د.محمد فراج يكتب : أوكرانيا حرب كان لابد أن تشتعل”٢ – ٢”
ذكرنا فى الجزء الأول من هذا المقال (الأموال - ٥ مارس) أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى استغلت انهيار الاتحاد السوفيتى (١٩٩١) وضعف روسيا تحت قيادة بوريس يلتسين لتجعل من توسيع الناتو اتجاها استراتيجيًا خلال سنوات التسعينيات من القرن الماضى بهدف عزل روسيا وإضعافها سعيًا لتحقيق هدف استراتيجى أكبر هو السيطرة على روسيا وثرواتها الطبيعية الهائلة، وأن ضم أوكرانيا إلى الناتو ظل بمثابة الجائزة الكبرى التي يسعى الحلف لاقتناصها لما لها من موقع استراتيجي بالغ الأهمية بحذاء المنطقة المركزية من الأراضي الروسية، وشواطئ ممتدة على البحر الأسود منفذ روسيا إلى المياه الدافئة، الأمر الذى يجعل من انضمام أوكرانيا إلى الناتو مصدر خطر على الأمن القومى الروسي لا يمكن لها السكوت عليه.
ولسنا بحاجة للعودة إلى ما ذكرناه تفصيلاً فى الجزء الأول من مقالنا حول التغلغل الغربى سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا في أوكرانيا، والإصرار على وصول «الناتو» إلى الحدود الروسية.
ومن الضرورى أن نشير هنا إلى فشل الجيش الأوكرانى في استعادة منطقة الدونباس التى أعلنت استقلالها، أدى إلى عقد ما يعرف باتفاقيات مينسك التى تعترف بالحكم الذاتى للمنطقة، واستعادة حقوق سكانها فى التحدث بلغتهم وإعادة فتح المدارس والصحف والقنوات التليفزيونية الناطقة بالروسية، وقد رعت ألمانيا وفرنسا المحادثات التي أدت إلى عقد اتفاقيات مينسك (٢٠١٥) بالاشتراك مع روسيا، لكن أوكرانيا عادت فرفضت تنفيذ تلك الاتفاقيات، ليتضح مؤخرًا أن عقد تلك الاتفاقيات كان الهدف منه هو كسب الوقت لتعزيز قوات أوكرانيا العسكرية وتسليح جيشها بأحدث الأسلحة وتدريب أفراده استعدادًا لحسم المعركة بالقوة، وهذا ما اعترفت به مؤخرًا المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل لوسائل الإعلام، كما اعترف به الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند
ومع اكتمال عملية تعزيز القوة الأوكرانية كان مقررًا أن يتم الهجوم على «الدونباس» وهو ما رد عليه بوتين بحشد القوات على الحدود الأوكرانية لحماية سكان المنطقة الروس، فتعالت الأصوات فى الغرب مطالبة بوتين بسحب القوات الروسية بعيدًا عن الحدود الأوكرانية، وطالب بوتين فى المقابل بضمانات للأمن القومى الروسى، تتمثل في إعلان حياد أوكرانيا والتعهد بعدم انضمامها إلى الناتو وتعهد الحلف نفسه بعدم السعى لضمها إليه، وبالطبع الالتزام باتفاقيات مينسك وسحب القوات الأوكرانية التى كانت تحتشد فى مواجهة «الدونباس» وبالقرب من الأراضى الروسية، كما طالبت روسيا بمراعاة مصالحها الأمنية، وبأن يكون الأمن متكافئا لجميع الأطراف.
الرفض الغربى لمجرد مناقشة المطالب الروسية جعل ظهر بوتين إلى الحائط، ولم يعد هناك مفر من الحرب، وعلى الفور لجأت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى إلى فرض سلسلة متوالية من حزم العقوبات الشاملة والقاسية ضد روسيا، وهى العقوبات التى سرعان ما اتضح أن آثارها العكسية شديدة القسوة على أوروبا، وخاصة فى مجال إمدادات الطاقة، التى كانت القارة العجوز تعتمد فيها على روسيا بصفة أساسية، واشتعلت أسعار الطاقة وارتفع مستوى التضخم فى دول الاتحاد الأوروبي إلى مستوى ١٠٪ وتفاقمت أزمة الاقتصاد العالمي التى كانت قد بدأت بسبب جائحة «كورونا».
خسائر وأرباح
وإذا كانت أوروبا قد دفعت ثمنًا فادحًا للأزمة الاقتصادية التى فاقمتها الحرب، فإن الدول النامية قد دفعت الثمن أضعافا مضاعفة، بينما كانت الولايات المتحدة هى الرابح الأكبر.
