”مبادرة ترامب”.. اعتراف أمريكى بهزيمة الغرب فى المواجهة مع روسيا

تطورات بالغة الأهمية فى خريطة العلاقات الدولية تمثلها المحادثات الروسية – الأمريكية الجارية خلال الأيام القليلة الماضية حول تسوية الأزمة الأوكرانية، وسبل وضع حد للمواجهة الشاملة بين روسيا والغرب فى أوكرانيا والتى يُسميها الإعلام الغربى بـ"الحرب الروسية – الأوكرانية" وهى تسمية خاطئة يتم اختيارها عمدا، بينما تمثل الحرب فى أوكرانيا مواجهة عسكرية – سياسية – اقتصادية – إعلامية شاملة بين "الناتو" وحلفائه فى العالم من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، تتخذ من الأراضى الأوكرانية مسرحا لها، بينما تمتد أبعادها وتداعياتها لتشمل العلاقات الدولية بمجملها، كما أن سبب اشتعالها كان محاولة حلف الناتو لضم أوكرانيا إليه فى سياق مخططاته للتوسع شرقا بهدف حصار روسيا وإضعافها وإلحاق هزيمة استراتيجية بها.
التطورات الأخيرة بدأت بمحادثة هاتفية أجراها الرئيس الأمريكى ترامب (12 فبراير الجارى) بنظيره الروسى بوتين واستمرت لمدة ساعة ونصف بهدف إطلاق عملية تفاوضية حول سبل إنهاء الحرب فى أوكرانيا تنفيذًا لوعد ترامب أثناء حملته الانتخابية بالسعى لوضح حد لهذه الحرب والمواجهة فادحة التكلفة للعالم كله التى ارتبطت بها.
وخلال أقل من أسبوع كان وفدان رفيعا المستوى برئاسة كل من وزير الخارجي الروسى سيرجى لافروف ونظيره الأميركى ماركو روبيو يجتمعان فى العاصمة السعودية الرياض (18 فبراير) فى محادثات مطولة استمرت أربع ساعات ونصفًا ووصف كل من بوتين وترامب نتائجها بأنها جيدة جدا وتمثل تمهيدا جيدا لقمة روسية أمريكية قريبة، ربما تكون قبل نهاية هذا الشهر، بعد استكمال بحث عدد من القضايا المتعلقة بالعلاقات بين البلدين والعلاقات الدولية عموما.
وأول ما ينبغى ملاحظته حول هذه المحادثات هو أنها تجرى بين روسيا وأمريكا مباشرة دون حضور الاتحاد الأوروبى شريك الولايات المتحدة الاستراتيجى وشريكها الكبير فى دعم أوكرانيا سياسيا وعسكريا واقتصاديا طوال سنوات المواجهة، وكذلك بدون حضور أوكرانيا التى تدور المحادثات حول مصيرها والتى تقم بدور وكيل الغرب فى "الحرب بالوكالة" الجارية على أرضها!
أوروبا والخيارات الصعبة
والمفارقة هنا تكمن فى أن أمريكا هى التى دفعت أوروبا لخوض المواجهة مع روسيا حول أوكرانيا واتخاذ العقوبات التى عادت على الاتحاد الأوروبى بخسائر فادحة تقدر بتريليونات من الدولارات ثم تمضى الولايات المتحدة فى التفاوض مع روسيا تاركة أوروبا وحدها فى المواجهة ولو بشكل غير مباشر، ولتجد القارة العجوز نفسها مضطرة لمتابعة أخبار المفاوضات من الصحف على حد تعبير رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان الذى طالما دعا إلى تسمية الصراع سلميًا، ووصف العقوبات الأروبية الصارمة ضد روسيا وما لهذه العقوبات من انعكاسات سلبية شديدة الوطأة على الاقتصادات الأوروبية بأنها أشبه "بمن يقطع أنفه ليغيظ جيرانه" أو بمن يطلق الرصاص على قدميه والذى تعرض بسبب موقفه هذا إلى انتقادات أوروبية قاسية بل وتعرضت بلاده لعقوبات اقتصادية برغم كونها عضوا فى الاتحاد الأوروبى وفى الناتو.
