د. محمد فراج يكتب : الحلف الأمريكى الجديد ضد الصين.. والحسابات الخاطئة
إعلان الولايات المتحدة عن تحالفها الثلاثى مع كل من بريطانيا واستراليا، جاء مفاجئا حتى لحلفائها المقربين فى «الناتو» مع أن التطورات التى أحاطت بالإعلان عن التحالف المعروف باسم «أوكوس» أوضحت أن الإعداد له كان يُجرى منذ عدة أشهر على أقل تقدير.
وبرغم أنه منذ أن أعلنت واشنطن عن توجهها للانسحاب من أفغانستان، كان معروفًا أنها تتجه لتركيز ثقلها الاستراتيجى فى شرق آسيا، في مواجهة الصين ــ وهى سياسة أمريكية معلنة منذ سنوات ـ إلاّ أن التوقعات كانت تتجه لأن أمريكا ستكثف وجودها العسكرى في قواعدها في كوريا الجنوبية واليابان والفلبين، ولم تكن الأنظار تتجه إلى دخول استراليا في تحالف وثيق ومباشر إلى هذه الدرجة مع أمريكا، بالرغم من وجود أشكال ودرجات من التنسيق والتعاون العسكرى بين واشنطن وكانبيرا منذ سنوات طويلة، انطلاقا من أن استراليا تعتبر نفسها إحدى دول المعسكر الغربى، وتنظر إلى الصين باعتبارها قوة معادية، وتبنى قوتها العسكرية فى مواجهة الصين أساساً.
كما لم تكن التوقعات تتجه إلى دخول بريطانيا وحدها مع أمريكا واستراليا، فى هذا الحلف «الأنجلوساكسونى» حيث إن التوجهات الاستراتيجية لحلف «الناتو» كانت تشير إلى ضرورة مواجهة «الخطر الصينى» فى إطار جماعى بالتعاون مع الولايات المتحدة، وفي هذا الإطار ــ كما هو فى إطار تجارة السلاح الدولية عمومًا ــ كانت هناك صفقة بين باريس وكانبيرا، تبني فرنسا بموجبها «١٢ غواصة» حديثة لاستراليا بتكلفة تبلغ نحو 66 مليار دولار.
المفاجأة الثانية كانت إلغاء الصفقة الفرنسية والتحول إلى عقد صفقة مع كل من الولايات المتحدة وبريطايا لبناء ١٢ غواصة تعمل بالدفع النووى (يورو نيوز ـ ١٦ سبتمبر ٢٠٢١) وهو الأمر الذى أغضب فرنسا بشدة، واعتبره ماكرون «طعنة فى الظهر» ما دفعه إلى استدعاء سفيرى فرنسا فى كل من واشنطن وكانبيرا، ولا يقف الأمر هنا عند حد الخسارة الاقتصادية الفادحة، بل يتعداه إلى شعور فرنسا بالإقصاء عن التحالف الاستراتيجى الجديد، بالرغم من أن لديها قواعد فى عدد من جزر المحيط الهادى القريبة من استراليا، وهو ما لا تملكه بريطانيا، والشعور الفرنسي هنا بـ«الإهانة» مفهوم أيضًا، وقد لقيت فرنسا تعاطفا أوروبيا واضحا، خاصة أن بريطانيا قد انسحبت من الاتحاد الأوروبي، مخلفة وراءها شعورًا بالمرارة لدى الأوروبيين.. كما أن أمريكا تصرفت في موضوع خطير يمس العلاقات الدولية كتحالف «أوكوس» دون تشاور معهم، وهم الذين لم يتأخروا عن خوض المعارك العسكرية إلى جانب واشنطن من العراق إلى يوغوسلافيا السابقة، إلى أفغانستان فضلا عن «معارك» العقوبات الاقتصادية ضد روسيا وإيران وسوريا.. إلخ، وسنعود إلى هذه النقطة مجددًا فيما يلى من مقالنا.
