د.محمد فراج يكتب: صيف بغداد الساخن.. والعلاقات العراقية - المصرية والعربية
الأزمة السياسية الخطيرة القائمة فى العراق منذ شهور ــ والتي بدا كأن الإعلام العربى أسدل عليها أستار النسيان ــ عادت لتفرض نفسها بقوة على اهتمام المراقبين ونشرات الأخبار، فقد احتلت صور حشود المتظاهرين الغاضبين في بغداد شاشات التليفزيون، وهم يقومون باقتحام المنطقة الخضراء الحصينة فى قلب العاصمة العراقية، ثم يحتلون مبنى البرلمان وقاعته الرئيسية ملوحين بأعلام البلاد ومرددين الهتافات ضد المرشح لتشكيل الحكومة الجديدة، ومن يقفون وراءّه، وضد الفاسدين والتدخلات الأجنبية في شئون العراق.. ثم ينسحبون بعد أكثر من ساعتين، دون أن يلحقوا أذى بالمكان، ودون أن تتدخل قوات الأمن.. بمجرد أن تلقوا الأمر بالانسحاب من زعيمهم مقتدى الصدر.. أهم زعيم سياسى فى العراق الآن، ومنذ سنوات.
ما يحدث في العراق يهمنا في مصر.. ويهم العالم العربى بأسره، ويجب أن يكون محل اهتمام كبير بل ومكثف من جانب الإعلام المصرى والعربى، فالعراق دولة عربية كبيرة ومهمة. تنتج أكثر من ثلاثة ملايين برميل من البترول يوميًا، وتحتل موقعا استراتيجيًا مهمًا على رأس الخليج العربى، وعلى الحدود مع إيران «شرقا» وتركيا «شمالا»، وهى محل صراع مستمر على النفوذ بين إيران وأمريكا «أساسًا» وتركيا من ناحية.. وبين نزوع شعبها العريق للارتباط بعالمه العربى من ناحية أخرى.
والعراق بلد مهم جدا بالنسبة لمصر من هذه الزاوية ـ زاوية الأمن القومى العربى والوضع الاستراتيجى في المنطقة ــ ومن زاوية العلاقات التاريخية الطويلة بين الشعبين المصرى والعراقي.. ومن زاوية العلاقات الاقتصادية المتنامية بسرعة بين القاهرة وبغداد في السنوات الأخيرة، بعد أن فرضت التطورات السياسية والداخلية والإقليمية بدء خروج العراق من العزلة عن محيطه العربى، تلك العزلة التى حاولت أمريكا وإيران فرضها على بلاد الرافدين.
ماذا يحدث فى العراق؟
المظاهرات الغاضبة التى اقتحمت المنطقة الخضراء ومبنى البرلمان العراقى يوم الأربعاء الماضى (٢٧ يوليو) جاءت كرد فعل على قرار ما يُسمى بـ«الإطار التنسيقى» بترشيح الوزير السابق «محمد شياع السودانى» لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو شخصية سبق أن رفضها الشارع العراقى أثناء الانتفاضة الشعبية الواسعة «أكتوبر ـ ديسمبر ٢٠١٩» التى كانت قد تفجرت احتجاجا على تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتفشى الفساد في أجهزة الدولة، واستفحال نفوذ الميليشيات المسلحة المرتبطة عضويا بالأحزاب الطائفية الموالية لإيران، الحاكمة منذ الغزو الأمريكى للعراق.. والأصح أن نقول إن هذه الأحزاب هى بمثابة أذرع سياسية للميليشيات المسلحة الطائفية. وطالبت الانتفاضة بحصر السلاح في يد الدولة وإنهاء كل أشكال الفوضى الميليشاوية. ورفضت التدخل الأجنبى فى شئون العراق الداخلية، وتحويل البلاد إلي ساحة لصراع النفوذ بين واشنطن وطهران.
الانتفاضة الشعبية «أكتوبر ـ ديسمبر ٢٠١٩» المعروفة أيضا باسم ثورة أكتوبر، وانتفاضة تشرين الأول «أكتوبر» شاركت فيها حشود واسعة من العراقيين والسُنَّة والشيعة جنبًا إلى جنب، وامتدت من بغداد إلي أقصي الجنوب العراقى، وقادها التيار الصدرى «الشيعى المعتدل» بزعامة مقتدى الصدر، سليل أسرة الصدر من المراجع الدينية الشيعية المعروفة بنزوعها العربى «فى مدينة النجف جنوبى العراق» وباستقلالها عن المراجع الشيعية الإيرانية «في مدينة قم» وبعدم قبولها لنظرية «ولاية الفقيه» الخمينية الإيرانية.
