د.محمد فراج يكتب : حقائق وأوهام حول التطورات الأخيرة فى أفغانستان (٢ - ٢)
مسرح جديد "للفوضى الخلاَّقة" الأمريكية.. وملاذ آمن للإرهاب
مخاطر كبيرة على المنطقة وعيون العرب يجب أن تكون مفتوحة
لماذا تلتزم «القاعدة» الصمت؟ ولماذا ارتكبت «داعش» مذبحة المطار؟
استكملت القوات الأمريكية والأطلسية انسحابها من أفغانستان قبل يوم واحد من موعده المقرر، وأعلن البيت الأبيض والبنتاجون نهاية أطول حرب في تاريخ أمريكا، والتى استمرت عشرين عاما بالتمام والكمال.. وبدأ الحديث عن شروط إدماج «طالبان» فى المجتمع الدولى، وفي مقدمتها احترام حقوق الإنسان، وخاصة حقوق المرأة وتشكيل حكومة ممثلة لمختلف أطياف المجتمع الأفغانى، والتعاون مع أمريكا و«الناتو» فى مكافحة إرهاب «داعش» الذى وجه ضربة قاسية للقوات الأمريكية أمام بوابات مطار كابول، قبل أيام من استكمال انسحابها.. إلخ إلخ.
ولكن هل يعني انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان نهاية الحرب حقًا؟ الواقع أن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة!! فالانسحاب يعنى نهاية هذه المرحلة الأولى من الحرب، وتسليم واشنطن أفغانستان لطالبان «تسليم مفتاح» لكن هذا لا يعني نهاية الحرب، وإنما الاستعداد لبدء مرحلة جديدة منها لحساب أمريكا وإن لم يكن على أيدى جنودها، وإنما على أيدى «طالبان» والفصائل الإرهابية الأخرى الموجودة فى أفغانستان.. مرحلة يمكن أن تحمل ظاهريا اسم «الحرب على الإرهاب»، لكنها ستكون من حيث الجوهر مرحلة جديدة من «الفوضى الخلاَّقة» في منطقة آسيا الوسطى، من المؤكد أن ذيولها ستمتد إلي منطقتنا العربية، ويجب أن نكون مستعدين لها تماما، وأن نقيم سدودا متينة وأسوارا عالية حتى لا تضرب بلادنا موجة جديدة من الإرهاب الأسود.
وقد يبدو هذا الكلام غريبا للكثيرين، لكننا سنشرحه ونبرهن على صحته.
أفغانستان ملاذ آمن للإرهاب بإشراف أمريكى!
أشرنا فى مقالنا السابق «الأموال ـ ٢٩ أغسطس» إلى أن الاحتلال الأمريكى لأفغانستان لم يكن مجرد رد على ضرب برجى مركز التجارة العالمي بنيويورك «أحداث ١١/٩» وإنما جاء في إطار «سياسة الاحتواء المزدوج» لكل من روسيا والصين من خلال تغلغل الولايات المتحدة فى آسيا الوسطى، على تخوم الصين الغربية، بجوار إقليم «شينجيانج/ الأويجور» وإثارة القلاقل فيه، ونضيف هنا أيضا إقليم «التبت» على الحدود الغربية للصين، وكذلك السعي للتغلغل وتشجيع النشاط الإرهابى فى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية «طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، وأيضا قيرغيزستان وكازاخستان» التى تمثل «البطن الرخو» لروسيا من جهة الجنوب.
وكانت «طالبان» في سنوات التسعينيات قد احتضنت نشاط الجماعات الإرهابية المختلفة، وفى مقدمتها «القاعدة» تحت إشراف أمريكى مباشر، وبمشاركة أجهزة مخابرات إقليمية معروفة، وكانت مصر فى مقدمة البلدان العربية التي عانت من جرائم الإرهابيين الذين تلقوا التدريب في أفغانستان، وتلقوا التمويل والأوامر من أجهزة المخابرات المشار إليها ومن «القاعدة».
وبالرغم من الضربات التي تلقتها «القاعدة» من جانب قوات الاحتلال الأمريكى فإن «طالبان» بالذات هى التى تولت حماية جسد التنظيم والعديد من أهم قياداته طوال السنوات الماضية، وحتى الآن، وبالرغم من كل ما يقال عن ضرب «القاعدة» فالثابت أنها أرسلت آلاف الإرهابيين إلى العراق، وبالأخص إلى سوريا، حيث مثلت أحد أهم أعمدة الوجود الإرهابى من خلال فرعها هناك «جبهة النصرة» التي حملت بعد ذلك اسم «هيئة تحرير الشام» في محاولة لفرض وجود سياسى لها، بعد أن تم تصنيفها كمنظمة إرهابية من جانب مجلس الأمن الدولى، وبعد هزائمها في مناطق مختلفة من سوريا، سحبت «النصرة» قواتها إلى إدلب، مع غيرها من الفصائل الإرهابية الأخرى، حيث تضم «النصرة» عشرات الآلاف من الإرهابيين المدربين جيدا والمدججين بالسلاح.
