د.محمد فراج يكتب : الحرب الأوكرانية .. تحولات استراتيجية لصالح روسيا
بالرغم من إقرار أمريكا مؤخرا لحزمة مساعدات عسكرية واقتصادية ضخمة تزيد على ستين مليار دولار، ومن إعلان الدول الأوروبية الكبرى عن زيادة مساعداتها العسكرية والاقتصادية لكييف، وتبارى الدول الغربية في إظهار دعمها السياسى والمعنوى لأوكرانيا فإن الأخبار القادمة من جبهات القتال -ومن روسيا نفسها- لا تحمل أى بشارة للعواصم الغربية، بل تشير بوضوح إلى رجحان كفة روسيا في المواجهة الشاملة بينها وبين حلف الناتو وخصوصًا في الصراع العسكرى المحتدم على الأراضى الأوكرانية.
الأخبار القادمة من جبهات القتال تشير إلى فتح جبهة جديدة فى مناطق خاركوف، شمال شرقى أوكرانيا، وإلى احتلال مناطق جديدة فيها كل يوم، وتهديد مدينة خاركوف عاصمة المقاطعة، وهى ثانية كبري المدن الأوكرانية ويبلغ عدد سكانها مليونا ونصف المليون نسمة، فضلا عن كونها أحد أهم المراكز النصاعية الأوكرانية، وخاصة فيما يتصل بالصناعات العسكرية، كما أنها أحد أهم المراكز العلمية والبحثية فى البلاد ولها أهمية رمزية كبرى.
أما على الجبهتين الجنوبية والشرقية «الدونباس، وزابوروجيا، وسواحل البحر الأسود» فتواصل القوات الروسية هجومها بامتداد خطوط المواجهة وتستولي على مزيد من الأراضى، وتحسّن مواقعها القتالية، والأمر الأهم أنها تلحق خسائر ضخمة بالقوات الأوكرانية سواء فى الأفراد أو فى المعدات، بما فى ذلك الأسلحة الغربية الحديثة مثل دبابات إبرامز الأمريكية وليو بارو الألمانية.
قد نظمت روسيا مؤخرًا عروضًا لغنائمها من الدبابات والأسلحة الغربية الحديثة، علمًا بأن بعض أحدث وأشهر الأسلحة الأمريكية مثل منظومات صواريخ باتريوت للدفاع الجوى ذائعة الصيت قد تعرضت للتدمير بواسطة الصواريخ الروسية.
وإجمالًا فإن القوات الأوكرانية أصبحت تعانى من نقص كبير فى الأفراد والأسلحة والذخائر ومن تدهور معنوياتها بسبب الخسائر الكبيرة واضطرارها للتراجع المستمر عن مواقعها وانهيار خطوط دفاعها، الأمر الذى يُنذر بمزيد من التدهور فى موقف هذه القوات، بالرغم من الإمدادات الربية السخية ومن تدفق المرتزقة والمستشارين العسكريين الغربيين.
هذه الوقائع المهمة دفعت الرئيس الفرنسى ماكرون إلى الحديث عن إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا والدعوة لإرسال قوات أطلسية، وهو ما لم يجد دعمًا من جانب الدول الأطلسية الكبرى وفى مقدمتها أمريكا وألمانيا التى أعلنت أنها لا تريد صدامًا مباشرًا مع روسيا، وإن كانت قد أرسلت مزيدًا من الأسلحة الهجومية ومنظومات الدفاع الجوى، كما أعلنت بريطانيا أنها لا تُعارض استخدام أوكرانيا للصواريخ البريطانية فى ضرب الأراضى الروسية.
متغيرات فى الموقف الروسى
روسيا من جانبها اعتبرت الإجراءات الغربية الأخيرة تصعيدا خطيرا وردت عليها بإجراء مناورات قتالية للأسلحة الروسية القادرة علي حمل رؤوس نووية تكتيكية، فى إنذار شديد اللهجة للغرب، خاصة بعد إعلان بولندا استعدادها لنشر صواريخ نووية أطلسية على أراضيها المجاورة مباشرة لأوكرانيا، وشديدة القرب من الأراضى الروسية، ولما كان فتح الباب لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية يعنى الوقوف المباشر على حافة الحرب النووية العالمية باستخدام الصواريخ الاستراتيجية فإن الموقف الروسى الأخير يعنى استعداد روسيا للمضى حتى نهاية الشوط إذا استمر الناتو التصعيد!! وهو ما يعنى مواجهة خطر نشوب حرب نووية شاملة وما نعتقد أن أحدًا لن يجرؤ عليه.
