أوكرانيا.. حرب كان لابد أن تشتعل! (١)
الحرب في أوكرانيا دخلت عامها الثانى، ولا تبدو لها نهاية قريبة، بل على العكس يتصاعد التوتر كل يوم بين روسيا والغرب، وتتزايد احتمالات امتداد الحرب إلى ساحات جديدة في شرق أوروبا، وأصبحت احتمالات نشوب حرب نووية عالمية موضوعًا للنقاش اليومى ليس في وسائل الإعلام فحسب، بل وفي الأوساط السياسية وتصريحات زعماء الدول!
والحقيقة أن المعارك العسكرية في أوكرانيا ليست «حربا روسية - أوكرانية» وإنما هى مجرد عنوان لمواجهة شاملة عسكرية وسياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية بين روسيا وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة وبمشاركة حليفاتها من الدول الغربية الكبرى وفي مقدمتها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وهى مواجهة تجد أساسها في سياسة توسيع حلف شمال الأطلسى شرقا باتجاه الحدود الروسية بهدف «احتواء» روسيا ـ وهى سياسة أمريكية وأطلسية معلنة منذ انهيار الاتحاد السوفيتى عام ١٩٩١ ــ وضمان استمرار الهيمنة الأمريكية على العالم كقطب أوحد، ومنع نشوء أقطاب جديدة تُهدّد هذه الهيمنة المطلقة.
وفى إطار هذه السياسة نجحت الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى في ضم دول أوروبا الشرقية والوسطى التى كانت أعضاء فى حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتى إلي عضوية حلف الناتو والاتحاد الأوروبى، كما نجحت فى ضم ثلاث جمهوريات سوفيتية سابقة إلى «الناتو» والاتحاد الأوروبى، هى جمهوريات البلطيق الصغيرة الثلاث «ليتوانيا ولاتفيا واستونيا» وبقيت «الجائزة الكبرى» للغرب هى أوكرانيا المحاذية مباشرة للحدود الروسية بامتداد ١٥٠٠ كم مجاورة للمنطقة المركزية سكانيا واقتصاديا وعسكريا في روسيا، والتى كان انضمامها لعضوية الناتو يعنى نشوء خطر بالغ الفداحة على الأمن القومى الروسى، علمًا بأن البلدين والشعبين تربطهما علاقات تاريخية قديمة تمتد لحوالى ألف سنة، وأن أوكرانيا بها أقلية روسية كبيرة تبلغ نحو ٢٠٪ من السكان.. وبأن المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية من أوكرانيا كانت فى الأصل إقليمًا روسيًا يحمل اسم «نوفايا روسيا» وتم ضمها إلى أوكرانيا بقرار من السلطة السوفيتية، لدعم وجود «الطبقة العاملة» في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية، حيث إن الجزء الأساسى من أراضى أوكرانيا كان منطقة زراعية.. كما تم ضم شبه جزيرة القرم إلي أوكرانيا (عام ١٩٥٤) بقرار إدارى فردى من الزعيم السوفيتى - حينها - نيكيتا خروشوف - وهو قرار لم تصدق عليه أى هيمنة برلمانية سوفيتية أو روسية.. ومعروف أن شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود توجد بها القاعدة العسكرية الرئيسية للأسطول الروسى منذ القرن الثامن عشر، وأن البحر الأسود هو منفذ روسيا الوحيد إلى المياه الدافئة.
كل هذه حقائق تاريخية يعرفها جميع الروس، كما يعرفها أى متخصص فى الشئون الروسية بما فى ذلك المتخصصون في الغرب، ونحن نذكر هذه الحقائق الاستراتيجية والتاريخية والجغرافية ليس من باب التحيُّز لأى طرف، وإنما من باب توضيح مصدر الحساسية الشديدة من جانب روسيا تجاه مسألة ضم أوكرانيا إلى «الناتو»، الحلف الذى يضع هدفًا معلنًا له عزل وإضعاف روسيا، ولا تخفى دوله الكبرى أطماعها فى السيطرة على ثرواتها الطبيعية الهائلة وخاصة من موارد الطاقة.
الصراع حول أوكرانيا
لهذا كله كان مفهومًا أن تكون أوكرانيا سببًا للتوتر والصراع بين روسيا من ناحية و«الناتو» والاتحاد الأوروبى من ناحية أخرى، منذ بداية القرن الحالى، خاصة أن الدول الغربية استغلت فترة ضعف روسيا في عهد يلتسين لتتغلغل فى أوكرانيا سياسيًا ومخابراتيًا، وصولا إلى إشعال «الثورة البرتقالية» عام ٢٠٠٤، والتى دعا زعماؤها إلى فك الارتباط مع روسيا، والاتجاه غربًا نحو الاتحاد الأوروبى و«الناتو» غير أن خيبة أمل الشعب الأوكرانى في زعماء «الثورة البرتقالية» بسبب فضائح الفساد الكبرى والفشل في إدارة الاقتصاد، وتفاقم الفقر والبطالة أدت إلى الإطاحة بهم في الانتخابات (٢٠١٠) ليجىء إلى مقعد الرئاسة «فيكتور يانوكوفيتش» الداعى للارتباط بروسيا، ولم يكن هذا بعيدا عن النشاط الروسى الكبير في أوكرانيا فى عهد الصحوة بقيادة بوتين، وعن الدعم الاقتصادى الكبير الذى قدمته روسيا لأوكرانيا.
