د.محمد فراج يكتب : «تسونامى كورونا».. ومقتضيات المواجهة
يبدو أن جائحة «كورونا» لن تغادرنا قريباً بغض النظر عن التقارير والتصريحات المتفائلة التى تصدر من وقت لآخر عن المسئولين فى منظمة الصحة العالمية، أو فى بعض البلدان، لأن التفاؤل سرعان ما يتراجع أمام تقارير وتصريحات ووقائع جديدة تبعث على الخوف والتشاؤم.
وبعد أن كان العلماء قد توصلوا إلى صنع لقاحات فعالة فى زمن قياسى، وبدأت المصانع فى إنتاج كميات كبيرة منها، مما جعل بعض كبار المسئولين يتحدثون عن إمكانية بدء انحسار الوباء بحلول أواخر العام الجارى أو أوائل العام القادم (2023) بدأت فى الظهور سلالات جديدة (متحورة) من الفيروس أشد فتكاً من السلالة الأولى، وتحديداً (دلتا - 1) و(دلتا - 2) بدت اللقاحات الموجودة أقل قدرة على مواجهتها، كما بدت الأدوية أقل قدرة على تحقيق الشفاء منها ليزداد عدد الإصابات بصورة كبيرة، وتزداد حالات الوباء إلى أكثر من (5 ملايين) فى مختلف بلدان العالم.
ثم ظهر المتحور (أوميكرون) فى منتصف نوفمبر الماضى لتنتشر (كورونا) بسرعة مخيفة وتصبح أشبه (بتسونامى) يجتاح العالم، ويصيب عشرات الملايين خلال أسابيع.. وإذا كان أقل شراسة من (دلتا - 1 ودلتا - 2) إلا أن انتشاره بالغ السرعة كان يسبق قدرات النظم الصحية على تطعيم الناس، وعلى تقديم العلاج للمصابين، وسرعان ما ظهرت متحورات جديدة من (أوميكرون) أهمها (آى بى- 1) و (آى بى- 2) ليعلن تيدروس جيبريسوس رئيس منظمة الصحة العالمية أن عدد الحالات التى تم الإبلاغ عنها من الإصابات بمتحور (أوميكرون) والمتحورات المتفرعة عنه بلغ أكثر من (90 مليوناً) خلال الفترة من منتصف نوفمبر الماضى حتى أواخر يناير 2022 (الأهرام - 3 فبراير الجارى).
كما أعلن رئيس منظمة الصحة العالمية أن (أوميكرون) ومتحوراته هى فيروسات (خطيرة) وأنها تسببت فى وفيات كثيرة على عكس ما كان العلماء يتوقعون، وخاصة بين أولئك الذين لم يحصلوا على التطعيم، وهم الأغلبية بين سكان العالم.. وذلك بخلاف التقديرات الأولية للأطباء الذين كانوا يؤكدون فى بداية انتشار المتحور الجديد، الذى كانوا يقولون إن الإصابات به خفيفة ومن النادر أن تؤدى إلى الوفاة.
وحذر جيبرسوس من إعلان بعض الدول الانتصار على كورونا، مؤكداً أن «من المبكر جداً» الإعلان عن قرب انتهاء الأزمة فى ظل الانتشار الواسع للفيروس «وارتفاع عدد الوفيات» مؤكداً أن هذا الفيروس خطير..، وعلى سبيل المثال فإن الولايات المتحدة الأمريكية شهدت حالات إصابة تقدر (بالمليون) أو أكثر كل يوم فى الفترة من بداية يناير حتى نهايته وكما شهدت (55 - خمسة وخمسين ألف حالة وفاة) (الأهرام - 1 فبراير).
وإذا كان تلقى التطعيمات يقلل من خطورة الأعراض المصاحبة لمتحور (أوميكرون) من نسبة الوفيات، فلابد أن نضع فى اعتبارنا أن نسبة الذين تلقوا التطعيم فى قارة كإفريقيا تبلغ (5٪ - نكرر خمسة بالمائة فقط) فى قارة إفريقيا التى يبلغ عدد سكانها نحو مليار نسمة تنتقل أعداد كبيرة منها فى مختلف بلدان العالم (الأهرام - 1 فبراير) ومعروف أن (أوميكرون) ظهر للمرة الأولى فى جنوب إفريقيا وبعض البلدان الصغيرة المحيطة بها لينتشر منها إلى بقية بلدان العالم انتشار النار فى الهشيم. أما فى منطقة الشرق الأوسط فإن نسبة الذين تلقوا التطعيم متفاوتة من بلد إلى آخر، وهى عموماً أقل بكثير منها فى البلدان المتقدمة (70 – 75% من سبعين إلى خمسة وسبعين فى المائة) وهى أقل من (عشرة فى المائة) فى بلدان مثل سورية، والسودان واليمن وأفغانستان والصومال وجيبوتى، وثلاثين دولة أخرى فى مختلف أنحاء العالم (فرنسا 24 / بتاريخ 1/2/2022) وبديهى أن يؤدى هذا إلى انتشار أكبر للوباء فى تلك البلدان ومنها إلى مختلف أنحاء العالم، من ثم تتعرض النظم الصحية فى العالم إلى إنهاك شديد ويضعها على حافة الانهيار.
