د.محمد فراج يكتب : أزمة الطاقة تعيد أوروبا إلى عصر الفحم الحجرى! (١)
أزمة الطاقة العالمية تتخذ أبعادا شديدة الخطورة فى القارة الأوروبية بصفة خاصة، بعد أن أدت العقوبات الواسعة غير المدروسة على روسيا، وردود موسكو عليها، إلى نقص شديد في الإمدادات اللازمة لتسيير عجلة الاقتصاد، واتضح أن تدبير البدائل أمر محفوف بمصاعب عديدة وكبيرة، لم تكن فى حسبان أولئك الذين اتخذوا قرارات العقوبات، أو لم يعيروها الاهتمام الواجب.. لتجد القارة العجوز نفسها فى مواجهة خسائر اقتصادية فادحة بعد الاضطرار إلى إيقاف أعداد كبيرة من المصانع، بل وفروع إنتاجية بأكملها، كما حدث في بلدان صناعية كبرى في مقدمتها ألمانيا، قاطرة الاقتصاد الأوروبي. ولتجد البلدان الأوروبية الكبرى نفسها مضطرة لتقليص استهلاكها من الطاقة بنسبة ١٥٪ على الأقل تحت مسمى «الترشيد».
ومع اقتراب الشتاء ببرده القاسى أصبحت احتياجات المنازل والمنشآت العامة وأماكن العمل إلى التدفئة مهددة بصورة خطيرة بسب نقص إمدادات الوقود الضرورى لتوليد الكهرباء.
ومن ناحية أخرى فإن النقص في الإمدادات، واضطراب الأسواق العالمية للطاقة أدى إلي ارتفاع صاروخى فى أسعار البترول والغاز الطبيعى، مما أدى إلى تفاقم التضخم بصورة لم تحدث منذ أكثر من أربعين أو خمسين عاما، لتدور نسبته حول الـ٩٪ مرشحة للارتفاع، مع تباطؤ النمو الاقتصادى بما أطاح بالقدر المحدود من التعافى الذى كان قد بدأ يتحقق بالخروج من إغلاقات فترة تفشى «الكورونا».
ومع تفاقم التضخم ازدادت تكلفة تلبية الاحتياجات المعيشية بنسبة كبيرة وخاصة نفقات احتياجات الطاقة المنزلية، التى تضاعفت في بلدان الاتحاد الأوروبى.. وترافق هذا مع ازدياد نسبة البطالة بسبب الركود الاقتصادى، مما أدى إلى اندلاع موجة واسعة من الإضرابات والمظاهرات فى دول أوروبية عديدة، في مقدمتها بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا وهولندا، الأمر الذى أدى حتى الآن إلى الإطاحة برئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون، الزعيم الأوروبى الأكثر حماسا لتشديد العقوبات ضد روسيا، والذى أصبح أولى ضحايا تلك السياسة.. بينما تتصاعد الحركات الاحتجاجية في بقية الدول الأوروبية تباعًا، وتنذر بالإطاحة بحكومات أخرى.
وبالرغم من اتضاح الآثار العكسية لسياسة العقوبات ضد روسيا التى تتزعمها الولايات المتحدة وثبوت عجز الأخيرة عن توفير البدائل التى وعدت بها لسد النقص فى إمدادات الطاقة الروسية، والارتفاع الكبير في تكلفة البدائل التي أمكن توفيرها، فإن الزعماء الأوروبيين لايزالون منساقين في تبعيتهم للسياسة الأمريكية التى ألحقت ببلادهم أضرارا كبيرة، والتى تنذر بأخطار أكبر ليس فقط على اقتصادات تلك البلدان، ولكن أيضًا على الاستقرار السياسى والاجتماعى فيها.. ويكفي أن نشير إلى أن الخسائر التي لحقت بدولة مثل ألمانيا بسبب العقوبات ضد روسيا ونقص إمدادات الطاقة وارتفاع تكلفتها قد بلغت ٢٦٦ مليار دولار حتى الآن وفقًا لتقديرات الخبراء الروس نقلا عن دراسات ألمانية (RT - ١٠ أغسطس) وحتى لو افترضنا جنوح الخبراء الروس إلى قدر من المبالغة فإن تصريحات المسئولين الألمان أنفسهم تشير إلي فداحة خسائر بلدهم.. والإضرابات والمظاهرات في ألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية تشير إلى ضخامة الخسائر الاقتصادية أو ضغطها على الأوضاع السياسية.