حلف ضد الصين
التحالف الجديد «أوكوس» يعنى «شروع أمريكا بقوة فى نقل مركز ثقلها الاستراتيجى إلى شرق آسيا والبحار المحيطة بالصين.. حيث تقع استراليا فى الجزء الجنوبى من المحيط الهادى، جنوب شرقى القارة الآسيوية، وهى نفسها قارة تبلغ مساحتها ٧.٧ مليون كم٢، وهي دولة متقدمة اقتصاديا وعضو فى مجموعة العشرين، ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالى ١.٧ تريليون دولار استرالي، أى ما يعادل حوالى ١.٢ تريليون دولار، حيث يعادل الدولار الاسترالي حوالى ٨٠ سنتًا، وبالتالى فإن لديها إمكانيات كبيرة لزيادة إنفاقها العسكرى، الذى تدل صفقة الغواصات المشار إليها على ضخامته (٢٪ من الناتج المحلى) وتُخطط استراليا لزيادة خلال السنوات العشر القادمة باعتمادات إضافية تبلغ حوالى ٣٠٠ مليار دولار حسب تقارير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام «راديو استراليا اليوم ـ ١٦/ ٩/ ٢٠٢١ - SBC Arabic24» ولديها جيش محترف حسن التنظيم والتدريب، وتخطط لبناء قواعد للقوات الأمريكية جنوبي البلاد «المصدر السابق».
وإذن فإن استراليا تمثل إضافة لا يُستهان بها للقوى المتحالفة مع الولايات المتحدة في جنوبي شرق آسيا والمحيط الهادى، وبالمقارنة يمكن القول إن ما يمكن أن تضيفه بريطانيا سيكون أقل، بالرغم من ضخامة القوة العسكرية البريطانية، حيث إن المملكة المتحدة ليس لديها إمكانيات لتعظيم إنفاقها الدفاعى بحيث تتصرف كقوة دولية فى أعالى البحار، بصورة دائمة، لأن من شأن هذا أن يؤثر على مستوى رفاهية المواطن البريطانى، وهى معادلة غير سهلة في ظل الأوضاع الحزبية والسياسية.
غير أن النتيجة الإجمالية تعنى إضافة لا يُستهان بها «استرالية وبريطانية» للقوة الأمريكية فى المنطقة المواجهة للصين، مع الأخذ فى الاعتبار طبعًا لوجود القواعد النووية الأمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية والقواعد التقليدية في الفلبين، والأساطيل الأمريكية في البحار المحيطة.
رد الفعل الصينى
وبديهى أن هذه التطورات قد رفعت مستوى التوتر في المنطقة، وأثارت غضب الصين التى اعتبرتها خطوة عدوانية خطيرة، وحسبما أشار خبير عسكرى روسى، فإن الصين تدرس التخلى عن موقفها الثابت «بالالتزام بعدم البدء باستخدام السلاح النووى» في حالة تعرضها لخطر جدي بالعدوان (RT ـ موسكو فسكى كوسوموليتس الروسية، ٢٧/ ٩ / ٢٠٢١).
وبديهى أن الخطوة الأمريكية ستطلق سباق تسلح كبير فى المنطقة خاصة أن قُدرات الصين الاقتصادية والعسكرية الكبيرة تسمح بذلك، كما أن من أهم النتائج الاستراتيجية المتوقعة لتكثيف الوجود الأمريكى في المنطقة أن تسعى الصين لتعزيز تعاونها العسكرى مع روسيا، وكان من أولى الخطوات فى هذا الصدد طلب الصين شراء 36 مروحية قتالية بحرية من طراز (كا - ٥٢) الروسية المتطورة لتعزيز حماية الشواطئ والجزر الصينية (ٍRT - «جازينا رد الروسية»، ٢٩/ ٩/ ٢٠٢١) ونعتقد أن هذه مجرد خطوة أولية وأن القادم أكبر بكثير.
من ناحية أخرى فإن سباقا متصاعدا للتسلح قد بدأ فى شبه الجزيرة الكورية، بين «سيول» و«بيونج يانج» بعد فشل المفاوضات الأمريكية ـ الكورية الشمالية حول نزع السلاح النووى من شبه الجزيرة الكورية، والمتوقع ألاّ تهتم الصين منذ الآن بكبح جماح البرنامج النووى والصاروخى لحليفها الكورى الشمالى، ردًا على التحالف الجديد «أوكوس» وغيره من خطوات تكثيف الوجود العسكرى الأمريكى في المنطقة.
وبديهى أن كل هذا سيخلق بؤرة توتر خطيرة فى المنطقة، وينطوى علي خطر انبعاث «حرب باردة أمريكية ـ صينية» وهو ما حذَّر منه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، علمًا بأن نقاط التماس بالغة الحساسية كثيرة فى هذه المنطقة، ومنها تايوان، والجزر المتنازع عليها فى بحر الصين الجنوبي، والتطورات السياسية فى هونج كونج.. وغيرها وأى خطأ في الحسابات هنا يمكن أن يؤدى إلى كارثة كبرى.
المفارقة!