انطلاقا من طابع الانتفاضة العابر للطوائف، فقد رفعت أيضا شعار إلغاء المحاصصة الطائفية، التى فرضها «دستور الاحتلال الأمريكى» على العراق.
ونجحت الانتفاضة في الإطاحة بحكومة عادل عبد المهدى الخاضعة للأحزاب الطائفية الفاسدة «نوفمبر ٢٠١٩» وبعد مناورات وصراعات طويلة فرضت التطورات السياسية الناشئة عن الانتفاضة المجيء بشخصية مستقلة لرئاسة الحكومة هو مصطفى الكاظمى رئيس المخابرات السابق المعروف بكفاءته الإدارية ونظافة يده (مايو ٢٠٢٠) والذى نجح فى توجيه ضربات مهمة للفساد، والحد بدرجة نسبية من نفوذ الميليشيات الطائفية.. كما اتجه لإقامة علاقات متوازنة للعراق بمحيطه الإقليمى، وخاصة العربى وهكذا شهدت السنتان الأخيرتان تطورا لافتا لعلاقات العراق بكل من مصر والأردن ودول الخليج العربى، سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى، الذى تمثل فى زيادة كبيرة للتبادل التجارى واتفاقيات الربط الكهربائى للتخلص من اعتماد العراق علي إيران فى هذا المجال، أو في زيادة الاستثمارات العربية فى العراق بما في ذلك اتفاق «النفط مقابل الاستثمار فى إعادة الإعمار» بين بغداد والقاهرة، وبديهى أن ذلك كله لم يكن محل رضاء طهران والموالين لها فى بغداد، ومن ناحية أخرى فإن الطابع الاستقلالى المتنامى لسياسة العراق الخارجية أتاح له القيام بدور في الوساطة بين السعودية وإيران، حيث شهدت بغداد عددا من اللقاءات بين الطرفين، مما ساعد على تعزيز مكانتها الإقليمية.
الانتخابات.. والأكثرية غير الحاسمة
ومن ناحية أخرى فقد تم إجراء انتخابات برلمانية مبكرة «أكتوبر ٢٠٢١» أسفرت عن فوز كبير للتيار الصدرى «الشيعى المعتدل ذى النزعة العروبية» الذى حصل علي المركز الأول بين التيارات والتكتلات المتنافسة «73 مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان البالغة ٣٢٩» ليصبح حزب الأكثرية ـ وليس الأغلبية بالطبع ـ الذى يحق له تشكيل الحكومة، بالتحالف مع غيره من الأحزاب القريبة منه في مواقفها، كما أسفرت الانتخابات عن بروز عدد من الأحزاب والتكتلات الصغيرة التي اشرك أعضاؤها فى «انتفاضة تشرين» وحوالى ٤٠ نائبا مستقلا من مختلف الاتجاهات ومن ناحية أخرى فقد حصل تحالف «تقدم» السنى على 37 مقعدا وتحالف «عزم» السنى أيضا على ١٤ مقعدا، ونشأ تحالف يقوده التيار الصدرى انضم إليه أيضًا الحزب الديمقراطى الكردستانى (٣١ مقعدا) وبدأ الصدريون المفاوضات مع بعض الكتل الصغيرة والمستقلين لتشكيل «حكومة أغلبية وطنية» تقوم سياستها على تنفيذ مطالب انتفاضة «أكتوبر ٢٠١٩» التي سبق لنا ذكرها.
مناورات برلمانية وابتزاز
الأحزاب الطائفية الشيعية خسرت الكثير من مقاعدها في البرلمان الذى كانت تتمتع فيه قبل ذلك بالأغلبية، ولم يعد من حقها المطالبة بتشكيل الحكومة لكنها استغلت سيطرتها على أكثر من ثلث المقاعد «مع حلفاء ليسوا بالضرورة متفقين معها.. ولكن يمكن اجتذابهم بتقديم بعض المناصب والمغانم» لمنع انعقاد البرلمان بالنصاب الدستورى الضرورى لانتخاب رئيس الجمهورية «بأغلبية الثلثين».
