أزمة الطاقة تعيد أوروبا إلى عصر الفحم الحجرى (٣)
الاتحاد الأوروبى يستورد «التلوث الكربونى» بثلاثة أمثال السعر!
تزداد أزمة الطاقة العالمية تفاقماً كل يوم، وخاصة فى القارة الأوروبية، سواء من ناحية النقص الفادح في الإمدادات بسبب العقوبات الغربية ضد روسيا والإجراءات الروسية المضادة، وعدم كفاية البدائل التى تحاول الدول الغربية توفيرها، أو ما يؤدى إليه هذا النقص الفادح فى الإمدادات من ارتفاع صاروخي في الأسعار، وقد تحدثنا عن الملامح العامة لهذه الأزمة وعن كثير من تفاصيلها الهامة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية في المقالين السابقين من هذه السلسلة (الأموال، ١٤ و٢١ أغسطس ٢٠٢٢) ومقالات أخرى سابقة منذ بداية تفاقم الأزمة ومن الضرورى هنا أن نشير إلى أن البيانات والأرقام تتغير بصورة سريعة وباستمرار، وخاصة فيما يتصل بالأسعار.. وعلى سبيل المثال فقد ذكرنا فى المقال السابق أن سعر الألف م٣ من الغاز الطبيعى كان يتأرجح بين ١٥٠٠ و٢٠٠٠ دولار (ألف وخمسمائة وألفى دولار) خلال الشهور الماضية، لكن استمرار تناقص الإمدادات وإخفاق محاولات تدمير «البدائل» مع اقتراب الخريف والشتاء قد أدى إلى قفزة ضخمة فى الأسعار لتبلغ ثلاثة آلاف ومائتى دولار أو أكثر للألف مترمكعب (في العقود الآجلة) خلال الأيام الأخيرة!!! بعد الإعلان عن أن خط «السيل الشمالى-١» سيتوقف لمدة ثلاثة أيام من ٣١ أغسطس - ٢ سبتمبر ٢٠٢٢ (ثلاثة آلاف ومائتى دولار فى بورصة لندن)، (RT- ٢٥/٨).
علمًا بأن المخاوف من نقص الإمدادات قد تزايدت بعد النتائج المخيّبة للآمال لزيارة المستشار الألمانى شولتس إلى كندا لبحث الحصول على كميات من الغاز، حيث صرح رئيس الوزراء الكندي جاستين ترورو بأن الأمر يبدو غير واقعى، ويحتاج إلي إجراءات تمتد لسنوات، حيث إن إنتاج كندا يتم فى الجزء الغربى من البلاد (المواجه مباشرة لأقصى شرق آسيا) مما يستدعى مد خط أنابيب عبر كندا كلها وصولا إلى الساحل الشرقى على المحيط الأطلسى، ليمكن إقامة منشآت للتسييل ومن ثم النقل إلى ألمانيا وأوروبا (RT وجريدة دى تسايت الألمانية، ٢٣/ ٨/ ٢٠٢٢) ومواقع ووكالات..
وهذا مجرد مثال أخير لصعوبة توفير بدائل للغاز الروسى، الأمر الذى سبق أن تحدثنا عنه أكثر من مرة، علمًا بأن مشكلة الأسعار الباهظة تظل قائمة، مما يزيد من تكلفة إنتاج الكهرباء، بصورة تترتب عليها آثار اجتماعية بالغة القسوة وخاصة مع اقتراب الشتاء وهو ما يؤدى إلى غضب جماهيرى متنامٍ فى بلدان أوروبية مختلفة وإلى ارتفاع الأصوات بالدعوة إلى الترشيد فى استخدام الطاقة سواء فى المنشآت الاقتصادية أو الخدمية أو الإدارية، أو في المنازل بصورة من شأنها أن تؤدى إلى تغيير كثير من ملامح الحياة الاجتماعية للأوروبيين كالدعوة إلى الاقتصاد فى الاستحمام (!)، والاقتصاد فى تدفئة المنازل فى الشتاء، مع ملاحظة اضطرار كثير من الدول الأوروبية لتخصيص مليارات الدولارات واليورو لدعم الأسر منخفضة الدخل لتتمكن من دفع فواتير الكهرباء.
العودة إلى الفحم
ويمكن الحديث طويلاً عن الخسائر الاقتصادية التي تترتب على نقص إمدادات الغاز، والآثار السياسية والاجتماعية المرتبطة بارتفاع تكلفة فواتير الطاقة وتقنين استخدامها، لكننا نكتفى بما ذكرناه، وننتقل إلى قرار عديد من الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا بالعودة إلى توليد الكهرباء باستخدام المحطات القائمة على استهلاك الفحم الحجرى، وتأجيل تطبيق قرارات وقف المحطات العاملة حالياً من هذ النوع، بما يعنيه ذلك من انتكاسة للسياسات البيئية في أوروبا، والتي كان تهدف إلى تصفية المحطات الكهربائية القائمة على استخدام الفحم الحجرى، بسبب ما يُولده من انبعاثات كربونية تلوّث الهواء وتؤدى إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحرارى بآثارها المعروفة (انظر الأموال، ٢٤/ ٨/ ٢٠٢٢).
