د. محمد فراج يكتب : نتنياهو أمام «الجنائية الدولية» .. وانبعاث جديد للقضية الفلسطينية
قرار المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية بتوجيه الاتهام لرئيس الوزراء الصهيونى بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه (يواف جالانت) بارتكاب جرائم حرب، ومطالبة المحكمة بإصدار قرار باعتقالهما لمحاكمتهما على هذه الجرائم.. تطور بالغ الأهمية فى موقف المجتمع الدولى تجاه إسرائيل، لأنه يضع زعماء الدولة الصهيونية موضع المساءلة الجنائية الدولية للمرة الأولى منذ قيامها عام 1948.. وبالرغم من أن القرار المذكور يتضمن أيضاً أسماء أهم قادة حماس (يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية) فإن هذا لا يقلل من أهمية جانبه المتصل بالكيان الصهيونى، لأن المألوف فى الغرب هو اتهام «حماس» وقادتها وكل فصائل المقاومة الفلسطينية، بالإرهاب، وعدم الاعتراف بشرعية المقاومة.
ويأتى هذا القرار امتداداً لقرار محكمة العدل الدولية بقبول دعوى جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيونى بارتكاب جرائم إبادة فى قطاع غزة، وبدء التحقيق فى هذه الجرائم.. وهى الدعوى التى انضم إليها عديد من الدول وقرار المدعى العام للجنائية الدولية هو امتداد معنوى وسياسى أساساً، وليس قانونياً، لأن كلا من المحكمتين هى كيان قائم بذاته، ولديه اختصاصاته والقواعد المنظمة لعمله، إلا أن أهمية قرار المدعى العام للجنائية الدولية تكمن فى إمكانية صدور قرار دولى باعتقاله إذا وافقت المحكمة على إصدار قرار بذلك، ليصبح نتنياهو ووزير دفاعه مجرمى حرب مطاردين دولياً، وهو ما يلزم أية دولة منضمة لاتفاقية روما- الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية- باعتقال الشخصين المذكورين وتسليمهما للمحكمة والحقيقة أن هذا المصير هو ما يستحقه نتنياهر وجالانت وغيرهما من زعماء إسرائيل ومسئوليها العسكريين وقادة المستوطنين العنصريين فيها، الذين يشنون حرب إبادة وحشية غير مسبوقة على الشعب الفلسطينى.
حالة الهياج التى استولت على المسئولين الصهاينة بعد قرار المدعى العام للجنائية الدولية، توضح إحساسهم بخطورة القرار، وخاصة إذا أقرته هيئة المحكمة وهو خطير فى جميع الأحوال من زاوية مغزاه السياسى وانطلقت التهديدات الصهيونية والأمريكية للمحكمة وقضاتها بالويل والثبور.
رحلة جديدة
والواقع أن القضية الفلسطينية تشهد متغيرات إيجابية بالغة الأهمية على الساحة الدولية، منذ عملية «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر 2023 وهى متغيرات يمكن القول إنها تمثل مرحلة جديدة من دعم المجتمع الدولى والرأى العام العالمى، وعشرات أو مئات الملايين من الناس فى مختلف أنحاء العالم للقضية الفلسطينية والمقاومة الأسطورية التى تبديها المقاومة الفلسطينية فى مواجهة حرب الإبادة والتجويع الهمجية التى تشنها الفاشية الصهيونية ضد الأشقاء فى غزة والضفة الغربية، بدعم مباشر ومطلق من جانب أمريكا وحلفائها من الدول الاستعمارية الغربية.
فبعد المظاهرات الجماهيرية الحاشدة التى شهدتها مختلف العواصم وكبريات مدن العالم دعماً للشعب الفلسطينى، ومطالبة بوقف الحرب الهمجية الإسرائيلية ضده، جاء قطع عديد من دول العالم، وخاصة فى أمريكا اللاتينية، مع الكيان الصهيونى، وطرد سفرائه لدى تلك الدول، وسحب سفرائها لدى تل أبيب، ثم بدء نظر محكمة العدل الدولية للقضية المرفوعة من جانب جنوب إفريقيا - والتى انضمت إليها دول - ضد إسرائيل، والتى تتهمها بشن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطينى فى غزة، وقرار المحكمة بإجراء تحقيق فى جرائم الحرب هذه.
ثم جاءت ثورة طلاب الجامعات الأمريكية والأوروبية ضد حرب الإبادة الصهيونية على غزة، والتى امتدت إلى عدد من الجامعات الآسيوية وحنى الاسترالية، وهى الثورة التى تمتد من جامعة لأخرى كل يوم بالرغم من الإجراءات القمعية التى تتخذها السلطات فى تلك الدول..
ومن الأهمية بمكان كبير الإشارة إلى أن الجامعات الأمريكية والغربية والآسيوية التى شملتها انتفاضة الطلاب (والأساتذة) هى كلها من جامعات النخبة التى تمثل مراكز الصدارة فى التصنيف العالمى للجامعات الرائدة، وفى مقدمتها جامعات مثل هارفارد وكولومبيا و(إم. آي. تى) وييل وكاليفورنيا وجورجتاون وجورج واشنطن وغيرها فى أمريكا.. وكامبريدج وأكسفورد وجامعة لندن فى بريطانيا، والسوربون ومعهد باريس للعلوم السياسية فى فرنسا، وغيرها.. ومعروف أن هذه الجامعات الرائدة هى التى يتخرج فيها زعماء ورؤساء المستقبل فى بلدانها وأنها سبق أن قامت بأدوار هامة أثرت على سياسة هذه البلدان فى قضايا هامة للغاية، وهو ما تحدثنا عنه تفصيلياً فى مقال سابق (الأموال- الأحد 12 مايو 2023- ثورة الجامعات الأمريكية والأوروبية من أجل فلسطين.. تحية واجبة).
