د.محمد فراج يكتب : بلطجة اقتصادية ومالية أوروبية.. بأوامر أمريكية!
تداعيات المواجهة الروسية الأطلسية فى أوكرانيا لاتزال تتوالى كل يوم، وتنتقل من ميادين القتال إلى ساحات المعارك الاقتصادية والسياسية وتثير الخلافات والانقسامات داخل الاتحاد الأروبى نفسه، وتتكشف كل يوم عن وقائع جديدة لم تكن بحسبان صناع القرار الأوروبى عند اندلاع المواجهة، وما تبعها من موجات متلاحقة من العقوبات الأوروبية والأمريكية غير المسبوقة ضد روسيا، وما تتفتق عنه أذهان بعض صُناع القرار الغربى من عقوبات جديدة تمثل خروجًا على قواعد المعاملات الاقتصادية والمالية الدوية، كان من آخرها قرار الاتحاد الأروبي والدول السبع الكبار بتوفير قروض لأوكرانيا قدرها (خمسون مليار دولار) بضمان الأموال الروسية المجمدة فى الغرب والتى تزيد على الثلاثمائة مليار دولار ثم قرار آخر بتقديم مساعدات مالية لأوكرانيا قدرها 1.4 مليار دولار من فوائد تلك الأموال المجمدة، وهو ما يعنى أن الدول الغربية قررت التصرف فى الأموال والأصول الروسية المجمدة لديها، وكأنها أصبحت ملكا لها، وأنها صادرتها فعليا! وهو ما أثار قلقا واسعا فى الأوساط المالية العالمية، -وخاصة لدى الدول التى تملك احتياطيات مالية وأصولًا فى الغرب كالسعودية – من أن تصبح مثل هذه الإجراءات غير القانونية بمثابة سابقة يمكن تكرارها مع دول أخرى فى حالة حدوث صراع بينها وبين الدول الغربية الكبرى، وقد أعلنت السعودية بالفعل عن تحفظها على هذا الإجراء الذى نعتقد أنه سيكون له تأثير سلبى على حركة رؤوس الأموال العالمية باتجاه الغرب خلال الأعوام القادمة. كما أعلنت المجر- إحدى دول الاتحاد الأروبى والناتو– أنها لن تسمح بتطبيق هذه الإجراءات على ما لديها من أموال روسية مجمدة تبلغ سبعة مليارات دولار.
وستكون لنا عودة إلى المجر لأن لديها معركة حامية مع المفوضية الأوروبية (حكومة الاتحاد) اندلعت مؤخرا بسبب تواطؤ المفوضية مع أوكرانيا فى إجراءات اتخذتها الأخيرة من شأنها إلحاق ضرر فادح بإمدادات البترول القادمة من روسيا إلى المجر وسلوفاكيا، الأمر الذى يُهدد بخسائر ضخمة لاقتصاد البلدين.
لا تطلقوا الرصاص على أقدامكم
ومعروف أنه حينما بدأ الاتحاد الأوروبي بضغوط شديدة من أمريكا – فى اتخاذ حزم متوالية من العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، بما فى ذلك تجميد الأصول وحظر استيراد البترول والغاز والفحم الروسى خلال فترات قصيرة، فإن رئيس الوزراء المجرى "فيكتور أوربان" قد عارض هذه الإجراءات وقال كلمات اكتسبت شهرة واسعة وقتها: "أيها السادة إنكم تتصرفون كمن يطلق الرصاص على قدميه"!! بمعنى أنكم تؤذون أنفسكم من حيث تريدون أن تلحقوا الأذى بروسيا، وهى كلمات سرعان ما أثبتت تطورات الأحداث صحتها، فقد كان الاتحاد الأوروبى يعتمد على واردات الغاز الطبيعى الروسي بأكثر من (أربعين – خمسة وأربعين بالمائة) من احتياجاته، ويعتمد على البترول الروسى بأكثر من (خمسة وثلاثين بالمائة) من احتياجاته، بينما كانت الواردات الروسية من الفحم الحجرى تغطى أكثر من (خمسة وأربعين بالمائة) من واردات الاتحاد الأوروبى.
