د.محمد فراج يكتب : هل يشعل نتنياهو حربًا شاملة فى المنطقة؟
يحبس المراقبون أنفاسهم فى انتظار لحظة الصدام المرتقبة بين إيران واسرائيل، حينما تقوم طهران بتوجيه ضربة عسكرية كبيرة إلى الدولة الصهيونية ردًا على قيام الأخيرة باغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة حماس إسماعيل هنية فى قلب العاصمة الإيرانية، وفى مقر تابع للحرس الثورى الإيرانى، طهران اعتبرت عملية الاغتيال ليس انتهاكا لأمنها القومى فحسب بل وأيضا لسيادتها وهيبتها وكرامتها وهى كذلك بالفعل وتوعد مسئولوها وعلى رأسهم المرشد الأعلى خامنئى نفسه بتوجيه رد موجع وعاجل إلى إسرائيل.
أما تل أبيب وبالرغم من أنها لم تعلن صراحة مسئوليتها عن اغتيال هنية، إلا أنها لم تنف مسئوليتها عن العملية، بل تبجح مسئولون صهاينة عديدون بالحديث عن "ذراع إسرائيل الطويلة" وأن أعداء الدولة الصهيونية لن يكونوا بمأمن من انتقامها أينما كانوا كما أعلنوا أن إسرائيل سترد بقوة أكبر على أى ضربة إيرانية، وخاصة إذا وقع لها ضحايا من المدنيين، كما أعلنوا أنه إذا شملت الضربة الإيرانية مواقع قيادية للجيش الإسرائيلى أو الموساد فإن الرد لن يكون متكافئا، بمعنى أن تل أبيب ستوجه ضربات أكثر قسوة إلى إيران.
وإذا وضعنا فى اعتبارنا أن إسرائيل كانت قد اغتالت نائب الأمين العام لحزب الله اللبنانى السيد حسن نصر الله ورئيس أركان قوات الحزب (فؤاد شكر- الحاج محسن) بغارة جوية على مكتبه فى الضاحية الجنوبية لبيروت، قبل اغتيال هنية بيوم واحد، وبديهى أن حزب الله لابد أن ينتقم لاغتيال قائده العسكرى الأول وكانت قبل ذلك بأيام قد شنت هجوما جويا على خزانات الوقود التابعة للحوثيين فى ميناء الحديدة اليمنى أسفر عن خسائر كبيرة إذا وضعنا هذا فى اعتبارنا لأصبح واضحا تماما أولًا: أن اسرائيل تسعى لاشعال الحرائق على أوسع نطاق فى المنطقة أو ثانيًا: أنها تعرف جيدا أن جرائمها لن تمر دون رد، وأنها مستعدة لمواجهة العواقب، وثالثا: أنها متأكدة من أنها لن تكون وحدها فى هذه المواجهات، بل إن الولايات المتحدة ستكون إلى جانبها، وليس أمريكا وحدها بل وبريطانيا أيضا من خلال قواعدها فى المنطقة وقواتها المنتشرة فى البحر الحمر والخليج، وإذا كان الدعم البريطانى لا يمكن مقارنة أهميته طبقا للدعم الأمريكى الهائل.
أمريكا بين المشاركة والنفاق
وقد سارعت الولايات المتحدة بالفعل إلى الإعلان عن تعزيز قواتها الجوية في المنطقة، وإرسال حاملة الطائرات "أيزنهاور" إلى البحر الأحمر فور إعلان اغتيال هنية، وعزم إيران على توجيه ضربة انتقامية إلى إسرائيل.. وذلك بالرغم من التسريبات الإعلامية حول (استياء) الرئيس الأمريكي بايدن من نتنياهو لتوسيع الأخير لنطاق المواجهة وانتهاك قواعد الاشتباك في لبنان، ولاغتيال هنية في طهران، بما يعنيه ذلك من تأجيج المواجهة مع إيران، ولأن جريمة الاغتيال جاءت في توقيت من شأنه أن يؤثر سلباً على المفاوضات الجارية بين حماس والدولة الصهيونية، والتي لا يكف نتنياهو عن وضع الألغام في طريقها بمزيد من الشروط التعجيزية الجديدة بل تذهب التسريبات إلى حد القول بأن بايدن اتهم نتنياهو صراحة فى مكالمة هاتفية بينهما مؤخرا بأنه قد خدعه!!
الحقيقة أن هذا كله شكل من أشكال النفاق الأمريكى والمبالغة المكشوفة فى تضخيم قصة اختلاف التقديرات بين الطرفين لتجميل الموقف الأمريكى أمام الشعوب العربية وإعطاء مادة للمحللين والسياسيين العرب للحديث عن الخلافات الأمريكية الاسرائيلية! ولا ينبغى أن نتجاهل حقيقة أن نتنياهو قد اتجه للتصعيد على كافة الجبهات، من غزة إلى اليمن ولبنان ثم إيران، بعد عودته من زيارته لواشنطن، وخطابه أمام الكونجرس بمجلسيه الذى استقبله بحفاوة هيستيرية، كأنه قائد عسكرى أمريكى منتصر وليس رئيس حكومة أجنبية!! كما التقى نتنياهو أثناء زيارته لأمريكا ببايدن وكاميلا هاريس وأركان الإدارة الأمريكية وناقش معهم أوضاع المنطقة ولم يكن يتجه إلى هذا التصعيد على جميع الجبهات ما لم يكن قد حصل على دعم ضمنى من المسئولين الأمريكيين.