الأمر بالغ الأهمية والدلالة الذى حدث مؤخرا هو إقدام بوتين على تغيير وزير الدفاع الروسى العتيد «سيرجى شويجو» ليحل محله وزير دفاع «مدنى» هو «أندريه بيلوأوسوف» الذى كان يشغل منصب النائب الأول لرئيس الوزراء للشئون الاقتصادية وكان مسئولا أيضا عن تطوير صناعة الطائرات المسيرة وهى من الصناعات العسكرية الروسية، التى شهدت تطورا كبيرا خلال العامين الأخيرين، علمًا بأن الرجل لم يشغل مناصب عسكرية مباشرة «فى الجيش» ولم يتم تجنيده أو يطلق رصاصة واحدة، إلا أنه أحد أبرز رجال المجمع الصناعى العسكرى الروسى.
تعيين «أندريه بيلو أوسوف» وزيرا للدفاع لم يكن يعنى إحالة «شويجو» إلى التقاعد، فقد تم تعيينه سكرتيرا لمجلس الأمن القومى وإنما ارتبط تعيين الوزير الجديد بتعزيز سياسة يمكننا القول إنها كانت قد بدأت بالفعل تعنى الربط المحكم بين الصناعات المدنية والاقتصاد الروسى عموما من ناحية والصناعات العسكرية من ناحية أخرى، بما يعنى تكريس المزيد من طاقات وإمكانات البلاد بصورة أكفأ لتطوير الصناعات العسكرية دون إرهاق كاهل الاقتصاد بأعباء أكبر وتوظيف الموازنة العسكرية بأكفأ صورة لتطوير الصناعات العسكرية من جهة وإدارة وزارة الدفاع والعمليات الحربية بأقل تكلفة ممكنة مع رفع كفاءتها، وهو أمر تؤهل خبرة وزير الدفاع الجديدة خبرته الاقتصادية الطويلة، ومشاركته فى عمل المجمع الصناعى العسكرى لسنوات عديدة وقد سبقت الإشارة لدور الوزير الجديد فى تطوير قطاع صناعة الطائرات المسيرة من خلال إشرافه عليه.
اقتصاد حرب متطور
بوتين أشار فى اجتماع له مع هيئة أركان حرب القوات المسلحة الروسية إلى أهمية استخدام الإمكانات الصناعية والفنية والعلمية المتاحة لتحديد الأسلحة الروسية بما يحقق تفوقها على أسلحة الخصوم ودون الوقوع في فخ استنزاف إمكانيات البلاد في سباق تسلح منهك، وهو ما لا يخفى الغرب سعيه إليه.
وأعلن بوتين أن الإنفاق العسكرى الروسى يمثل نسبة ٨٫٧٪ من الناتج المحلى الإجمالى «ثمانية وسبعة أعشار بالمائة» وهى نسبة ضخمة بالتأكيد، لكنها أقل من النسبة التى كان ينفقها الاتحاد السوفيتى فى حينه والتى كانت تبلغ ١٣٪ (ثلاث عشرة بالمائة) من الناتج المحلى الإجمالى، كما أعلن تطلعه لتقليص هذه النسبة من خلال الاستخدام الأكفأ للموارد كجزء من السياستين الاقتصادية والدفاعية الروسية، مؤكدًا ثقته فى قدرة «بيلوأوسوف» على تحقيق هذا التوجه بفضل خبرته الاقتصادية وعمله الطويل فى المجمع الصناعى العسكرى الروسى.