الأنانية القاتلة
وإذا كان العلماء يقدرون نسبة التطعيم اللازم لبلوغ درجة المناعة الجماعية (أو ما يسميه الأطباء بمناعة القطيع، أو المناعة الجماعية) بسبعين إلى ثمانين فى المائة من سكان العالم، فإن نسبة التطعيم المرتفعة بين سكان الدول المتقدمة (سبعين إلى خمسة وسبعين فى المائة) تفقد الجزء الأكبر من قيمتها نتيجة لانخفاض نسبة التطعيم فى العالم ككل، والحركة المستمرة لسكان مختلف البلدان فى البلدان الأخرى، وهكذا فإن استئثار سكان البلدان الأكثر تقدماً بالنصيب الأعظم من اللقاحات لا يوفر لهم الحماية المطلوبة، خاصة فى ظل تراجع إجراءات الإغلاق الصارمة، التى شهدها عام 2020 خصوصاً تحت وطأة الخسائر الاقتصادية الفادحة فى قطاعات الإنتاج والنقل والتجارة والسياحة.
ومن ناحية أخرى فإننا نجد نسبة غير قليلة من سكان البلاد المتقدمة (خمسة وعشرون إلى ثلاثين بالمائة) يرفضون التطعيم بسبب الشائعات غير المسئولة ضده فى وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى حول الآثار السلبية الفادحة للقاحات كما ترفض نسبة كبيرة منهم الإغلاق بأي درجة، أو الإجراءات الاحترازية الأخرى، بما فيها ارتداء الكمامات وهكذا نرى أن نسبة الإصابات والوفيات فى تلك البلدان كبيرة جداً. بما لا يتناسب مع درجة تقدم النظم الصحية فيها.. ولا مع الجرعات التعزيزية من اللقاحات والغريب أن يتم هذا تحت شعارات الحرية وحماية الحقوق الفردية ويصل الأمر إلى حد تنظيم مظاهرات حاشدة ضد اللقاحات والإجراءات الاحترازية، دون أدنى إحساس بالمسئولية عن صحة وحياة بقية السكان!!.
وهكذا تتسبب أنانية الدول المتقدمة فى هزال نسبة تلقى التطعيم فى البلدان الفقيرة.. والمفروض أن يتم التوسع فى تقديم اللقاحات مجاناً للدول الأخيرة، أو مساعدتها على تصنيعه بإلغاء حقوق الملكية الفكرية للقاحات.. كما تمتنع الدول الغنية عن تقديم الأدوية التى تم التوصل إلى إنتاجها، أو إزالة قيود الملكية الفكرية عنها - وهى أدوية باهظة الثمن عموماً - ويؤدى هذا كله إلى تفاقم ضعف قدرات البلدان الفقيرة على حماية سكانها من الإصابة أو علاجهم.. ثم يعود فيرتد إلى صدور الدول الغنية فى صورة متحورات جديدة من الفيروس، وموجات جديدة من العدوى، تزداد اتساعاً بالتخفيف غير المسئول للإغلاق، بما فى ذلك فى مجالات غير ضرورية للتعافى الاقتصادى والإجراءات الاحترازية فى المجال الاجتماعى، ليدخل العالم فى دائرة شريرة من الموجات المتتالية لانتشار الوباء، ومن ثم فى إطالة أمد المعاناة بينما يواصل الإعلام فى كثير من الأحوال والبلدان القيام بدور غير مسئول في إشاعة تفاؤل لا يستند إلى الحقائق.. ويزيد الطين بلة تلك التصرفات غير المسئولة من جانب مسئولين كبار وسياسيين وقادة للرأى العام، والتى تقدم أمثلة بالغة السوء كما رأينا فى بريطانيا على سبيل المثال، حيث تفجرت أخيراً فضيحة (بارتى جيت).. (فضيحة الحفلات) التى تورط فيها رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون وأعضاء حكومته بإقامة حفلات فى مقر رئاسة الوزراء (وليس أى مكان آخر!) تم فيها انتهاك قواعد التباعد والإجراءات الاحترازية، التى يطالبون الشعب بالالتزام بها!! وبوسعنا طبعاً أن نتخيل التأثير السلبى الفادح لمثل هذه السلوكيات على الرأى العام فيما يتصل بالالتزام بالقواعد المذكورة وفقدان القيادة السياسية البريطانية لمصداقيتها الأخلاقية أمام شعبها، وهو موقف يدفع جونسون ثمنه غالباً هذه الأيام حيث تعرض لتوبيخ قاسٍ من البرلمان، واضطر للاعتذار بعد أن كان قد أنكر خطأه (ومثل هذا النوع من الكذب يمثل جريمة كبيرة فى المجتمعات الديمقراطية) وبناء على ذلك كله يواجه جونسون محاولة جديدة لسحب الثقة منه ومن حكومته.