كما أقامت «القاعدة» فرعا كبيرا لها في شمال افريقيا «فى ليبيا ودول الساحل والصحراء».
ولابد من ملاحظة أنه رغم الحديث المتكرر عن عزم أمريكا و«الناتو» على ضرب داعش أفغانستان، وخاصة بعد عملية مطار كابول، فإن أحدا لا يتحدث عن القاعدة التى تلتزم الصمت التام فى الفترة الأخيرة، لكى تتجنب توجيه الأنظار إليها فى هذه المرحلة الحساسة، ولكى لا تتسبب في إحراج طالبان في مرحلة تسعى فيها الأخيرة للحصول على اعتراف دولى بسلطتها، غير أن علاقات «القاعدة» القديمة بالتنظيمات الإرهابية في آسيا الوسطى وباكستان وفى الشرق الأوسط بالطبع تجعلها تسعى لاستئناف نشاطها على أوسع نطاق بعد فترة «الكمون» الحالية.
وجدير بالذكر أيضا أن عددا من القادة المؤسسين «للقاعدة» وفي مقدمتهم أيمن الظواهرى «زعيمها الحالى» كانوا من المنتمين أصلا «للإخوان المسلمين» ومن المرجح أن تكون لدى التنظيم علاقات غير معلنة بالتنظيمات الإرهابية المرتبطة بالتنظيم الدولى للإخوان.
الآخرون المسكوت عنهم
كما قامت الولايات المتحدة بنقل مئات من إرهابيى منظمة «الجيش الإسلامى التركستاني»- «الأويجور» إلى أفغانستان بعد الهزائم التي لقيها الإرهاب فى سوريا، حيث كان لهذا الجيش نحو أربعة آلاف مقاتل إرهابى في سوريا، تجمعوا فى إدلب، وهم معروفون بشراستهم الشديدة في القتال، وبعد هزيمتهم فى سوريا بدأ نقلهم إلى أفغانستان استعدادا لتسللهم إلي موطنهم الأصلى فى شينجيانج غربى الصين، وبالرغم من تواتر التقارير حول نقل «الأويجور» إلى أفغانستان طوال السنوات الأخيرة، فإن أحدا لا يتحدث عنهم هذه الأيام بل يتم تسليط الضوء عمدًا على داعش «ولاية خراسان» دون غيرها.
المنظمات الإرهابية الأخرى من آسيا الوسطى وخاصة «الحركات الإسلامية الأوزبكية» لديها آلاف من المقاتلين الإرهابيين أصبح الإعلام الغربي يلزم الصمت بشأنهم فى الفترة الأخيرة، وكان عدد كبير منهم يقاتل فى سوريا ثم تم نقلهم إلى أفغانستان، استعدادا للتسلل إلي بلادهم الأصلية، وهؤلاء بدورهم يلتزمون الصمت هذه الأيام حتى لا تتجه إليهم الأنظار، حيث إن الحديث هذه الأيام يدور حول بناء الدولة الأفغانية والسلام مع الجيران..إلخ.
وحدها «داعش» التنظيم الأشد تطرفا وتخلفا وشراسة، بل ضراوة، والأقل فهما للسياسة ومقتضياتها هى التى دخلت في مناوشات واشتباكات مع «طالبان» المضيفة وصاحبة البلد! علمًا بأن أغلب أعضاء التنظيم ليسوا من الأفغان بل أتت بهم القوات الأمريكية من سوريا والعراق بعد الهزائم التى منيت بها «داعش» فى البلدين، وتشير التقارير إلى أن عدد الدواعش في أفغانستان يتراوح بين ٥٠٠ وألف إرهابى، ولهم امتدادات محدودة في باكستان (تسمية ولاية خراسان تشير إلى أفغانستان ودول آسيا الوسطى المحيطة بها ).
