د. محمد فراج يكتب : سد الخراب الإثيوبى يتعثر
عادت قضية سد الخراب المعروف بسد النهضة إلى الواجهة خلال الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التحركات والتصريحات العدوانية الإثيوبية، التى يحاول من خلالها آبى أحمد إطلاق سحب كثيفة من الدخان حول عوامل الفشل والتشققات التى تهدد الكيان الإثيوبى كله، والتى تجلت بوضوح فى الحرب الأهلية الشرسة التى اجتاحت بلاده خلال العام المنقضى، وكادت تؤدى إلى سقوط عاصمة بلاده فى أيدى قوات (التيجراى) أو حلفائهم من أبناء القوميات الأخرى التى تتعرض لاضطهاد لا حد له فى (سجن الشعوب) الإثيوبى. وإذا كانت المساعدات الخارجية قد أنقذت آبى أحمد وعاصمته من السقوط بمعجزة، وفى اللحظات الأخيرة، فإن النيران لا تزال مشتعلة تحت الرماد، وعوامل التشقق والتفكك لا تزال كامنة تهدد بالانفجار من جديد.
وبمجرد إفلاته من الهزيمة التى كانت تبدو مؤكدة اصطحب آبى أحمد وزراءه إلى موقع سد الخراب ليجتمعوا هناك، مؤكداً الإصرار على استكمال بناء السد، فى محاولة مشكوك فى نجاحها للملمة صفوف الشعوب الإثيوبية التى فرقتها الحرب الأهلية. ثم وجه آبى أحمد رسالة (باللغة العربية!) إلى شعبى وزعماء مصر والسودان كرر فيها أحاديثه المعسولة ومزاعمه حول أهلية السد لتنمية إثيوبيا، ومزاعمه حول الآثار الإيجابية لسد الخراب على بلدى المصب، دون أن يذكر كلمة واحدة من حقوق الشعبين المصرى والسودانى التاريخية الثابتة فى مياه النيل الأزرق، أو حصتهما المعروفة والمؤكدة فيها، أو أي التزامات إثيوبية فى هذا الصدد.. ودون إشارة إلى المفاوضات التى كان مقرراً أن تجرى بين البلدان الثلاثة تحت إشراف الاتحاد الإفريقى، والتى تعطلت طويلاً بسبب الحرب الأهلية فى إثيوبيا ونهج أديس أبابا المعروف فى المراوغة والتعنت.
وبدلاً من استئناف المفاوضات الثلاثية حول قضية السد، لجأ آبى أحمد إلى دعوة الفريق أول محمد حمدان تعلو (حميدتى) نائب رئيس المجلس السيادى السودانى إلى أديس أبابا لإجراء مباحثات معه حول السد ومنطقة الفشقة المجاورة له - والتى ظلت إثيوبيا تحتلها لعشرات السنين - ومحاولة لإقناع المسئولين السودانيين بإعادة المستوطنين الإثيوبيين الذين تم طردهم من هذه المنطقة!! والواقع أن مثل هذه المحاولات الساذجة التى تنطلق من أوهام إثيوبية حول إمكانية التفرقة بين القاهرة والخرطوم، والاستفراد بالسودان هى محاولات محكوم عليها بالفشل.. وهى تعكس الجهل بمدى عمق العلاقة بين البلدين والشعبين الشقيقين وعمق إدراك المسئولين فى البلدين لهذا الترابط المصيرى.
كذلك كان طبيعياً تماماً أن تفشل هذه المحاولات الساذجة فى تحقيق أهدافها الخبيثة، وهو ما عكسته خيبة الأمل التى اتسمت بها التعليقات الأخيرة لعدد من الخبراء والمحللين والمسئولين الإثيوبيين (راجع مثلاً : قناة «الحدث» السعودية وموقعها الإلكترونى - 8 و 9 فبراير الجارى).