كورونا فى مصر
تعتبر مصر من البلدان التى حققت نتائج لا بأس بها فى مواجهة كورونا ومقارنة بكثير من دول العالم الثالث.. فقد تم تطعيم أكثر من (40٪ أربعين فى المائة) من السكان، كما أن عدد الإصابات وحالات الوفاة بسبب كورونا يعتبر (تحت السيطرة) عموماً، مع ملاحظة أن الأرقام الرسمية تشمل المتعاملين مع المستشفيات والمراكز الصحية وحدهم، ولا تشمل الذين يتم علاجهم بوسائلهم الخاصة فى عيادات الأطباء وفى منازلهم، والذين يتوفون بعيداً عن القنوات الرسمية، وربما دون أن يعرفوا أنهم مرضى بكورونا، وهؤلاء لا توجد إحصاءات عنهم.
لكن من الضرورى الإشارة إلى حالة الاسترخاء العام فيما يتصل بالإجراءات الاحترازية وضرورات التباعد الاجتماعى سواء فى وسائل المواصلات أو الأسواق والمحلات أو فى المدارس والجامعات أو المكاتب الحكومية اعتماداً على اشتراط التطعيم للتردد عليها أو العمل فيها - وهو ما يقتضى ضرورة تشديد الإجراءات وتوفير مستلزمات الوقاية.
كما أن من الضرورى توفير أفضل مستلزمات الوقاية للأطباء وهيئة التمريض وكل الوظائف المساعدة لحماية صحتهم وحياتهم واستمرارهم فى أداء دورهم البطولى، وكذلك تحسين أجورهم بصورة تكافئ الجهد الكبير الذى يبذلونه، والخطر الذى يتعرضون له، وفى هذا الشأن نود الإشارة إلى سفر أعداد كبيرة من الأطباء والأطقم المساعدة إلى الخارج منذ بدء انتشار الوباء رسمياً إلى مرتبات وظروف عمل أفضل، علماً بأن هؤلاء جميعاً يمثلون ثروة قومية يجب الحفاظ عليها بكل جهد ممكن، خصوصاً فى ظل الظروف الصعبة التى يفرضها انتشار الوباء.
ولسنا بحاجة إلى القول إن رفع نسبة التطعيم بكل جهد ممكن وبأسرع ما يمكن هو أمر بالغ الأهمية، وإلى أن توفير بعض الأدوية الهامة بأسعار فى تناول محدودى الدخل هو أيضاً أمر بالغ الأهمية لأن الحق من العلاج يعنى الحق فى الحياة، وهو حق لا تفرقة فيه بين غنى وفقير.
كما أن تخفيض تكلفة فحص كورونا ( PCR ) مطلوب بشدة هو الآخر وقد نشرت صحف الخميس (1 فبراير) خبر تخفيض التكلفة من (تسعمائة جنيه إلى ستمائة وخمسين) وهو خطوة فى الاتجاه الصحيح بلا شك لكن من الضرورى خفض التكلفة أكثر (وجعلها بالمجان فى المستشفيات الحكومية) لتشجيع المواطنين على إجراء الفحوص اللازمة على نطاق أوسع بما يوفر ذلك من إمكانية لاكتشاف المرض فى الوقت المناسب.
حفظ الله مصر وشعبها من كل سوء