ولا نستطيع أن نقطع بشيء فيما يخص دوافع وخلفيات هجوم داعش على المدنيين والقوات الأمريكية أمام مطار كابول، لكن المؤكد أن هذا الهجوم قد أدى إلى تسليط الضوء على «داعش» كممثل للإرهاب، وأسدل ستارا من التعتيم على المنظمات الإرهابية الأخرى الكثيرة الموجودة في أفغانستان، وهى المنظمات الأكبر والأخطر، والمؤهلة للعب أدوار كبيرة سواء في الصين «شينجيانج» أو فى دول آسيا الوسطى ومحاولة التسلل عبرها إلى روسيا، أو في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا والساحل والصحراء.
الفوضي الخلاقة ونظرية المؤامرة
تسارع مراكز الأبحاث وأجهزة الإعلام الأمريكية والغربية بالطبع إلى نفى أن تكون للولايات المتحدة علاقة بذلك كله، سواء من خلال استخدامها لـ«طالبان» أو بعيدا عنها ويساندها فى ذلك الكتاب العرب المتأثرون بالأفكار والدراسات الأمريكية ويسخر هؤلاء وأولئك بغطرسة زائفة مما يسمونه «سيطرة نظرية المؤامرة» على رءوس الباحثين والكتاب العرب!
وبديهى أنه لا يمكن تفسير كل ما يحدث علي ساحة العلاقات الدولية من خلال نظرية المؤامرة، لكن المؤكد أن المؤامرات وعمل أجهزة المخابرات هى إحدى أهم وسائل تحقيق مصالح الدول الاستعمارية على مدى التاريخ.. ومن لا يعترف بذلك هو إما ساذج أو مغرض.
وإلاّ فكيف يمكن تفسير حقيقة أن أمريكا قد تركت فى أفغانستان أسلحة تزيد قيمتها على الـ٨٠ مليار دولار (نكرر: أكثر من ثمانين مليار دولار) دون أن تسحبها أو تدمرها؟! علمًا بأن الوقت كان متاحا لذلك منذ أن اتفق ترامب مع «طالبان» على الانسحاب.. وخلال الشهور الماضية بالطبع.. وهى أسلحة بينها طائرات هليوكبتر مقاتلة وطائرات بدون طيار ودبابات وناقلات جنود ومدفعية وصواريخ أرض - أرض قصيرة المدى «جراد وخلافه» وصواريخ مضادة للطائرات وللدبابات، وكميات هائلة من الرشاشات وذخائر كل الأسلحة المذكورة وبديهي أن إيجاد من يستطيع تشغيل هذه الأسلحة وتدريب المقاتلين الأفغان عليها أمر ليس بالصعب، خاصة أن مصادر التمويل موجودة!
>> فهل يمكن أن تكون كل هذه الكميات الهائلة من السلاح والذخيرة قد تم تركها لكي تلهو بها «طالبان» أم أنها متروكة لدور قادم فى دول الجوار، بعد إحكام السيطرة على البلاد طبعا؟
فأمريكا التى أرادت التخلص من التورط المباشر فى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لكى تتفرغ لمواجهة الصين في شرق آسيا، تترك الأدوار المباشرة لوكلائها من التنظيمات الإرهابية «والدول الوظيفية» فى المنطقتين، وقد تحدثنا بقدر من التفصيل عن ذلك فى مقالنا السابق عن الموضوع «الأموال ـ ٢٢ أغسطس» وهى لم تعلن بالطبع تخليها عن سياسة «الاحتواء المزدوج» ولا عن أى تغيير لسياستها في آسيا الوسطى بل إن دوافع تمسكها بهذه السياسة قد تعززت حيث إن انتشار «الفوضى الخلاقة» فى آسيا الوسطى من شأنه أن يقطع امتداد «طريق الحرير العظيم» بين الصين وأوروبا، الذي يمر عبر هذه المنطقة، كما أن انتشار «الفوضى الخلاقة» المنطقة المحيطة بأفغانستان يمكن أن يساعد فى حصار وإنهاك إيران توطئة لضربها، وهى الجارة لأفغانستان من الجنوب الغربى.
أوهام حول باكستان
يشير بعض الكتاب إلى أن العلاقات القديمة بين طالبان وباكستان، لن تجعل الأخيرة تسمح لطالبان بالإضرار بمصالح الصين، حليفة إسلام آباد الاستراتيجية فى مواجهة الهند، خصمها التاريخى العملاق، والحقيقة أنه قد حدثت متغيرات كثيرة تجعل هذه الفرضية القديمة غير متوافقة مع الوقائع الجديدة. فقبل كل شيء تغيَّر نظام الحكم فى باكستان الذى أشرفت مخابراته على إنشاء «طالبان» (نظام برويز مشرف العسكرى)، والنظام الموجود الآن لا يملك نفس العلاقات الوثيقة بين «طالبان باكستان» التي تشكلت على غرارها الشقيقة الأفغانية، بحيث يكون لدي باكستان النفوذ القديم الذي كان لها عند الحركة، بل إن كل الشواهد تشير إلي أن علاقات «طالبان» بالأمريكان أكثر قوة، بينما حدث تباعد كبير بين باكستان وأمريكا، بسبب اختيار الأخيرة للتقارب مع الهند لدعمها فى مواجهة العملاق الصينى، ولإضعاف تحالفها القديم مع موسكو فى ظل حكومات حزب المؤتمر، بينما تبدى حكومات حزب «بهاراتيا جاناتا» اليمينية الهندوسية ميلا أكبر للتقارب مع الولايات المتحدة والغرب، مستفيدة من تصاعد العداء الأمريكى والغربى تجاه الصين.