مراوغة .. وفشل
وبالرغم من الخطابات الدعائية حول «التنمية المشتركة لصالح الشعوب» وما شابهها من كلمات معسولة، فإن إثيوبيا تواصل سياستها المراوغة، وتمتنع عن تقديم المعلومات لكل من مصر والسودان عن التطورات المتصلة ببناء السد، بما فى ذلك مثلاً قطع الأشجار فى مساحات ضخمة حول بحيرة السد استعداداً (للملء الثالث) مع بدء موسم الفيضان الصيف القادم، والمحاولات الفاشلة المتكررة لتشغيل توربينين من توربينات السد، ويرجع ذلك إلى عيوب فنية فى هذه التوربينات، وإلى قلة المياه المخزونة فى بحيرة السد بسبب فشل عمليتى الملء، الأول والثانى، نتيجة لعدم ارتفاع مستوى بناء سد الخراب إلى الدرجة المطلوبة.. ويشير خبير المياه الدكتور عباس شراقى إلى أن مجموع الملء الأولى والثانى لم يتجاوز ثمانية مليارات م3. - بينما كان مفروضاً حسب الخطة الإثيوبية - أن يصل إلى ثمانية عشر ملياراً ونصف المليار.. وإلى أن توليد الكهرباء من أول توربينين منخفضين (عند منسوب 565م) يمثل المرحلة الأولى من السد، التى كان مقرراً لها أن تكتمل عام 2014.. وتكرر تأجيلها كل عام وحتى الآن (المصرى اليوم - 11/11/2021) واستمر هذا الفشل حتى الآن، حيث يقول الخبير الدكتور شراقى إن صور الأقمار الصناعية أكدت عدم تشغيل أى توربين مع استمرار تدفق المياه من أعلى الحد الأوسط للسد (مصراوى - 1 فبراير 2022) ويذكر فى المقالين أسباب الفشل فى توليد الكهرباء، وتنفيذ خطة التخزين وأهمها:
1 - وجود مشاكل جيولوجية تؤخر الانتهاء من الأعمال الهندسية.
2 - ضعف التمويل اللازم لإنشاء السد.
3 - الفساد وعدم الكفاءة فى إدارة السد مما اضطر آبى أحمد لاستبعاد الشركة الإثيوبية المكلفة بالأعمال الكهربائية.
4 - الاضطرابات المستمرة داخل إثيوبيا، وآخرها الحرب الأهلية التى انطلقت من إقليم (التيجراى) واتحاد تسع حركات قومية مسلمة ضد النظام، مما هدد بسقوط أديس أبابا لولا الدعم الخارجى المكثف (المصرى اليوم 11/11/2021 - ومصراوى 1/2/2022) وتؤكد صحف ووكالات أنباء مصرية وعربية وعالمية كثيرة صحة ما يذكره الدكتور شرافى استناداً إلى شهادات خبراء آخرين وإلى صور الأقمار الصناعية لإشارات السد، ولبحيرة التخزين.
والواقع أن ما يروج له نظام آبى أحمد حول اكتمال نحو (80٪) من الأعمال الإنشائية فى السد، وحول قرب بدء توليد الكهرباء - الذى يتأجل باستمرار - هو محاولة يائسة من النظام لتحسين شعبيته داخلياً بعد أن خسر الجزء الأكبر منها نتيجة لسياسته الفاشلة وللحرب الأهلية التى كادت تطيح به، ولم تنطفئ ألسنة نيرانها حتى الآن، والتى ارتكب خلالها جرائم ومذابح وحشية ألحقت ضرراً فادحاً بسمعته الدولية، ومن ناحية أخرى فإن هذه الدعايات الزائفة هى محاولة لتصوير الأمر أمام المجتمع الدولى، وكأن قضية السد «قد انتهت» أو أنها على وشك الانتهاء، وكأنه لم يعد هناك سبب للنزاع!! وهى محاولة لا تنطلى على أحد بالطبع.
