د.محمد فراج يكتب : 75 عامًا على تأسيس ”الناتو”.. إمبراطورية الشر والعدوان (2 – 2)
قمة حلف "الناتو" الأخيرة فى واشنطن (9-11 يوليو الجارى) بالتزامن مع الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحلف – اتخذت عددًا من القرارات الهامة، منها ما يتصل بتعزيز تمويل الحلف من خلال التأكيد على زيادة الإنفاق الدفاعى للدول الأعضاء إلى (2% - اثنين بالمائة من الناتج المحلي الإجمالى) وما يتصل بتوسيع نشاط الناتو باتجاه شرق وجنوب البحر المتوسط وأفريقيا وإقامة مكتب ارتباط تابع للحلف– للمرة الأولى– مقره فى العاصمة الأردنية عمّان، والأهم من ذلك العمل على تحقيق أهداف الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى في تصعيد نشاطها العسكرى في منطقة شرق آسيا والمحيطين الهادى والهندى "الهادف لمحاصرة الصين" وذلك من خلال دعوة الدول شركاء الناتو لحضور قمة الحلف للمرة الثالثة على التوالي، هى اليابان واستراليا ونيوزيلاندا وكوريا والاتحاد الأوروبي لمناقشة الترابط المتزايد فى مجال الأمن بين المنطقة الأرو-أطلسية ومنطقة المحيطين الهادى والهندى، وهو ما يؤكد على التمسك بمحاولات فرض الهيمنة الأمريكية – الغربية علي العالم، بما تتضمنه من مخططات لتصعيد التوتر العسكرى مع الصين التى يعتبرها زعماء الحلف "أخطر تهديد للغرب" وضرورى فى هذا الصدد أن نشير إلى نشر مزيد من الصواريخ الأمريكية متوسطة وقصيرة المدى فى كوريا الجنوبية واليابان وزيادة تسليح تايوان ونشر الأساطيل الأمريكية والغربية فى البحار المحيطة بالصين، وتشكيل حلف "أوكوس" الجيد بين أمريكا وبريطانيا واستراليا واليابان، والتقارير التى تتحدث عن الاتفاق بين الولايات المتحدة واستراليا على نشر صواريخ نووية على الأراضى الأسترالية، ويرتبط ذلك كله مع تصريحات زعماء الغرب النارية حول "تصاعد الخطر الصينى" واتهام الصين فى البيان الختامى للقمة بتقديم الدعم العسكرى والتكنولوجى لروسيا على نطاق واسع فى مواجهتها الجارية مع الناتو على الأراضى الأوكرانية ومطالبتها بوقف هذا الدعم.
تصاعد مخاطر الصدام المباشر مع روسيا
إلا أن أخطر قرارات قمة الناتو الأخيرة تتمثل فى تزايد انخراط الحلف بصورة مباشرة ومفتوحة فى الصدام مع روسيا علي الأراضى الأوكرانية.. ومفهوم أن الحرب الجارية هى مواجهة بين روسيا والناتو فى حقيقة الأمر، ومعروف أن دول الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي قدمت حتى الآن مساعدات عسكرية لأوكرانيا تقدر بمئات المليارات من الدولارات تشمل مختلف أنواع الصواريخ المتطورة والقنابل الذكية وغير الذكية وصواريخ الدفاع الجوى من طراز "باتريوت" ودبابات "ليوبارد" الألمانية و"أبرامز" الأمريكية والطائرات المسيرة، إلخ الخ، فضلا عن مشاركة الخبراء العسكريين الغربيين فى توجيه القوات الأوكرانية وتقديم المعلومات الاستخبارية وصور الأقمار الصناعية للأهداف الروسية سواء على جبهات القتال أو فى داخل روسيا، فضلا عن وجود المرتزقة الغربيين، ومؤخرا بدأت الدول الغربية تسمح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ ذات المدى البعيد (200 – 300كم) فى قصف أهداف داخل الأراضي الروسية، وهذا تطور خطير، والأخطر منه هو تدريب الطيارين الأوكرانيين على طائرات "إف 16" الأمريكية استعدادا لتزويد كييف بهذه الطائرات.
غير أن دول الناتو كانت تتفادى الاشتباك المباشر بين قواتها والقوات الروسية، لكن القمة الأخيرة اتخدت قرارا بتشكيل قيادة لتنسيق الإمدادات العسكرية والتدريب لأوكرانيا من دول النات وشركائها، ويتولى قيادة هذه الجهود جنرال رفيع المستوى "بثلاث نجوم" من ضباط الناتو، يكون مقره فى ألمانيا، كما أعلن يانس ستولتنبرج الأمين العام للحلف أنه قرر تعيين ممثل مدنى رفيع المستوى للحلف فى كييف لتعزيز العلاقة المؤسسية بين كبار المسئولين الأوكرانيين وقيادة "الناتو".
وهذه كلها خطوات كبيرة باتجاه التورط المباشر فى العمليات القتالية، يصعب فعلها عن إرسال خبراء عسكريين فرنسيين إلى جبهات القتال. وهى الخطوة التى أعلن الرئيس الفرنسى ماكرون استعداده للقيام بها، ودعوة دول الاتحاد الأوروبى للاقتداء بها، كما لا يمكن فصل هذه الخطوات المعلنة عن احتمال وضع بعض طائرات الـ"إف16" المزمع تزويد كييف بها، فى مطارات دول أطلسية مجاورة لحمايتها من ضرب القوات الروسية لها إذا كانت فى مطارات أوكرانية، وذلك حسبما أوردت بعض التسريبات الإعلامية نقلًا عن عسكريين أطلسيين ولاشك أن خطوة مثل هذه ستكون خطوة جنونية إذا حدثت، وبمثابة استفزاز خطير لروسيا ليس من المتوقع أن تسكت عنه، بل الأرجح أنها ستضرب هذه الطائرات إذا تحركت ضدها انطلاقًا من مطارات دول غير أوكرانيا.. وهو ما سيضع الحلف أمام ضرورة تفعيل المادة الخامسة من ميثاقه بالاشتباك مع روسيا!!