وإذا أضفنا لذلك التفاهم الطالبانى الواضح مع أمريكا علي حساب التقارب «القديم» مع الحكم في باكستان، عنصر التمويل القطرى القائم والقادم للحركة، والدور التركى فى الدعم الفنى والتكنولوجى الذي تؤيده أمريكا، فضلا عن العلاقات الواسعة التي نشأت بين طالبان وعدد من الدول الغربية، فسنجد أن النفوذ الباكستانى في أفغانستان قد اعتراه ضعف واضح، مرشح للتزايد فى المستقبل، وبالتالى فإن مراعاة الاعتبارات الباكستانية فى التعامل مع الصين ستكون أضعف بكثير في حسابات طالبان.
والشىء الوحيد الذى يمكن أن يغيِّر حسابات طالبان تجاه الصين هو أن تقدم لها الأخيرة دعما يفوق كل الدعم الأمريكى والغربى والقطرى والتركى، وهو أمر مشكوك فيه بشدة، والأمر المرجح هو أن تحاول الصين وروسيا اتخاذ موقف عدم استفزاز طالبان أو إقامة علاقات طبيعية معها، وحتى تقديم بعض المساعدات ولكن مع التركيز على دعم دول آسيا الوسطى السوفيتية بقوة لتعزيز قدراتها على مواجهة محاولات الاختراق الطالبانى والإرهابى مع التركيز أيضا على إقامة حزام عسكرى قوى فى دول آسيا الوسطى، وخاصة طاجيكستان للتعامل بحسم مع طالبان إذا تجاوزت حدودها، وأيضا إقامة علاقات وثيقة مع الأقليات القومية في أفغانستان «الطاجيك ٢٧٪ من السكان والأوزبك ١٠٪ والهزارة الشيعة ١٠٪ أى حوالى نصف سكان البلاد» وباختصار فإن الرهان على باكستان كضابط لنزعات طالبان العدوانية ضد الصين لم تعد سياسة يمكن المراهنة عليها.
طالبان والعرب والإرهاب
نعتقد أننا أوضحنا بصورة كافية أن طالبان فى ثوبها الجديد ستكون أقرب إلي الانخراط فى سياسة الفوضي الخلاقة الأمريكية في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وإلي أن تقدم ملاذا آمنا للإرهاب كأداة أساسية لهذه السياسة المدمرة، وفيما يخص ما يعنينا في مصر والشرق الأوسط وشمال أفريقيا بصورة مباشرة فإن «القاعدة» موجودة هناك منذ التسعينيات، ومتمركزة بصورة قوية فى منطقة «تورا بورا» الحصينة ومناطق الحدود الأفغانية - الباكستانية، كما أن الفصائل الأكثر تطرفا بين مكونات طالبان مثل جماعة حقانى ستكون أكثر تعاطفا مع فتح أبواب البلاد لاستقبال مزيد من الإرهابيين من منطقتنا لتدريبهم ثم إعادة إرسالهم إلى المنطقة العربية، كما حدث في مراحل سابقة، بل إننا لا نستبعد أن يتم ترك داعش في حالها بعد (تقليم أظافرها) بصورة مناسبة، وإذا فهمت أنها يجب أن تخضع لسلطة الإمارة الإسلامية ولا نستبعد بالطبع أن يتم نقل إرهابيين من جماعة الإخوان وغيرهم إلي أفغانستان للإقامة والتدريب أو أن يتم نقل بعض القياديين إلي هناك لتخفيف الحرج عن تركيا وتسهيل تقاربها مع مصر.
ويتضح من ذلك كله أن أعين أجهزة الأمن العربية يجب أن تكون مفتوحة طوال الوقت على أفغانستان وما يجرى فيها لحماية بلادنا من الآثار الوخيمة للملاذات الجديدة التى تنفتح أمام الإرهاب..
حفظ الله مصر من كل سوء.