أغلبية ساحقة
إعلان ثلاث دول أوروبية جديدة هى إسبانيا والترويج وأيرلندا اعترافها بفلسطين كدولة مؤخراً هو أحد التطورات الهامة فى سياق الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، وصحيح أن هذه الدول الثلاث ليست هى الدول الأوروبية الأولى التي تعترف بدولة فلسطين.. فهناك دول مثل السويد والمجر وسلوفاكيا وبلغاريا وبولندا وغيرها من الدول الأوروبية (9 دول) تعترف بدولة فلسطين لكن اعتراف الدول الثلاث الأخيرة يكتسب أهمية خاصة من كونه يجىء فى وضع يشهد احتدام الصراع حول هذه القضية، ويجىء وبعد استخدام الولايات المتحدة لحق «الفيتو» ضد مشروع قرار بهدا الشأن فى مجلس الأمن الدولى مؤخراً، مما يجعل منه تحدياً مباشراً للسياسة الأمريكية، ويفتح الباب لاعتراف مزيد من الدول الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطين، خاصة بعد ما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً بأغلبية (143صوتاً) من (194) ومعارضة (20 دولة) فقط على القرار باعتبار فلسطين دولة عضواً بالأمم المتحدة.
ولعل هذا التحدى فى لحظة احتدام الصراع هو ما أثار ثائرة الدولة الصهيونية، وجعلها تستدعى سفراءها فى كل من إسبانيا والنرويج وإيرلندا، وتهدد بإغلاق سفاراتها هناك ومن الأهمية بمكان أيضاً الإشارة إلى أن إسبانيا هى رابعة كبرى الدول الصناعية المتقدمة فى الاتحاد الأوروبى، بعد ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، كما أن النرويج دولة كبيرة ومتقدمة، ولديها (صندوق سيادى) هو الأكبر من نوعه فى العالم، ويقوم بتوظيف استثمارات كبيرة فى مختلف الدول. كما أنهما كلتيهما عضوان فى حلف «الناتو».
موقف أمريكى مشين
أمريكا أعلنت رفضها لقرار المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، وقبله لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطين بأغلبية ساحقة، وكانت قد استخدمت الفيتو ضده فى مجلس الأمن.. كما أعلنت رفضها لقرار الدول الأوروبية الثلاث بالاعتراف بدولة فلسطين وجاءت هذه الاعتراضات على لسان بايدن شخصياً، ووزير خارجيته بلينكين، ووزير دفاعه (لويد أوستن) وغيرهم من كبار مسئولى الإدارة وزعماء الكونجرس.. وهو ما ينسجم تماماً مع موقف واشنطن الداعم بصورة مطلقة للكيان الصهيونى، بغض النظر عن بعض الاختلافات التافهة فى بعض التفاصيل، والتى تتم المبالغة فيها بصورة مفتعلة لأغراض دعائية أو انتخابية داخلية أمريكية أو إسرائيلية.. غير أن كل هذه التفاصيل التافهة لا تنفى الدعم الأمريكى المطلق، والحماية الأمريكية الشاملة للعدو الصهيونى فى كل المحافل الدولية، الأمر الذى تبدو إسرائيل معه فوق المسائلة وفوق القانون الدولى، وهو ما لا يمكن مجرد تصور حدوثه بدون الغطاء السياسى والإعلامى والقانونى والمعنوى الأمريكى القوى والدائم والمضمون تماماً، فضلاً عن الدعم الاقتصادى والعسكرى اللامحدود.
انبعاث القضية الفلسطينية
والواقع أن هذا الدعم الأمريكى غير المحدود كان قد أدى فى السنوات الأخيرة، إلى إهالة التراب على القضية الفلسطينية، وتراجعها على أجندة القضايا الدولية، لولا بصيص من الحياة كانت تبعثه المقاومة الباسلة للفلسطينيين فى الضفة الغربية.. حتى جاءت عملية «طوفان الأقصى» بكل ما ترتب عليها من متغيرات عسكرية وسياسية وإعلامية تحدثنا عنها- لكى تنفض التراب عن هذه القضية المقدسة، وتبعثها من جديد، وتضمنها فى صدارة القضايا الدولية الأكثر أهمية، وترفع أعلام فلسطين مجدداً فى كل مكان، وتجعل تعشرات الملايين فى مختلف دول العالم تلتف حوله.
والأمر المؤكد أن هذه النتائج واستمرار المقاومة الفلسطينية الأسطورية فى مواجهة حرب الإبادة والتجويع الصيهونىة كلها أمور تبرهن على سخف وانطباع أولئك السادة المتعصبين الذين ظلوا منذ اليوم الأول لانتفاضة الأقصى يبتعثون باللائمة على المقاومة ويتهمونها بأنها هى السبب فيما أصاب الشعب الفلسطينى من معاناة هائلة على يد الصهاينة.. بينما الحقيقة أن هذا الشعب البطل يدفع ثمن إحياء وانبعاث قضيته من جديد.. يدفع ثمن حريته وثمن وطنه، كما يليق بكل الشعوب الحرة العظيمة.. وستنتصر قضيته بإذن الله.