إثيوبيا ومعضلة السد
والحقيقة أن سد الخراب يعانى منذ البدايات الأولى لإنشائه من (خطيئة أصلية) تتمثل فى أن موقع إنشائه نفسه غير مناسب لأنه موقع فوالق جيولوحية غير مستقرة.. وهو الاعتراض الذى طرحته مصر والسودان منذ البداية.. غير أن إثيوبيا لم تكتف بهذه (الخطيئة الأصلية) وإنما مضت فى تغيير خطة التخزين من (12 مليار م3) فى البداية، لتصل إلى (74 مليار م3) الأمر الذى يفاقم بشدة من عيوب الموقع، وحول السد إلى قنبلة موقوتة بالغة الخطورة، يمكن أن تتسبب فى كارثة مدمرة لمصر والسودان فى حالة انهياره.. وهو ما أفاضت الأقلام فى شرحه، فلا نرى مبرراً للإفاضة فيه هنا.. لكن من الضرورى التأكيد على أن رفض إثيوبيا لمشاركة مصر والسودان فى إعداد مشروع بناء السد.. ورفض الاسترشاد بالخبرات الدولية المحترمة فى هذا الصدد (انطلاقاً من كون المسألة قضية سيادية!) يخلق وضعاً بالغ الخطورة يعطى مصر والسودان الحق فى إعادة مناقشة المشروع وإخضاعه للتقييم (المشترك والدولى) قبل أن ينشأ وضع تستحيل معالجته، خاصة أن عملية الملء تتعثر بصورة متكررة.. وهذا إضافة إلى حقوقنا التاريخية وحصتنا الثابتة فى المياه بالطبع.
*****
المعضلة الثانية التى تواجهها إثيوبيا هى أن الاضطرابات السياسية والعسكرية التى تعصف بالبلاد تعوق بشدة إمكانية حشد الموارد اللازمة لمواصلة بناء المشروع حسب الخطط غير الواقعية لتنفيذه.. وهو ما أثبتته تجربة السنوات الماضية، وتعثر خطوات البناء والتخزين، وما يثبته الاحتمال القوى لعدم تنفيذ خطة (الملء الثالث) هذا العام بسبب قصور الإمكانات والموارد. ويجب هنا أيضاً التنبيه إلى أن تحقيق الاستفادة من توليد الكهرباء عن طريق السد (إذ قدر له أن يحدث) يحتاج إلى استثمارات ضخمة غير متوفرة، وتزداد صعوبة توفيرها بسبب أوضاع عدم الاستقرار السياسى والعسكرى.
النقطة الثالثة بالغة الأهمية هى أن أوضاع عدم الاستقرار السياسى والعسكرى، تؤدى حتماً إلى هروب رؤوس الأموال وليس الأجنبية وحدها، بل والمحلية أيضاً، وتزيد من صعوبة حشد الموارد الضرورية لتنفيذ المشروع.. ومن ناحية أخرى فإن الجهود الدبلوماسية والسياسية المصرية فى مختلف المحافل الدولية، كان لها أثر لا شك فيه فى تقليص الاستثمارات والمساعدات الخارجية لإثيوبيا، ومن ثم فى تأثير عملية بناء السد بصورة واضحة.
وإذا أضفنا إلى ذلك كله الجهود التى بذلتها مصر خلال الأعوام والشهور الماضية لتعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية (والعسكرية) الدول الإفريقية عموماً، والدول المحيطة بإثيوبيا والقريبة منها خاصة، فسنجد أن هذا كله قد خلق واقعاً أكثر مواتاة لدعم الموقف المصرى (والسودانى) تجاه قضية سد الخراب وحقوقنا التاريخية فى مياه النيل بعض النظر عن المكابرة القارية التى لا تنجح فى إخفاء الضعف المتزايد للموقف الإثيوبى - كما أوضحنا أعلاه وبديهى أن هذا كله لا ينفى حقيقة أن جميع الخيارات تظل مفتوحة أمام مصر فى هذه القضية المصيرية لشعبنا وبلادنا.