١ - من الناحية الاقتصادية تم فك الارتباط بصورة أساسية بين الاتحاد الأوروبى وموارد الطاقة الروسية، وانفتحت أسواق أوروبا على مصاريعها أمام الغاز الأمريكى المسال، الذى باعته واشنطن إلى حلفائها بأربعة أضعاف سعره، كما ذكر الرئيس الفرنسى ماكرون مرارًا وتعمقت تبعية أوروبا الاقتصادية للولايات المتحدة، لكن عدم كفاية البدائل الأمريكية والدولية للتعويض عن موارد الطاقة الروسية أدى إلى إغلاق أعداد كبيرة عن المصانع فى دول الاتحاد الأوروبى، فضلا عن عودة مئات من محطات توليد الكهرباء بالفحم، وخاصة في ألمانيا وبريطانيا، كما أدى رفع أسعار الفائدة فى الولايات المتحدة لحركة واسعة لتدفق رءوس الأموال الأوروبية إلى أمريكا، وأعلنت شركات كثيرة عن نقل مصانعها إليها للاستفادة من الطاقة الوفيرة، وباختصار فقد دفعت أوروبا ثمنًا فادحًا، وهو ما نرى عواقبه الآن فى حركات الاحتجاج الجماهيرى بمختلف أشكالها التي تجتاح أوروبا خلال الشهور الأخيرة.
٢ - تعزيز التحالف بين روسيا والصين، ووجدت موسكو أسواقًا بديلة لصادراتها من الغاز والبترول والفحم فى الصين والهند ودول جنوب شرق آسيا، وصحيح أن هذا استلزم تقديم خصم كبير على أسعار البترول الروسي بالذات، لكن ارتفاع أسعار البترول والغاز جعل الأسعارـ بعد الخصم - مرتفعة بصورة مواتية لروسيا علي أى حال، وأثبت الاقتصاد الروسى بصورة عامة قدرته على احتمال آثار العقوبات، والاستمرار في تمويل القوات المسلحة، وثبت أن «خنق» و«شل» و«تدمير» الاقتصاد الروسى أصعب بكثير جدًا مما كانت تتصور الدول الغربية.
٣ - استولت روسيا - حتى الآن - على أكثر من ٢٠٪ من الأراضى الأوكرانية، وصحيح أن ما كان يتحدث عنه خبراء عسكريون كثيرون من «اجتياح روسى لأوكرانيا» لم يحدث، لكن من الضرورى أن نضع في اعتبارنا ما سبق أن ذكرناه من أن الحرب الجارية في أوكرانيا هى - في حقيقتها - حرب بين روسيا والناتو، فالأسلحة الأمريكية والغربية بمختلف أنواعها تتدفق على أوكرانيا بعشرات المليارات من الدولارات، والخبراء والمستشارون العسكريون (الأطلسيون) موجودون فيها بأعداد كبيرة، وحتى المرتزقة يشاركون بصورة مباشرة على جبهات القتال.
غير أن جيوش «الناتو» لا يمكنها المشاركة بشكل مباشر في المعركة، لأن روسيا دولة نووية عظمى.. وأسلحتها الاستراتيجية في حالة تأهب والمشاركة المباشرة من جانب جيوش «الناتو» في الحرب تعنى نشوب حرب نووية مدمرة للعالم كله، فروسيا لن تسمح إلحاق الهزيمة بقواتها، حتى لو كان الثمن نشوب حرب نووية، وبوتين أعلن بوضوح في هذا الصدد: «وما ضرورة عالم ليس فيه مكان لروسيا؟».
٤ - إلا أن المؤكد هو أن الحرب الدائرة في أوكرانيا قد بعثت الحياة من جديد في حلف «الناتو» الذى كانت تمزقه الانقسامات لدرجة أن الرئيس الفرنسى ماكرون كان قد أعلن أن الحلف في حالة موت سريرى! وانبعاث الحياة في «الناتو» معناه المؤكد هو عودة أوروبا إلى حالة من التبعية لأمريكا أشبه بـ«بيت الطاعة» برغم أى خلافات لمواجهة «الخطر الروسى».
٥ - الأمر المؤكد أن العالم لن يكون بعد هذه الحرب كما كان قبلها، فعملية التحول نحو عالم متعدد الأقطاب خطت خطوة كبرى إلى الأمام و«البريكس» تتزايد قواتها، وتنضم إليها دول جديدة، أو تعلن عن رغبتها في الانضمام، ولم تعد علاقات القوى الدولية تسمح بالهيمنة الأمريكية والغربية على العالم، وأبسط دليل على ذلك هو ما تراه من رفض واسع النطاق للعقوبات الأمريكية والغربية على روسيا، أو تجاهل لهذه العقوبات، وقد رأينا كيف رفضت (أوبك+) زيادة إنتاجها من البترول لإغراق السوق وإلحاق الخسائر بروسيا، بل اتخذت المنظمة قرارًا بخفض إنتاجها بمقدار (مليونى برميل يوميا/٢ مليون برميل)، وهو وضع لم يكن أحد يمكن أن يتصوره منذ عشر سنوات مضت، كما لم يكن أحد يمكن أن يتصور الاتساع المتزايد للتبادل بالعملات الوطنية مع الصين وروسيا حتى من جانب دول حليفة لأمريكا.
حقًا إن العالم يتغير.. ولن يكون بعد الحرب في أوكرانيا مثلما كان قبلها.