وكانت هذه الواردات منتظمة ومضمونة الوصول بطرق سهلة وبأسعار معقولة.
لكن العقوبات أدت إلى إشعال أسعار الطاقة وضغوط واشنطن من أجل إحلال الغاز الأمريكى المسال محل غاز الأنابيب الروسى وعدم القدرة على توفير ما يكفى من بدائل الغاز والبترول والفحم الروسى فى الوقت المناسب، فضلا عن العبث الأوكرانى بخطوط الأنابيب وإغلاق بعض فروعها، ثم كارثة نصف خط السيل الشمالى (1 و2) كلها أمور أدت إلى نقص فادح فى إمدادات الطاقة، فاقم من اشتعال الأسعار.
وكانت النتيجة أن الاتحاد الأوروبى تعرض لخسائر بلغت نحو تريليون (ألف مليار) دولار فى فروق أسعار الطاقة وحدها عام 2022 فضلا عن الأضرار الكبيرة التى لحقت بصناعات عديدة بسبب نقص الإمدادات وكانت النتيجة هى تباطؤ نسبة النمو إلى الصفر أو حوله فى أغلب البلدان الأوروبية الكبرى وقفزة فى أرقام التضخم تجاوزت (العشرة بالمائة) فى تلك البلدان عام 2022 ولاتزال اقتصاداتها متعثرة حتى الآن بسبب صدمة الطاقة والآثار السلبية للعقوبات وتراوحت نسبة النمو فيها العام الماضى بين الصفر والواحد بالمائة.
ولسنا بصدد الدخول فى تفاصيل كثيرة، لكن ما يجب قوله هو أن روسيا نجحت فى تجاوز آثار العقوبات وحققت نسبة نمو بلغت (ثلاثة ونصف بالمائة) العام الماضى، حسب أرقام صندوق النقد الدولى الذى تشير توقعاته أيضا إلى أنها ستحقق نسبة نمو قدرها (اثنان وستة أعشار بالمائة) هذا العام.
وباختصار فقد أثبتت تطورات الأحداث صحة توقعات رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان.
المجر وحكم الجغرافيا.
تواجه المجر مشكلة معقدة ناتج عن وضعها الجغرافى، ذلك أنها من بلدان أوروبا الوسطى (إلى جانب سلوفاكيا والتشيك والنمسا) ولأنها بلدان تقع وسط القارة وبعيدة عن السواحل فقد كان طبيعيًا أن تعتمد على خطوط أنابيب النفط والغاز الروسى لعقود طويلة، وتصل هذه الخطوط إلى المجر وسلوفاكيا والتشيك عبر أوكرانيا فالمجر، وإذا كانت البلدان الساحلية تستطيع وقت الضرورة أن تستغنى عن خطوط الأنابيب وتستورد البترول أو الغاز المسال عبر الموانئ، فإن الدول الداخلية مثل المجر وسلوفاكيا ليس لديها مثل هذه الإمكانية فيما يتصل بالغاز بالذات، اللهم إلا إذا تمت إقامة خطوط أنابيب بينها وبين موانئ دولة ساحلية مجاورة تستقبل الغاز المسيل، ثم تقوم "بتفويزه" نقله إلى الدولة الداخلية عبر الأنابيب وكذلك إقامة خط لنقل البترول أو نقله عبر سيارات الصهريج، وهى طريقة مكلفة للغاية، فضلا عن تكلفة إقامة خطوط الأنابيب.
وبناءً على ذلك فإن دولة كالمجر أو سلوفاكيا لديها مصلحة حيوية في انتظام واستقرار وضعية نقل البترول والغاز من روسيا وعبر خطوط الأنابيب القائمة خصوصا وأن أوضاعهما الاقتصادية أقل قدرة على تحمل أعباء إضافية كبيرة من دولتين كالنمسا والتشيك الأغنى والأكثر تقدما، وأيضا الأقرب إلى ألمانيا وشبكات الأنابيب والطرق الموجودة لديها، وبتعبير آخر فإن المجر وسلوفاكيا أقل قدرة على تحمل نتائج وأعباء أوضاع عدم الاستقرار الناشئة عن الحروب والتقلبات الاقتصادية والسياسية الحادة فى الدول المجاورة.