فهل هناك من يمكن أن يصل به الجنون إلى هذا الحد؟؟!!
أما إذا تم نشر هذه الطائرات فى المطارات الأوكرانية فالأرجح أنه سيتم ضربها فى أماكنها، وستكون هذه هزيمة معنوية وعسكرية جديدة لأوكرانيا والناتو.
وحتى بفرض استبعاد هذا السيناريو الجنونى الخاص بالطائرات "إف16" فإن خطوات مثل تشكيل قيادة التنسيق العسكرى الأطلسى برئاسة جنرال رفيع المستوى، أو تعيين منسق مدنى أطلسى في كييف أو إرسال خبراء فرنسيين أو غير فرنسيين إلى جبهات القتال، هى كلها خطوات تزيد من عمق تورط الناتو في الحرب، وإمكانية حدوث الصدام المباشر.
إصرار غير مفهوم
الأمر غير المفهوم فعلًا فى قرارات القمة هو الإصرار على الحديث عن تقدم أوكرانيا على طريق تلبية شروط الانضمام إلى الناتو والتطورات السياسية الاقتصادية الجارية فيها، والتى تجعل هذا الاحتمال ممكنا!! مع العلم بأن ميثاق الحلف ينص بوضوح على عدم ضم دول لديها مشكلات حدودية، حتى لا يتورط الحلف فى صراعات مع دول أخرى، فضلا عن أن تكون دولة نووية كبرى مثل روسيا! الأكثر من ذلك أن الاقتصاد الأوكرانى مدمر تمامًا والفساد متغلغل فى مؤسسات الدولة إلى حد تداول وسائل الإعلام الغربية تقارير عن سرقة أسلحة الجيش وتهريبها إلى خارج البلاد!! ناهيك عن الفساد المالى والإدارى والسياسى الذى تتحدث عنه نفس وسائل الإعلام الغربية وعن تعطل المؤسسات وانتهاء ولاية زيلينسكى دون إجراء انتخابات أو تحديد أى شكل دستورى لشرعية الحكم.. فأين هذا كله من معايير عضوية الناتو؟؟!!
40 مليارًا إضافية
وبالنظر إلى هذا كله لا نجد ما يثير الدهشة في قرار القمة بتقديم مساعدات قدرها أربعون مليار دولار على الأقل كمساعدات لأوكرانيا خلال العام القادم "من أعضاء الحلف" وذلك علاوة على عشرات المليارات التى تتدفق على كييف، ومنها ستون مليار دولار من أمريكا تقررت في أبريل الماضى وخمسون مليار دولار من فوائد الاحتياطيات الروسية المجمدة في الغرب، تقرر تقديمها كقروض ميسرة إلى كييف "الاتحاد الأوروبى والسبعة الكبار" وعشرات المليارات غيرها من الدول الأوروبية الكبرى وصندوق النقد الدولى!! وكل ذلك مع التغاضى عن الشروط الصارمة التى تضعها هذه الجهات سواء لتقديم القروض والمساعدات أو لمراقبة إنفاقها، سواء كانت قروضًا ومساعدات اقتصادية أو عسكرية.
القتال حتى آخر أوكرانى!
ولسنا بحاجة إلى تفكير طويل لنفهم أن المقصود من كل هذه المساعدات التى تبدو كماء يذهب فى الرمال هو استمرار القوات الأوكرانية فى القتال ضد روسيا واستنزافها، بالرغم من الخسائر البشرية الفادحة التي تواجهها القوات الأوكرانية فى المعارك، ومن تراجعها علي كل جبهات القتال وهو ما يجعل بعض وسائل الإعلام الغربية تتحدث عن إصرار "الناتو" علي القتال حتى آخر أوكرانى، وما يجعل من الحديث عن إلحاق الهزيمة بروسيا يبدو حديثا عبثيا، والغريب أن شلال الدماء الذى لا يتوقف والخسائر البشرية الهائلة ودمار الموارد الضخم لم يدفع أحدا في الغرب للتفكير فى وقف الحرب التى من الواضح أن الناتو قد خسرها بالفعل، وأنها قد عادت بدمار مخيف على أوكرانيا! بل إن رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان حينما فكر فى القيام بجهود سلام بين روسيا وأوكرانيا تعالت الأصوات فى القارة العجوز بحرمان المجر من حقها في الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبى (من يوليو إلى ديسمبر 2024)!! ومن حقها في التصويت في مؤسسات الاتحاد!! وواضح أن هذا يتم بمباركة - أو بتحريض من جانب واشنطن، مع أن أمريكا نفسها فيها وجهات نظر - تحظى بدعم واسع ندعو لعدم إلقاء آمال دافعي الضرائب الأمريكيين فى البئر الأوكرانية السحيقة.. وللبدء في التفاوض حول شروط مقبولة للسلام.. وهو الاتجاه الذى يعبّر عنه المرشح الرئاسى ترامب وفريق كبير من الجمهوريين، لكن هذا حديث ذو شجون.