والحقيقة أن أوروبا التى اتخذت موقف التبعية العمياء تجاه واشنطن ودفعت ثمنا فادحا لهذه التبعية تجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن تواصل المواجهة مع روسيا وحيدة وهذا معناه مزيد من الخسائر، مع ملاحظة أنها إذا كانت أمريكا تخوض المواجهة معها، فإن احتمالات "الانتصار" تصبح صفرية فى غياب أمريكا، وإما أن تنسحب من المواجهة وتلهث وراء موسكو وواشنطن فى المسار التفاوضى – الذى لم يدعها أحد إليه - بما يعنيه ذلك من هزيمة وتهميش لدورها فى الناتو وفى العلاقات الدولية عموما، وما يترتب على ذلك كله من محاسبة شعبية للزعماء الأوروبيين.
والحقيقة – التى لا تقل أهمية – هى أن الموقف الأمريكى الأخير سيحدث صدعا كبيرا فى حلف الناتو وسيطرح أسئلة مرعبة للقارة العجوز حول كيفية تحقيق "الأمن الأوروبى" وخاصة أمن دول أوروبا الشرقية، بعد أن رأت كيف اختارت أمريكا مصالحها دون مبالاة بمواقف حلفائها الأوروبيين والأمر المؤكد أيضا هو أن الدول الأوروبية الكبرى ستجد نفسها مضطرة لزيادة كبيرة فى إنفاقها الدفاعي لتحقيق حد أدنى من الأمن، الأمر الذى يمثل عبئا إضافيا على اقتصادياتها، وبالتالى سيؤثر على مستوى معيشة سكانها بما يترتب على ذلك من انعكاسات سياسية واجتماعية داخلية واختيارات للناخبين.
وإذا كانت دول الرفاه الأوروبية قد تململت وماطلت طويلا حينما طالبها ترامب – أثناء ولايته الأولى – بزيادة إنفاقها الدفاعى إلى (2% - اثنين بالمائة) من ناتجها المحلى الإجمالى، ثم انزعجت كثيرا حينما طالبها ترامب مؤخرا بزيادة إنفاقها الدفاعى إلى (5% - خمسة بالمائة) من ذلك الناتج، فكيف يكون الحال إذا اضطرت لأن تنفق الخمسة بالمائة أو أكثر على الدفاع؟! ومفهوم طبعا أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا على حساب أوجه الرفاهية الاجتماعية الأوروبية المعروفة أو من خلال زيادة الضرائب، وكلا الأمرين أمر من الآخر، وله تأثير سلبى على الاستقرار السياسى والاجتماعى وخاصة فى ظل تزايد نفوذ الأحزاب اليمينية الراديكالية والفاشية الجديدة.
كما أنه من ناحية أخرى سيؤدى إلى إنعاش اليسار والحركة النقابية وهذا أمر تنظر إليه الأحزاب الحاكمة فى أوروبا بين الخطورة الأشد بكثير من خوفها من الأحزاب الفاشية ولنتذكر مثلًا الضراوة التى تعامل بها ماكرون مع حركة "القمصان الصفراء" اليسارية.
اعتراف بالهزيمة
وسط الضجة الهائلة التى أثارها فى الغرب تقديم ترامب لمبادرته لإنهاء الحرب الأوكرانية تفرض نفسها أسئلة هامة حول أسباب تقديم المبادرة وموافقة ترامب على العديد من الشروط الروسية لإنهاء الحرب والسرعة الواضحة وغير المألوفة لتقدم المحادثات بين موسكو وواشنطن، والتى تجعل المراقبين يتحدثون عن قمة قريبة، وعدم مبالاة ترامب بالموقف الأوروبي.. إلخ.
والإجابة بسيطة: إن "مبادرة ترامب" هى اعتراف أمريكى فعلى بهزيمة الغرب فى المواجهة مع روسيا حول أوكرانيا من جهة، والحاجة للتحول نحو حشد القوى فى مواجهة الصين من جهة أخرى.