لذلك فإنه حينما قرر الاتحاد الأوروبى حظر استيراد البترول الروسى بدءًا من ديسمبر 2022 أصرت المجر وسلوفاكيا على استثنائهما من هذا الحظر، وتأجيله إلى عام 2025 ليستمر خط دروجبا/الصداقة الروسي فى نقل البترول إليهما هما والتشيك.
أما الغاز الطبيعى الروسى فإن فرض الحظر النهائى عليه يبدأ من ديسمبر 2024 علما بأن كميات منه لاتزال تتدفق على النمسا والمجر وسلوفاكيا والتشيك حتى الآن، وأعلنت أوكرانيا أنها لن تجدد اتفاقها مع شركة جازبروم الروسية حينما ينتهى أجل هذا الاتفاق فى ديسمبر القادم، وهو ما سيخلق مشكلة ضخمة للدول المذكورة.
مبادرة السلام والعقاب الأوروبى!
على هذه الخلفية يمكننا أن نفهم دوافع رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان للتفكير فى التقدم بمبادرة منذ أسابيع لإجراء مفاوضات سلام بين روسيا وأوكرانيا برعاية أوروبية – أمريكية صينية لوضع حد للحرب والعقوبات وحالة المواجهة المشتعلة بين روسيا والغرب، ومفهوم أن دولة صغيرة كالمجر ليست مؤهلة للقيام بدور جدى فى إنهاء مواجهة كبرى كالتى تتحدث عنها، لكن أوربان قرر الاستفادة من كن بلاده تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأروبى (يوليو – ديسمبر 2024) ومن أوضاع أوكراني السياسية والاقتصادية والعسكرية الصعبة ليطرح مبادرته على كل من زيلينسكى وبوتين، ثم يعرضها على الصين طالبا مشاركتها فى رعاية المحادثات إلى جانب أمريكا والاتحاد الأوروبى.
غير أن الاتحاد الأوروبي سواء على مستوى الزعماء أو على مستوى المفوضية/ الحكومة قابل مبادرة "أوربان" بعدم الترحيب متهمًا إياه بممالأة بوتين، وقررت المفوضية نقل اجتماع وزراء الخارجية من بودابست – كما هو متبع عادة.. الاجتماع فى عاصمة دولة الرئاسة – إلى بروكسل حيث مقر الاتحاد، والأكثر من ذلك أن أصواتا بدأت تتردد حول حرمان المجر (رئيس الاتحاد!) من حق التصويت فيما يتصل بتقديم المساعدات لأوكرانيا! حتى لا يستخدم الفيتو ضد المقترحات، وباختصار فإن الاتحاد الأوروبى مُصر على مصادرة الأموال الروسية! وبالتالى فإن (مبادرة السلام) قد وئدت.
الأسوأ من كل ذلك أن أوكرانيا لجأت منذ أسبوعين إلى فرض عقوبات ضد شركة "لوك أويل" البترولية الروسية التى تضخ البترول إلى المجر وسلوفاكيا –يتم بموجبها منع الشركة من استخدام خط دروجبا/ الصداقة، الأمر الذى يترتب عليه قطع إمدادات البترول عن المجر وسلوفاكيا، وهو ما يعنى إلحاق ضربة مدمرة باقتصاد البلدين، الذين يبديان قدرا من الاستعداد للتفاهم مع روسيا بخصوص إنهاء الحرب فى أوكرانيا!! وحينما طلبت المجر وسلوفاكيا من المفوضية الأوروبية التدخل لدى أوكرانيا لمراجعة قرارها فإن المفوضية تلكأت ولم تبد أى اهتمام بمخاطبة أوكرانيا بالرغم من خطورة الوضع بالنسبة للمجر وسلوفاكيا الأمر الذى دفع بودابست لاتهام بروكسل بأنها هى من يقف وراء قرار أوكرانيا بمنع إمدادات البترول عن دولتين عضوين في الاتحاد الأوروبى والناتو ما لم تتراجعا عن مواقفهما التى لا تعجب المفوضية الأوروبية أى ما لم تكفّا عن معارضتهما لمصادرة الأموال الروسية لصالح الغرب!! إنها بلطجة أوروبية عادية!!