رفض الرئيس الأوكرانى التوقيع على اتفاقية للتعاون الزراعى بين بلاده والاتحاد الأوروبى (نوفمبر ٢٠١٣) لأنها كانت تتضمن شروطًا اعتبرها مجحفة ببلاده، مثل رفع كل أشكال الدعم عن السلع الزراعية، في الوقت الذى يقدم فيه الاتحاد الأوروبى دعمًا كبيرًا لمنتجاته الزراعية ومثل فرض شروط على إنتاج السلع الزراعية والغذائية تتصل بالجودة والمواصفات البيئية، وغيرها من الشروط التي كان من شأن تطبيقها إغراق السوق بالمنتجات الزراعية والغذائية الأوروبية، وتدمير الزراعة الأوكرانية.
وهنا حرَّك الغرب أنصاره ضد يانوكوفيتش، فيما عرف بـ«ثورة الميدان» التى قدمت الدول الغربية دعمًا سياسيًا وإعلاميا هائلا لها، وشاركت فيها شخصيات أمريكية بارزة مثل السيناتور جون ماكين رئيس لجنة الاعتمادات العسكرية بمجلس الشيوخ، وفيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية الأمريكية (مستمرة في منصبها حتى الآن) اللذين كانا يشاركان في المظاهرات ويوزعان الطعام بأيديهما على المتظاهرين وتم توزيع السلاح على أعضاء تنظيمات متطرفة قاموا بمهاجمة المبانى الحكومية والبرلمان- وانتهى الأمر بإجبار الرئيس على الاستقالة ومغادرة البلاد (فبراير ٢٠١٤) وجاء إلى السلطة بهذه الطريقة حكم موالٍ للغرب، كان من أول قراراته إلغاء اتفاقية تأجير قاعدة سيفاشوبول البحرية بـ«القرم» حتى عام ٢٠٤٢ ومطالبتها بإخلاء القاعدة، وإلغاء وضع اللغة الروسية كلغة رسمية ثانية، وإغلاق الصحف ومحطات الإذاعة وقنوات التليفزيون الناطقة بالروسية وإغلاق المدارس الروسية وإلغاء مظاهر الاستقلال الذاتى التى كانت تتمتع بها مقاطعتا «دونيتسك» و«لوجانسك» المجاورتان للحدود الروسية واللتان يمثل الروس أغلب سكانهما.
تحركت القوات الروسية الموجودة في القرم للسيطرة على شبه الجزيرة، وتم إجراء استفتاء لتقرير المصير بين السكان (٧٥٪ منهم روس) الذين اختارت أغلبيتهم الساحقة الانضمام إلى روسيا (مارس ٢٠١٤).
ورفض سكان الدونباس (دونيتسك ولوجانسك) قرارات السلطة الجديدة فتحركت فصائل القوميين المتطرفين المسلحين نحو المنطقة وهاجمتها لتشتعل حرب أهلية استمرت ثمانى سنوات (حتى دخول القوات الروسية للمنطقة) وراح ضحيتها (١٣ ألف إنسان).
وفرضت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى عقوبات اقتصادية قاسية ضد روسيا. وبدأت في تسليح الجيش الأوكرانى لدعمه في معركة السيطرة على الدونباس أولا، و«تحرير القرم!» ثانيا، والاستعداد لمواجهة روسيا إذا تحركت قواتها للدفاع عن بنى جلدتها في الدونباس أو للدفاع عن القرم!!.. كما بدأت عمليات تدريب القوات الأوكرانية وإمدادها بالأسلحة الحديثة، وإجراء المناورات المشتركة مع قوات «الناتو» على الأراضى وفى المياه الأوكرانية، وتقدمت كييف بطلب للانضمام «للناتو» بالرغم من معرفة الجميع بأن ميثاق الحلف لا يسمح بانضمام بلاد لديها مشكلات حدودية، حتى لا يتورط الحلف في معارك تحرير هذه الأراضى إذا كانت محتلة أو الاحتفاظ بها إذا كان العضو الجديد هو المحتل، حيث تقضى المادة الخامسة من ميثاق الحلف بأن الاعتداء على أى عضو فيه هو اعتداء على جميع الأعضاء، ويجب الرد عليه.. علمًا بأن الخصم فى هذه الحالة هو روسيا، القوة النووية الثانية في العالم.
ولم يكن بوسع روسيا أن تقف مكتوفة الأيدى إزاء هذه التطورات الخطيرة، وبدأت تتوالى نذر الحرب، التي اشتعلت فعلا في ٢٤ فبراير ٢٠٢٢.
وللحديث بقية..