العودة إلي الفحم الحجرى
النقص الكبير فى إمدادات الطاقة أدى إلى اضطرار عدد متزايد من البلدان الأوروبية للعودة لتشغيل عشرات من محطات توليد الطاقة الكهربائية باستخدام الفحم الحجرى!! وهى المحطات التى كان قد تم إغلاقها منذ سنوات طويلة، وكانت النية متجهة للتخلص منها تمامًا، نظرا لما هو معروف من تسبب الفحم في كميات كبيرة من الانبعاثات الكربونية الملوِّثة للبيئة، والتى تؤدى إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحرارى، بما يترتب عليها من ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، ومن كوارث طبيعية مدمرة كالفيضانات والأعاصير والسيول.. والأخطر هو ذوبان ثلوج القطب الشمالى، وارتفاع منسوب مياه البحار، بما يعنيه ذلك من مخاطر إغراق السواحل والمدن الساحلية وتملُّح الأراضى الزراعية القريبة من سواحل البحار، فضلا عن الاختلالات المناخية والبيئية ذات الآثار السلبية الكارثية على حياة البشر.
ومعروف أن الاتفاقيات الدولية للبيئة والمناخ أكدت أهمية ذلك التوجه على مدى عشرات السنين، كما أكدتها قمة جلاسجو ٢٠٢١ ( كوب_26) التى ركزت على ضرورة خفض الانبعاثات الكربونية وانبعاثات «الميثان» وغيرها من الانبعاثات الضارة التي تؤدى لتفاقم ظاهرة الاحتباس الحرارى.
وبديهى أن عودة البلدان الأوروبية إلى تشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية باستخدام الفحم الحجرى تتعارض بصورة تامة مع كل مقررات مؤتمر جلاسجو ٢٠٢١، وتمثل نكسة للجهود الدولية الهادفة لتقليل الانبعاثات المتسببة في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحرارى، خاصة وأن الفحم الحجرى ـ كما سبقت الإشارة ـ هو أخطر أنواع الوقود الأحفورى من هذه الزاوية.
بينما لايزال توليد الطاقة الكهربائية من موارد الطاقة المتجددة «باستثناء الطاقة المائية كالسدود والقناطر» أقل بكثير من أن يفي باحتياجات الاقتصاد، فضلا عن احتياج منشآت الطاقة المتجددة الأخرى كـ«الطاقة الشمسية وطاقة الرياح» إلى استثمارات ضخمة، ترفع من تكلفة توليد الكهرباء أضعافا بالقياس إلي تكلفة توليد الطاقة اعتمادًا على البترول والغاز الطبيعى والفحم أو بالاعتماد على الطاقة النووية، الأرخص بكثير.
المفارقة المثيرة هى أن زعماء الاتحاد الأوروبى كانوا قد قرروا في أبريل الماضي فرض حظر على واردات الفحم الروسى خلال ١٢٠ يوما «مائة وعشرين يومًا» انتهت يوم ١٠ أغسطس الجارى ليبدأ تنفيذ الحظر بالفعل، على واردات ضخمة تبلغ قيمتها حوالى (٤.٥ مليار يورو/ أربعة ونصف مليار) علي أساس أن إيجاد البدائل للفحم الروسى أسهل بكثير من تعويض واردات البترول «المقرر أن يبدأ الحظر عليه بنهاية ديسمبر القادم والذى تبلغ كميته ٣ ملايين برميل يوميا» وواردات الغاز الطبيعى، لكن المفارقة أن الاتحاد الأوروبى لم يستطع حتى الآن تدبير كمية مكافئة لتلك التى سيفقدها من الواردات الروسية، علمًا بأن استيراد الفحم يأتي أساسًا من مصادر بعيدة كأستراليا ـ على الطرف الآخر من العالم ــ وجنوب افريقيا وغيرهما، بما يعقبه ذلك من تكاليف باهظة للنقل فى ظل المسافة البعيدة وارتفاع تكلفة وقود السفن، بالإضافة طبعًا إلى ارتفاع أسعار الفحم بسبب ارتفاع مصادر الطاقة الأخرى، وإقبال الدول الأقل التزامًا بالاشتراطات البيئية ـ كالهند ــ على استيراد المزيد منه.
وهكذا فإن الدول الأوروبية ستكون مضطرة لاستيراد التلوث «الفحم» بتكلفة أكبر! كما أنها تسرعت فى حظر استيراد الفحم الروسى قبل ضمان تدبير الكميات اللازمة لتعويضه، علمًا بأن طرق استيراده ونقله قريبة ومستقرة منذ سنوات طويلة.
وخلاصة القول إن أوروبا تعرضت لأضرار فادحة من حيث أرادت أن تُعاقب روسيا وتلحق بها الضرر، وتُجبرها على الانسحاب من أوكرانيا والتسليم بتوسع حلف «الناتو» باتجاه الشرق وصولا إلى الحدود الروسية.
وإذا كانت هذه هى الصورة العامة فإن لها تفاصيل أكثر دلالة وخطورة سنتناولها فى مقالات قادمة..
وللحديث بقية..