في استيراد الأسلحة الأمريكية أساسًا والأوروبية فيما يمثل ضربا لعصفورين بحجر واحد..
وسواء كان ثمن هذه الأسلحة سيتم سداده من أموال دافع الضرائب الغربى أو فى صورة قمح وحبوب وسلع غذائية أوكرانية أو من الأموال الروسية التى صدرت قرارات بتجميدها والاستيلاء عليها فإن مصانع السلاح الأمريكية والغربية تكون قد حققت المكاسب المطلوبة باستعراض دول أوروبا الشرقية والوسطي للسلاح من الصناعات العسكرية الغربية ثم تتضاعف المكاسب بالبدء في إمداد أوكرانيا بالأسلحة الغربية الأكثر تطورا. وهكذا سقطت التحفظات عن إمداد أوكرانيا بدبابات إبرامز الأمريكية وليوبارد الألمانية بل وأيضا بطائرات إف 16 الأمريكية علما بأن الأخيرة أصبحت من طرازات المقاتلة القديمة والأقل تطورا مقارنة بالمقاتلات الأحدث بما فيها "إف 35" الأمريكية والرافال الفرنسية وغيرها وبغض النظر عن كفاءة مثل هذه الأسلحة في المعركة ضد الأسلحة الروسية الأحدث وعن الحاجة إلى وقت طويل ليتمكن الأوكرانيون من تشغيلها، فالمهم أن الأموال يتم اعتمادها والعقود يتم توقيعها وماكينات صناعة السلاح تدور.
ويمكن أن يقال نفس الشىء عن صادرات الحبوب الأوكرانية التى ملأ الإعلام الغربي الدنيا صراخًا من المجاعة التى تهدد البشرية بدونها.. وحينما تم توقيع اتفاقية تصدير هذه الحبوب بين روسيا وتركيا بإشراف الأمم المتحدة اتضح أن الجزء الأعظم من هذه الحبوب تم توجيهه إلى الدول الأوروبية بصفة أساسية علما بأن هذه الدول لديها اكتفاء من القمح والحبوب! بينما تركت شعوب آسيا وأفريقيا لمصيرها! وسكت الإعلام الغربي عن هذه الحقيقة المؤلمة.. وإن كان إعلام بعض دول أوروبا الشرقية (بولندا والمجر وسلوفاكيا) بصورة خاصة قد بدأ يشكو من التأثيرات السلبية لوفرة الصادرات الزراعية الأوكرانية على المنتجات الزراعية المحلية، خاصة أن المنتجات الزراعية الأوكرانية معفاة من الجمارك بقرار من الاتحاد الأوروبي مما جعلها أكثر قدرة على المنافسة في أسواق الدول المذكورة وأصاب زارعيها بخسائر كبيرة.
وما ذكرناه ليس إلا أمثلة صغيرة وأخيرة عن الدور الذي يقوم به الإعلام الغربي فى إطار المواجهة الشاملة الجارية بين الغرب وروسيا على الأراضي الأوكرانية.. وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن دور الإعلام في تمويه طبيعة الحرب ومحاولة إخفاء الأهداف الغربية الحقيقية، وعن حظر الإعلام الروسي في أغلب الدول الغربية بحيث يظل مواطنوها أسرى لوجهة نظر واحدة.. بينما يتهمون أغلب دول العالم بالاستبداد ومصادرة الحرية!