فبعد ثلاث سنوات من اشتعال الحرب فى أوكرانيا ومن ضخ موارد أمريكية وأوروبية هائلة فى هذه الحرب، ومن العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة فى التاريخ فنجد أن روسيا قد تمكنت من الاستيلاء على حوالى (20% - عشرين بالمائة) من إجمالى مساحة أوكرانيا، بما فى ذلك شبه جزيرة القرم ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة في البحر الأسود (عام 2014) والجزء الأكبر من مقاطعات دونيتسك ولوجانسك وخيرسن وزابوروجيه، فى شرقى وجنوب شرقى البلاد، وانتزعت منها بحر آزوف والجزء الأكبر من سواحلها على البحر الأسود (منذ اندلاع الحرب فى 24 فبراير 2022) لتقيم اتصالا بريا بين الأراضى الروسية وشبه جزيرة القرم.
وبينما تتضاءل قوة الجيش الأوكرانى المدعوم بالمرتزقة الغربيين بفعل الخسائر البشرية وسوء الأداء – بالرغم من وفرة المستشارين الأطلسيين – وتتقلص قدرة الغرب على إمداده بالمعدات والذخائر فإن القوات الروسية تحقق تقدما بالاستيلاء على مساحات جديدة في شرقى أوكرانيا باستمرار، كما ألحقت خسائر فادحة بالقوات التى تمكنت من تحقيق اختراق فى مقاطعة كورسك الروسية واستعادت نحو ثلثي مساحة المناطق التى كان الأوكرانيون قد استولوا عليها وبدأت فى محاصرة القوات الباقية.
وهكذا فقد تبخر حلم الغرب بإلحاق "هزيمة استراتيجية" بروسيا وإجبارها على الانسحاب من الأراضى الأوكرانية وفرض تسوية عليها تحقق الأهداف الغربية، بينما يمكن القول بدون تحفظات بأن روسيا قد حققت انتصارا استراتيجيا فى أوكرانيا.
أما فيما يتصل بالعقوبات الغربية فقد فشلت فى إنهاك الاقتصاد الروسى الذى يحقق نموا لافتا بلغ (3.2% ثلاثة ونصف بالمائة عام 2023 و4% أربعة بالمائة عام 2024) بينما أدت الآثار السلبية للعقوبات الغربية إلى حالة ركود فى أغلب البلدان الأروبية الكبرى (نمو سلبى أو صفرى أو بالغ الضآلة) وإلى تفاقم التضخم بسبب ارتفاع تكلفة الطاقة، وإلى زيادة نسبة البطالة، وتمكنت روسيا من إيجاد أسواق بديلة لصادراتها من موارد الطاقة، وتحقيق مكاسب جديدة بفعل ارتفاع الأسعار، كما تمكنت من التغلب على العقوبات الخاصة بحظر أغلب مؤسساتها المالية والاقتصادية من منظومة سويفت الغربية للتسويات المالية ومن تعويض خسائرها من الاحتياطيات الدولية بسبب تجميد الغرب لثلاثمائة مليار دولار من هذه الاحتياطيات وحققت تقدما كبيرا للغاية فى مجال التعامل بالعملات الوطنية فى إطار مجموعة "البريكس" وخارجها، بعيدا عن سطوة الدولار المهيمن على الأسواق المالية والعالمية.
وعلى مستوى العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية تعززت علاقات روسيا بعدد من أكبر الاقتصادات العالمية وخاصة الصين والهند كما تعزز دور "البريكس" و"منظمة شنغهاى" اللتين تلعب روسيا فيهما دورا محوريا، كما تعزز دورها فى أفريقيا عموما، وفى غرب أفريقيا بصورة خاصة وعقدت قمة ناجحة مع الدول الأفريقية (قمة روسيا – افريقيا) العام الماضى، وعموما قد فشلت الجهود الغربية لعزل روسيا دوليا، وهو ما انعكس مثلا فى تعزيز دور منظمة "أوبك بلاس – أوبك +" فى الأسواق البترولية وغير ذلك من المظاهر والاتجاهات، لاحظ مثلا توسع مجموعة البريكس ورغبة دول عديدة فى الانضمام إليها.