والمشكلة هنا هى أن المادة 72 من الدستور العراقي تنص على ضرورة انعقاد البرلمان بنصاب الثلثين (٢٢٠ نائبا من ٣٢٩) لكى يقوم بانتخاب رئيس الجمهورية، الذى يقوم بدوره بتكليف مرشح «كتلة الأكثرية» بتشكيل الحكومة.. وبالتالى فإنه بدون انتخاب الرئيس لا يمكن تشكيل الحكومة!!
وهكذا لجأت الأحزاب الطائفية التى شكلت فيما بينها تحالفا أسمته «الإطار التنسيقى» لابتزاز الأغلبية، بتعطيل انعقاد البرلمان ما لم يوافق تكتل الأغلبية «الصدريون وحلفاؤهم» على تشكيل ما يسمى بـ«حكومة توافقية» يدخل فى عضويتها عدد من زعماء الأحزاب الطائفية، فى مقدمتهم نورى المالكي رئيس الوزراء الأسبق (من ٢٠٠٦ - ٢٠١٤) كنائب لرئيس الحكومة! بالإضافة إلى عدد من الزعماء الطائفيين! وهو ما يعنى إعطاء الأقلية الخاسرة حق «الفيتو» وتشكيل حكومة مشلولة وخيانة شعارات «انتفاضة أكتوبر ٢٠١٩» وهو ما كان بديهيًا أن يرفضه الصدر، خاصة وأن المالكى ــ زعيم «الإطار التنسيقى»، ورئيس ما يسمى ائتلاف دولة القانون ــ هو أكبر رموز الحكم الطائفى الفاسد.
استقالة الأكثرية!
وإزاء استمرار مناورات «الإطار التنسيقى» وتعطيل انعقاد البرلمان واستحالة تشكيل الحكومة قرر الصدر اتخاذ خطوة غير مألوفة هى استقالة نواب كتلته البرلمانية «كتلة الأكثرية - ٧٣ نائبا» ونقل المعركة السياسية ضد الأحزاب الطائفية إلى الشارع، الذى يتمتع فيه الصدريون وحلفاؤهم بدعم جماهيرى واسع يمكن من خلاله مواجهة هذه الأحزاب وإسقاط أى حكومة تُشكلها وبالفعل استقال النواب الصدريون الـ٧٣ في ١٢ يونيو الماضى.
انقلاب برلمان!
وباستقالة النواب الصدريين حل محلهم التالون لهم في عدد الأصوات في دوائرهم الانتخابية، وأغلبهم من المنتمين لـ«الإطار التنسيقى» مما جعل «الإطار» يصبح «كتلة الأكثرية» وبالتالي يصبح من حقه تشكيل الحكومة لنيشأ وضع قد يكون «قانونيًا» من الناحية الشكلية ولكنه من الناحية الموضوعية «السياسية» يمثل «انقلابا فعليًا» تستحوذ بموجبه الأقلية علي مكان الأغلبية، بفعل مناورات غير مستقيمة خلقت حالة «انسداد سياسى» وتعطيل متعمد للمؤسسات الدستورية، وأجبرت الحزب المتمتع بثقة الناخبين على الاستقالة من البرلمان، بحثا عن سبيل لمواجهة الوضع المستعصى القائم.
وبديهى أن أحدًا لم يكن يتوقع من زعماء «الإطار التنسيقى» أن يترفعوا عن احتلال مقاعد برلمانية، لم تكن من حقهم بمقتضى الإرادة الشعبية، لكن الرؤية السياسية الصحيحة كانت تقتضى من هؤلاء الزعماء «الإطاريين» أن يحاولوا التوصل إلى حل وسط مع التيار الصدرى يتم بموجبه مثلا اختيار رئيس حكومة مستقل يكون مقبولا من جانب الصدريين، أو تجديد ولاية رئيس الوزراء الحالى «مصطفي الكاظمى» الذى يحظى بقبول عام، مع الحرص علي اختيار وزراء من الشخصيات الكفؤة والنزيهة غير المتورطة فى الفساد والممارسات الطائفية البغيضة، بحيث تحظى الحكومة بدرجة معقولة من الرضاء الشعبي.