وما يؤكد هذا ليس التعزيزات العسكرية الأمريكية العاجلة إلى المنطقة، ولكن أيضا التحذيرات الصارمة والمتكررة من بايدن نفسه ووزير خارجيته بلينكن ووزير دفاعه أوستن وكبار المسئولين العسكريين الأمريكيين لإيران، والتى تصب كلها فى اتجاه أن تكون الضربة الايرانية لإسرائيل رمزية ومن أجل حفظ ماء الوجه لا أكثر، تمامًا كتلك الضربة التى وجهتها طهران لإسرائيل بعد اعتداء الأخيرة على القنصلية الإيرانية فى دمشق ومقتل عدد من الضباط نتيجة لهذا الاعتداء، علمًا بأن الضربة المذكورة قد ساهم فى إضعافها إلى حد كبير تصدى وسائل الدفاع الجوى الأمريكية والبريطانية الموجودة فى المنطقة لها أثناء توجه الصواريخ والمسيرات الايرانية إلى إسرائيل.
بل إن المسئولين الأمريكيين يحذرون إيران من عواقب وخيمة لأى هجوم واسع ويرسلون الوسطاء إلي طهران محملين بهذا التحذير محاولين التأثير على المسئولين الإيرانيين بادعاءات من قبيل أن عملية اغتيال هنية لم يترتب عليها موت أى مواطن إيرانى!! "الحدث – 8 أغسطس 2024" وكأن هذا هو لب القضية!!
محددات الموقف الإيرانى
وبديهى أن ايران لا يمكن أن تقبل بمثل هذه الحجج الهزلية من قبيل أنه لم يمت مواطن إيرانى، كما أن من الصعب للغاية أن تبتلع إهانة بحجم اغتيال هنية فى قلب عاصمتها وهو ضيف على الدولة ومقيم فى مكان يفترض أنه آمن، وخاصة بعد أن أعلن المرشد الأعلى مسئولية بلاده عن الانتقام لدم رئيس حماس، الحقيقة أن التساهل فى هذه المسألة يلحق ضررا كبيرا بمكانة إيران الإقليمية، خاصة هيبتها لدى حلفائها وأمام شعبها نفسه، لاسيما أن الإهانة موجهة من جانب إسرائيل، علمًا بأن طهران لديها وسائل الانتقام العسكرى المباشر من الصواريخ الباليستية وغيرها وعدم الانتقام سيجعل اسرائيل تتجرأ عليها وعلى حلفائها بصورة أكبر.
وإذا كان البعض يقول إن إيران لم تنتقم بالصورة المناسبة لرجلها المهم الجنرال قاسم سليمانى، فهذا مردود عليه بأن الخصم فى هذه الحالة هو أمريكا أكبر قوة عسكرية فى العالم وبما لديها من قدرات ضخمة فى منطقة الخليج ومن نفوذ دولى هائل وهذه أمور لها حسابات أخرى غير حسابات قوة إقليمية مثل اسرائيل.
لذلك نعتقد أن إيران ستسعى لتوجيه ضربة مؤثرة إلى إسرائيل بما يحفظ لطهران ماء وجهها بصورة جدية وليست رمزية غير أن توجيه هذه الضربة الواسعة لا يعنى بالضرورة تحقيقها لهدفها لأن أمريكا وبريطانيا واسرائيل نفسها بالطبع وحلفاء آخرين لأمريكا فى المنطقة سيستخدمون كل ما لديهم من وسائل الدفاع الجوى المتقدمة لإسقاط الصواريخ والمسيرات الايرانية بحيث لا يصل منها إلى هدفه غير عدد قليل.
ومن ناحية أخرى نعتقد أن حزب الله سيشن ضربة واسعة بالصواريخ والمسيرات على شمال إسرائيل ووسطها، ويجب أن نلاحظ هنا أن الصواريخ الباليستية الإيرانية تحتاج إلى "اثنتى عشرة دقيقة" لتصل إلى إسرائيل، بينما الصواريخ المنطلقة من لبنان لا تحتاج إلا لدقيقتين أو ثلاث، مما يصعب مهمة الدفاع الجوى تجاهها، وهو ما ثبت منذ بدء الحرب فى غزة، ويمكن أن يمثل كل هذا فى مجموعه انتقامًا معقولًا لهنية وفؤاد شكر وليس مجرد ضربة رمزية.
أمريكا لا تريد حرباً إقليمية
وبديهي أن إسرائيل سترد هي الأخرى، لكننا نتوقع أن أمريكا ستعمل على وضع حد للاشتباكات بسرعة، لأنها لا تريد حربًا إقليمية واسعة في المنطقة في هذا الوقت بالذات، يمكن أن تستقطب جزءًا كبيراً من جهودها التي تريد تركيزها على الحرب الجارية في أوكرانيا والمواجهة الأطلسية الدائرة ضد روسيا.. وكذلك على المواجهة المتصاعدة للصين وشرق آسيا والمحيطين الهادي والهندي.
ونعتقد أنه إذا كانت أمريكا قد اضطرت للعودة إلى الشرق الأوسط لمحاولة ترتيب الأوضاع فيه، بما في ذلك إدماج إسرائيل في المنطقة فإنها لا تريد أن تنشب حرب واسعة تضطرها للانغماس أكثر مما ينبغي في الشرق الأوسط بما يمكن أن يؤثر سلبًا على مصالحها كقوة عظمى عالمية فى مواجهة روسيا "فى شرق أوروبا" وفى مواجهة الصين "فى شرق آسيا والمحيط الهادى".
وإذا كانت اعتبارات كهذه لا تشغل إسرائيل فهى بالتأكيد تشغل صناع القرار الأمريكى لهذا ستجد الدولة الصهيونية دعما أمريكيا أكبر لحمايتها من انتقام إيرانى واسع، لكنها لن تجد على الأرجح دعمًا أمريكيا لإشعال حرب واسعة فى المنطقة، فى الوقت الراهن على الأقل.