والمفارقة اللافتة للنظر هي أن الولايات المتحدة تنتهج سياسة تؤدى في نهاية المطاف إلى تعزيز التقارب الصينى ـ الروسى ودفع موسكو وبكين دفعًا نحو التفكير في إقامة تحالف عسكرى بينهما، فهى بتصعيدها للمواجهة فى شرق آسيا تضغط على بكين بما يدفعها نحو موسكو، وبتشديدها للحصار على روسيا فى أوروبا، وإصرارها على توسيع حلف «الناتو» باتجاه الشرق، وتحركاتها فى آسيا الوسطى، تضغط على روسيا، بما يجعلها فى حاجة لمزيد من التقارب مع الصين، أى أن التحركات الأمريكية تحقق بالضبط النتائج المعاكسة لما تريده واشنطن.. وهذا هو ما أشار إليه سياسيون أوروبيون كثيرون ــ فى مقدمتهم إيمانويل ماكرون ــ بخصوص طريقة الأمريكيين فى التعامل مع روسيا، وتشديد الحصار عليها بما يدفعها دفعًا لتعزيز علاقاتها بالصين، بما يؤدى لزيادة قوتهما معًا..
ويمكن هنا أن نشير إلى أن الطريقة الأمريكية تستثير مقاومة أوروبية فى بعض الحالات، ولنأخذ مثلا محاولة أمريكا لمنع مد خط أنابيب الغاز الطبيعى من روسيا إلى ألمانيا «السيل الشمالى ـ٢» وفرض العقوبات على الشركات المنفذّة للمشروع، وهو ما رفضته ألمانيا لحاجتها الماسة إلى زيادة إمدادات الغاز الروسى، ولا ارتفاع أسعار البديل إلى طرحته واشنطن.. نعنى تقديم إمدادات من الغاز الأمريكى المسال بسعر يزيد مرة ونصفًا عن تكلفة الغاز الروسى، والنتيجة معروفة، لقد تم توصيل خط «السيل الشمالى ـ٢» مؤخرا وفشلت الضغوط الأمريكية واضطرت واشنطن لرفع عقوباتها.
أوكوس.. والناتو
مثلما أدت الضغوط الأمريكية على أوروبا لزيادة نفقاتها الدفاعية فى عهد ترامب، إلى بدء الحديث عن إقامة قوة دفاعية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة، وخاصة من جانب فرنسا وألمانيا، فإن إقامة الحلف الأنجلوساكسونى الثلاثى فى شرق آسيا «أوكوس» دون أى تشاور مع الشركات الأوروبيين فى الناتو، بل وبإقصائهم المتعمد، وخاصة فرنسا وانتزاع صفقة الغواصات الاسترالية من أيدى باريس، بما رافق ذلك من خسائر ضخمة للصناعة العسكرية الفرنسية.. كانت خطوات أدت إلى توتر كبير فى العلاقات الفرنسية ـ الأمريكية، وإلي اهتزاز ثقة الأوروبيين فى الحليف الأمريكى، وإثارة الحديث مجددا عن إقامة قوة عسكرية أوروبية مستقلة.
وهنا نبادر إلى القول بأن تنفيذ هذه الفكرة تكتنفه مصاعب كبيرة للغاية، بسبب افتقاد الاتحاد الأوروبى إلى الإرادة السياسية الموحدة، خاصة أن دول شرق أوروبا الأعضاء فى الاتحاد «مثل جمهوريات البلطيق وبولندا ورومانيا وبلغاريا» تحيل للخضوع للقيادة الأمريكية لأسباب سياسية وأمنية وتاريخية، تتصل بتاريخ صراعاتها مع الإمبراطورية الروسية «القيصرية» ومع الاتحاد السوفيتى، ويؤدى ذلك إلى تفضيل تلك الدول البقاء فى أحضان أمريكا و«الناتو» ورفضها لفكرة القوة الدفاعية الأوروبية، إلا أن ذلك لا يمنع من حدوث الشروخ والتصدعات فى بنية «الناتو» وإضعافه تدريجيا بسب سلوك أمريكا الأنانى تجاه دول غرب أوروبا الكبرى، وفى مقدمتها ألمانيا وفرنسا، بما في ذلك أيضا تشجيع بريطانيا علي الخروج من الاتحاد الأوروبى، ومن شأن هذا أن يضعف الناتو تدريجيا كمنظمة موحدة، بما يمثله ذلك من خسارة جسيمة مؤكدة لقوة وهيبة الإمبراطورية الأمريكية التى تشير شواهد كثيرة إلى أنها قد بدأت تدخل رحلة أفولها التاريخى.. ولكن هذا حديث آخر.