نمو اقتصادى برغم الحرب
ويمكن القول إن أرقام نمو الاقتصاد الروسى وبشهادة صندوق النقد الدولى والبنك الدولي تشير إلى أن ما يقوله بوتين ليس من قبيل الأحلام المعسولة أو بعيدًا عن الواقعية، إذ تشير الأرقام إلى تحقيق الاقتصاد الروسى لنمو بلغ ٣٫٦٪ (ثلاثة وستة من عشرة بالمائة) عام ٢٠٢٣ وإلى توقعات بتحقيق لنمو قدره ٢٫٦٪ (اثنان وستة من عشرة بالمائة) خلال العام الجارى ٢٠٢٤، وذلك بالرغم من العقوبات الاقتصادية الغربية الشاملة وشديدة القسوة، وبالرغم من تكلفة الحرب فى أوكرانيا وهى كلفة باهظة بكل تأكيد.
ويجب أن نشير إلى أن أرقام النمو الاقتصادى الروسية المذكورة تتفوق بكثير على أرقام النمو الاقتصادى فى الدول الأوروبية الكبرى والتى تتراوح بين أجزاء من العشرة فى المائة ولا تزيد على ١٪ (واحد فى المائة) ونكرّر أن هذا بشهادة صندوق النقد الدولى والبنك الدولى وغيرها من المنظمات التى يسيطر عليها الغرب.
وبتعبير آخر فإن الغرب الذى أراد استنزاف روسيا وخنقها اقتصاديًا لإجبارها على الانسحاب من أوكرانيا وإلحاق هزيمة استراتيجية لها قد تعرض هو «وخاصة الاتحاد الأوروبى» لخسائر أكبر، بينما تواصل روسيا تطوير اقتصاديها ومجمعها العسكرى الصناعى برغم الخسائر التى تمكنت روسيا من ضبطها والحد منها، وأن الاقتصاد الروسى قد أثبت قدرته على تحمل أعباء المواجهة بفضل ضخامته وتنوعه وموارده الكبيرة، وتعاون موسكو مع حلفائها وأصدقائها وفى مقدمتهم الصين وقبل كل شىء بفضل كفاءة إدارة المواجهة.
ليست مفاجأة!
والواقع أن هذه النتائج كلها ليست مفاجأة، لكن الغرب استخف كثيرًا بقدرات روسيا الحقيقية.
ويعتز كاتب هذه السطور كثيرا بتنبئه بقدرة الاقتصاد الروسى على تحمل أعباء المواجهة مع الغرب وذلك فى دراسة نشرتها مجلة «السياسة الدولية» العدد ٢١٩، يناير ٢٠٢٠، ملحق «تحولات استراتيجية» تحت عنوان «محرك المواجهة مع الغرب.. قدرات وأعباء الاقتصاد الروسى» بقلم د. محمد فراج أبوالنور وهى دراسة استندت إلى مراجع وتقارير روسية وغربية عديدة بما فيها تقارير صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومعهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولى وغيرها.
سلام يراعى مصالح الجميع
ولسنا فى معرض الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، ولكن خبرة التاريخ ودراسة الوقائع تؤكد أن سياسة توسيع حلف الناتو باتجاه الغرب ومحاولة فرض واستمرار الهيمنة الأمريكية والغربية، وتجاهل المصالح الأمنية لدولة عظمى كروسيا، كان لابد أن تؤدى إلى المواجهة الواسعة والخطيرة التى يشهدها العالم وتتخذ من أوكرانيا مسرحًا لأحداثها العسكرية وهى مواجهة ألحقت أضرارا ضخمة بالاقتصاد العالمى بأسره ولم تفلت من عواقبها دولة واحدة، بما فيها الدول العربية طبعا، ومنها مصر، كما أن هذه المواجهة تنطوى على أخطار هائلة على سلام العالم كله، ولهذا فقد يجب وضع حد لها يضمن مصالح كل الأطراف والشعوب مع الأخذ فى الاعتبار أن أى سلام وطيد لابد أن يكون قائمًا على توازن المصالح ومراعاة الحقائق الواقعية وفى مقدمتها أن سياسة الهيمنة وأحادية القطبية مرفوضة من شعوب العالم، وأن العلاقات الدولية قد دخلت بالفعل في مرحلة الانتقال إلى التعددية القطبية.