د. محمد فراج يكتب : الأزمة الأوكرانية .. بين الحرب المستحيلة ومعضلات توسيع «الناتو» شرقاً (1)
يبدو أن شبح الحرب على الحدود الروسية الأوكرانية يتراجع بعد أن مر الموعد الذى حددته المخابرات الأمريكية «كموعد مؤكد» لبدء الاجتياح الروسى لأوكرانيا (الساعة الثالثة من فجر الأربعاء 17 فبراير) دون أن يبدأ الاجتياح.. بل على العكس بدأت موسكو فى سحب حشودها من منطقة الحدود مع أوكرانيا، معلنة أن الانسحاب سيكون تدريجياً، وسوف يستغرق وقتاً طويلاً.. وكانت الولايات المتحدة قد سبقت إلى سحب بضع مئات من قواتها من أوكروانيا قبل بضعة أيام، معللة ذلك بالرغبة فى حمايتهم من التواجد فى منطقة الاشتباكات.. كما كانت قد سحبت دبلوماسييها من العاصمة (كييف) وأغلقت السفارة، ونقلت نشاطها إلى مدينة (لفوف) فى غرب أوكرانيا - بالقرب من الحدود البولندية، لإبعادهم عن الخطر المحتمل فى حالة اجتياح القوات الروسية للعاصمة الأوكرانية.
غير أن مرور الموعد المحدد لبدء الحرب حسب تأكيدات المخابرات ووسائل الإعلام الأمريكية (فجر الأربعاء 17 فبراير) لم يمنع من تأكيد هذه الأجهزة على أن الحرب قد تأجلت إلى ما بعد العشرين من فبراير.. ولكن دون تحديد اليوم والساعة هذه المرة.. مع التأكيد على أن روسيا ترسل قوات جديدة بدلاً من المنسحبة.. وأنها لم تتخل عن نيتها فى شن الحرب.. وهو ما يبدو تأكيداً أقل مصداقية، خاصة على ضوء الانسحاب الذى يتم أمام وسائل الإعلام والتحركات المكثفة التى قام بها الرئيس الفرنسى (ماكرون) والمستشار الألمانى (شولتس) والتى أسفرت عن تحقيق درجة واضحة من الانفراج، فضلاً عن تصريحات الرئيس الأمريكى (بايدن) ورئيس الوزراء البريطانى (جونسون) بشأن «منح الدبلوماسية فرصة جديدة».. بل وتصريحات الرئيس الأوكرانى «زيلينسكي» نفسه ووزير خارجيته حول »النجاح فى منع التصعيد».. والتى سبقتها تصريحات «لزيلينسكى» يدعو فيها الولايات المتحدة إلى «الكف عن إثارة الذعر» ويشير إلى أن اللغة التصعيدية والتأكيدات حول عزم روسيا على شن الحرب قد «ألحقت أضراراً كبيرة بالاقتصاد الأوكرانى» بسبب هروب الاستثمارات الأجنبية من البلاد وإغلاق كثير من الشركات لمكاتبها وتسريحها العاملين.. بل وأيضاً هروب الاستثمارات الأوكرانية نفسها إلى الخارج، ومغادرة كثير من رجال الأعمال الأوكرانيين للبلاد، وهذه كارثة حقيقية بالنسبة للاقتصاد المنهار أصلاً..
**
إلا أن ما يجعل التوتر شديداً للغاية حتى الآن هو استمرار تدفق القوات الأوكرانية إلى منطقة الحدود مع روسيا.. ونعنى تحديداً منطقة (الدونباس) فى المنطقة الجنوبية من الحدود بين البلدين، والتى تسكنها أغلبية من الروس والناطقين بالروسية، وهى منطقة كانت قد أعلنت انفصالها عام (2014) رداً على قرارات للسلطات المركزية تحرم سكانها من الحقوق الثقافية والسياسية التى تمتعت بها تاريخياً وكان هذا سببا فى حرب أهلية ذهب ضحيتها أكثر من عشرة آلاف قتيل، فضلاً عن الجرحى والدمار الهائل دون نجاح الجيش الأوكرانى فى اجتياح تلك المنطقة الغنية بمواردها الاقتصادية، والتى تشمل إحدى أغنى مناطق أوكرانيا بالفحم، وأكثرها تقدماً من الناحية الصناعية.
وكانت هذه التطورات الخطيرة قد أدت إلى تدخل ألمانيا وفرنسا لوقف الحرب الأهلية، وتم التوصل إلى اتفاقات تضمن لمنطقة «الدونباس» وضعاً خاصاً من الحكم الذاتى، واستعادة حقوقها التقليدية «اتفاقيات مينسك».. لكن هذه الاتفاقيات لم يتم تنفيذها بسبب اعتراض عناصر التطرف القومى الأوكرانى، والتدخلات الأجنبية، وخاصة الأمريكية.
ومن الأهمية بمكان أن نعرف أن الارتباط التاريخى لهذه المنطقة وسكانها بروسيا، جعل من اجتياحها بقوة السلاح أمراً من شأنه توجيه ضربة قاسية لهيبة روسيا الإقليمية والدولية، فضلاً عن مخاطره الأمنية على المنطقة الجنوبية من روسيا.
وكان إعلان عزم أوكرانيا على تصفية ما تسميه «بالتمرد الانفصالى» فى الاحتباس بالقوة، وتدفق الحشود العسكرية على المنطقة مزودة بإمدادات وفيرة من الأسلحة الغربية الحديثة ـ وخاصة الأمريكية والبريطانية ـ هو السبب المباشر لتوجيه روسيا قوات كبيرة إلى منطقة الحدود الغربية لدعم سكان «الدونباس» ذوى الأصول الروسية «فضلاً عن أن حوالى مليون منهم يحملون جنسية روسيا».. ولردع القوات الأوكرانية عن اجتياح المنطقة، خلافاً لما تقضى به اتفافيات «مينسك» لتسوية وضع «الدونباس» سلمياً.
وبالتالى فإن تدفق حشود جديدة من القوات الأوكرانية المسلحة بأحدث الأسلحة إلى المنطقة، وبدء هذه القوات فى شن الهجمات على منطقة «الدونباس» يمثل خطراً كبيراً للتصعيد، ويمكن أن يدفع روسيا لعدم الانسحاب من المنطقة الحدودية، وإلى التدخل لحماية سكان «الدونباس».. وهو ما قد يؤدى إلى اشتعال الحرب.. ونشوب مواجهة بين روسيا وحلف «الناتو» ستكون عواقبها وخيمة للغاية ليس على السلام والأمن فى أوروبا وحدها، بل على العالم بأسره، وستطال أضرارها الفادحة العالم بأسره من الناحية الاقتصادية على الأقل، بما فى ذلك منطقتنا، بحكم الجوار الجغرافى، وبحكم الاعتماد المتبادل بين مختلف بلدان وأقاليم العالم، وخاصة فى مجال إمدادت وأسعار الطاقة والسلع الغذائية وغيرها.
ولأن الأزمة الأوكرانية هى إحدى الانعكاسات الأكثر أهمية لسياسة توسع حلف «الناتو» باتجاه الشرق.. أى باتجاه روسيا، وبمخاوف روسيا على أمنها القومى، فإن فهم أبعادها بصورة جيدة يحتاج إلى مناقشة هذه السياسة «التوسع شرقاً» وقضايا الأمن والسلام فى أوروبا، على خريطة العلاقات الدولية فى مجملها، فإن جذور هذه الأزمة وانعكاساتها تحتاج إلى معالجة أوسع، سنحاول القيام بها فى مقالات لاحقة.
وللحديث بقية