وبالنظر إلى ذلك كله لم يعد هناك مفر من الاعتراف بفشل الغرب فى عزل ومحاصرة روسيا، أو فى الانتصار عليها عسكريا، ولابد من الإشارة هنا أيضا إلى أن الصناعات العسكرية الروسية قد حققت تطورا كبيرا فى إنتاجها بما جعل لديها كفاية تامة في إنتاج الأسلحة والذخائر وتأمين احتياجات جيشها، علاوة على نجاحها فى تعزيز قدراتها الصاروخية بإنتاج كميات كبيرة من الصواريخ المتطورة (فائقة السرعة أو الفرط صوتية) بما فى ذلك إنتاج أنواع جديدة أكثر تطورا.
وبناءا على كل ذلك لم يعد هناك أى منطق فى مواصلة هذه الحرب التى صمدت فيها روسيا فى مواجهة الغرب كله وأصبح استمرار الحرب ثمثل فرصة لروسيا فى تعزيز مكاسبها من الحرب، وبالطبع فى ظل حماية ترسانة نووية قوية (الثانية فى العالم بعد أمريكا) وأصبح من الحكمة السعى إلى التسوية بدلا من استمرار الحرب الخاسرة بالنسبة للغرب، وهو ما لم يدركه جو بايدن وفريق إدارته والحزب الديمقراطى الأمريكى.
ومن ناحية أخرى فإن التوجه الاستراتيجى الأمريكى لمحاولة احتواء الصين وما يسمى بالخطر الصينى وحشد القوى فى مواجهة العملاق الأصفر أصبح يقتضى من وجهة نظر استراتيجيين أمريكيين عديدين ضرورة تركيز الجهود فى منطقة شرق وجنوب شرق آسيا باعتبار الصين هى المنافس الاستراتيجى الأول والأخطر لأمريكا، كما أصبح واضحًا أن هذا الهدف من الصعوبة بمكان كبير تحقيقه مع الاستمرار في المواجهة ضد روسيا.
ومن ناحية ثالثة فإن التصعيد الأمريكى والغربى مع روسيا قد دفعها لتعزيز تقاربها مع الصين بما فى ذلك إمدادها بتكنولوجيات عسكرية متقدمة فضلا عن قدرات الصين ذاتها، وهو ما من شأنه إضعاف قدرات أمريكا والغرب فى مواجهة الصين.
والواقع أن إدراك هذه الحقائق الأساسية هو ما دفع ترامب (وقيادة الحزب الجمهوري) ومن خلفه للتفكير فى إمكانية خلخلة التحالف الروسي – الصينى ومحاولة تحقيق تقارب مع روسيا أو على الأقل تطبيع العلاقات معها، ومن ثم كانت "مبادرة ترامب" ضرورة لأمريكا واعترافا فعليا بهزيمة الغرب فى المواجهة مع روسيا وتعبيرا براجماتيا عن ضرورة الاعتراف بمتغيرات أساسية فى العلاقات الدولية.
وبديهى أن هذا سيحقق مكاسب هامة لروسيا فى مواجهتها مع الغرب ويعزز وضعها فى العلاقات الدولية وكذلك فى العلاقات مع أمريكا ويفتح الطريق لمعالجة أكثر تكافؤا لقضايا مثل تقليص التسلح النووى ومن شأن هذا كله أن يمثل دفعة كبيرة لتوجه العالم نحو بناء نظام دولى متعدد الأقطاب.
وسنحاول فى مقالات لاحقة معالجة تفاصيل مهمة فى القضايا التى تناولناها هنا باختصار شديد، وبغيرها من القضايا المتصلة برسم عديد من الملامح الهامة للنظام العالمى فى مرحلة الانتقال إلى تعدد القطبية.