والحقيقة أن هذا هو ما كان يقتضيه بعد النظر السياسى والحد الأدنى من الشعور بالمسئولية، لاسيما وأن عدد النواب الذى «أصبح يمتلكه» الإطار التنسيقى» لا يُعبِّر عن الاختيار الحقيقى «الأصلى» للناخبين، وأن الوضع الناشئ في البرلمان أصبح بمثابة «عملية نشل» لوضع الأغلبية، وهذا وضع من الصعب أن يقبل به الشارع، بل سيعتبره «تزويرًا» لإرادته، مع ما يترتب على ذلك من عواقب.
عمى سياسى!
لكن تعطش زعماء الأحزاب الطائفية للسلطة وما يرتبط بها من مكاسب سياسية ومغانم، حجب عن أعينهم هذه الحقيقة البسيطة، فضلا عن ميلهم الأساسى للعناد والاستخفاف بالديمقراطية.
وهكذا عمدوا لتكليف «محمد شياع السودانى» بتشكيل الحكومة بالرغم من معرفتهم برفض التيار الصدرى، وسابق رفض جماهير «انتفاضة تشرين» له، بسبب سابقة انتمائه لـ«حزب الدعوة» الطائفى المتطرف، وارتباطه الوثيق بنوري المالكى، الرمز الأكثر بروزًا للطائفية والفساد واستخدام المال السياسى فى الانتخابات.. والغريب أن المالكى سارع إلي إصدار بيان يُعلن فيه دعمه الشديد لاختيار «السودانى» لتشكيل الحكومة، وهو ما يعتبر نوعًا من الضعف الشديد للحس السياسى و«هدية مسمومة» للسودانى.. خاصة وأن المالكى قد تفجرت حوله مؤخرا فضيحة تسريبات لتصريحات وجه فيها «شتائم شخصية» نابية للزعيم الأكثر شعبية فى الشارع «مقتدى الصدر» مما زاد من الكراهية الشعبية له، بين جماهير الصدريين.. وجعل من دعمه الحار «للسودانى» استفزازا إضافيًا للصدريين.
وبناءً على ذلك كله احتشد المتظاهرون الغاضبون وسط العاصمة بغداد ليتحركوا من ذلك لاقتحام المنطقة الخضراء ثم مبني البرلمان فى لطمة سياسية قوية للسودانى والذين اختاروه، ولا شك أن هذا سيعقد عملية اجتماع البرلمان بالنصاب المطلوب لاختيار رئيس الجمهورية أولا، ثم تكليف الرئيس «للسودانى» بتشكيل الحكومة، بفرض اكتمال عملية انتخاب الرئيس أصلا في هذا المناخ العاصف المشتعل.
أما إذا اكتملت عملية تكليف «السودانى» وتمكن من تشكيل الحكومة فإن التيار الصدرى وحلفاءه لن يدعوا لهذه الحكومة سبيلا للاستقرار.
< < <
وواضح من كل ما ذكرناه أنه إذا أتيح «للإطار التنسيقى» فرض «السودانى» أو غيره من قيادات الصف الثانى فى رئاسة الحكومة، فإنه سيكون خاضعًا لإرادة كبار زعماء الأحزاب والميليشيات الطائفية الفاسدة والموالية لإيران، علمًا بأن رئيس الحكومة هو ممثل السلطة العليا والقائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما يملك رئيس الجمهورية «كردى حسب المحاصصة الطائفية» صلاحيات محدودة.
وإذا تحقق هذا السيناريو فستكون له انعكاسات سلبية علي علاقات العراق بالدول العربية الشقيقة، والتى كانت قد شهدت خلال العامين الماضيين درجة جيدة من النمو والتوازن.
وبديهى أن الدول العربية لن تتدخل في الشئون الداخلية للعراق، وستتعامل معا الوضع القائم مهما يكن.. إلا أن الآثار السلبية ستنعكس على علاقات بغداد العربية.
وعلي أي حال سوف تكشف الأيام القادمة عن مسار التطورات المحتملة.. ومن الضرورى متابعتها عن كثب.. ونأمل أن يفعل الإعلام المصرى والعربي ذلك.