اللافت للنظر أن دول الاتحاد الأوروبى قد اتخذت قراراً بحظر استيراد الفحم من روسيا، بدأ سريانه بالفعل في ١٠ أغسطس الجارى، والمشكلة هنا هي أن أوروبا تعتمد على روسيا فى استيراد حوالي ٤٥٪ (خمسة وأربعين فى المائة) من احتياجاتها من الفحم، وترتفع النسبة إلى ٥٠٪ (خمسين بالمائة) بالنسبة لألمانيا، التى تستورد ٢٦ مليون طن من الفحم الروسى حسب أرقام ٢٠٢١ (المصري اليوم، ١١/ ٨. نقلا عن الفاينانشيال تايمز) وبولندا أيضا هى إحدى الدول الأوروبية الأكثر اعتمادا على صادرات الفحم الروسى التي بلغت أكثر من (٦٠ مليون طن/ ستين مليون طن) إلى الاتحاد الأوروبى تمثل أقل قليلا من نصف صادرات روسيا من الفحم (٤٥٪ - خمسة وأربعين بالمائة) ــ نفس المصدر ــ كما أن إيطاليا وهولندا أيضا هى من الدول التي تعتمد بنسبة كبيرة علي الفحم الروسى الذى مثلت صادراته إلى أوروبا أكثر من أربعة مليارات يورو عام ٢٠٢١ (سكاى نيوز عربية - ١١/ ٨ - نقلا عن التقرير السنوي لبريتيش بتروليوم).
ولكن إذا كانت روسيا تخسر أربعة مليارات يورو بسبب حظر استيراد أوروبا للفحم الوارد منها، فإن أوروبا تخسر أكثر لأنها ستضطر إلى تعويض الفحم الروسى بالاستيراد من مناطق بعيدة عنها للغاية جغرافيا مثل استراليا وأندونيسيا، على الطرف الآخر للعالم، بما يعنيه ذلك من تكلفة باهظة للنقل، خاصة مع ارتفاع أسعار وقود السفن، أو مناطق أقرب نسبياً لكنها تظل بعيدة كالولايات المتحدة وجنوب أفريقيا بينما المسافة من روسيا إلى الأسواق الأوروبية قريبة ومشكلة النقل مستقرة منذ عقود.
ومن ناحية أخرى فإن روسيا تستطيع إعادة توجيه صادراتها من الفحم إلى الصين (أكبر منتج ومستهلك للفحم فى العالم بنسبة ٦٠٪ والهند ودول جنوب شرق آسيا مع تقديم نسبة خصم مغرية «تماما كما تفعل الآن مع صادراتها البترولية»، علما بأن روسيا أحد كبار مصدرى الفحم العالميين ولديها علاقات تجارية مستقرة في مجال الطاقة مع الدول المذكورة وخاصة الصين والهند الأكثر شراهة فى استخدام الطاقة والأقل مبالاة بقضية التلوث والانبعاثات الكربونية.
وتقدر منصة معلومات وبيانات الطاقة والسلع العالمية «إس آند بى جلوبال كوموريتى انستاينس أناليتكس» أن مبادرة اعتماد أوروبا على توليد الكهرباء بالفحم سيرفع الانبعاثات الكربونية بنسبة ٢.٥٪ (اثنين ونصف بالمائة) «موقع الطاقة المتخصص، ٢٤ مارس ٢٠٢٢» وإن كنا نتوقع أن النقص الفادح في إمدادات الغاز والاعتماد بصورة أكبر علي محطات توليد الكهرباء بالفحم سيزيد نسبة الانبعاثات الكربونية بأكثر من قدرتها «المنصة» في أواخر مارس.
وكان بديهيا أن يؤدى ارتفاع أسعار الغاز والبترول بصورة شديدة إلى ارتفاع أسعار الفحم أيضا، وبسرعة خلال شهر واحد منذ بداية العملية الروسية في أوكرانيا، من ١٨٦ دولاراً للطن في فبراير إلى ٤٦٢ دولاراً للطن في ١٠ مارس ٢٠٢٢ (وحدة أبحاث الطاقة الأمريكية - ٤ يونيو ٢٠٢٢) وللعلم فإن الفحم مسئول عن أكثر من ٤٠٪ من زيادة الانبعاثات الكربونية في العالم عام ٢٠٢١، وبلغت الانبعاثات الصادرة عنه حوالى ١٥.٨ مليار طن مترى، أى ضعف الانبعاثات الصادرة عن الغاز (٧٥ مليار طن مترى) «تقرير وكالة الطاقة الدولية عن عام ٢٠٢١»..
وللحديث بقية