أسامة أيوب يكتب : عن الصوفية والرد على منتقديها
لأن الصوفيين المنتسبين للطرق الصوفية ومريدى أقطابها ومشايخها فى مصر يزيدون على خمسة عشر مليون متصوف، فإن ذلك يعنى أن الصوفية ضاربة بجذورها العميقة فى نسيج المجتمع المصرى عبر عقود طويلة، وهى بذلك الحضور والاتساع تُمثل جزءا مهما وكبيرًا فى المشهد الدينى والتراث الإسلامى الوسطى الذى تتميز به مصر والمصريون، ولذا وجدتنى مدفوعًا لكتابة هذه السطور.. متحدثًا عن الصوفية والصوفيين.
وللصوفية حضور كبير وواسع أيضًا بين المسلمين السُنة فى العالمين الإسلامى والعربى وبنفس الانتشار في مصر حسبما يتضح من أعداد الصوفيين في المغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان والعراق وسوريا وتركيا وغيرها.
وفي مصر مازال التاريخ يذكر ويُسجّل دور الصوفية وأقطابها ومريديهم فى المقاومة الشعبية الوطنية ضد الغزوات الاستعمارية التى مرت بالمنطقة، حيث يُعد السيد أحمد البدوي القطب الصوفى والمجاهد رفيع المقام نموذجًا لايزال حاضرًا فى الوجدان المصرى كلما ردد وتغنى مريدوه بذلك الموروث الإنشادى: «الله الله يا بدوى.. جاب اليُسرى» والذى يُعد تراثا صوفيا شعبيا لإحياء دور الصوفية فى مصر ممثلا في السيد البدوى الذي شارك مريدوه فى مقاومة الحملات الصليبية فى زمن المماليك، مع ملاحظة أن كلمة «اليسرى» فى هذا الإنشاد الصوفى أصلها «الأسرى» الذين أسرهم أتباع السيد البدوى.
< < <
إلي جانب السيد أحمد البدوى كان فى مصر أيضًا القطب الصوفى الكبير إبراهيم الدسوقى، وهما القطبان الأشهر والمعترف بهما فى عالم الصوفية إلى جانب قطبين آخرين فى العراق وهما السيد عبدالقادر الجيلانى والسيد أحمد الرفاعى «وهو غير الرفاعى المدفون فى مصر في المسجد المعروف باسمه والذى يُعد من أحفاد الرفاعى الكبير»، وهؤلاء الأربعة هم المتوافق عليهم باعتبارهم أقطاب الصوفية الأربعة الكبار فى العالم الإسلامى.
< < <
متحدثا عن السيد البدوى تحديدًا، فقد كنت أتعجب كثيرا عندما كنت أحضر فى صباى مولده الذي يُقام فى شهر أكتوبر من كل سنة فى مدينة طنطا من تلك الأعداد الضخم التى تأتى من أرجاء مصر.. من الريف والصعيد، وحيث كانت طنطا تتحول إلي مدينة مكتظة بالزائرين الذين تتجاوز أعدادهم المليون زائر، وهى أعداد تتجاوز وقتها أعداد حجاج بيت الله الحرام.
كنت أحضر المولد مع أخوالى العلماء الأزهريين ومشايخ الطريقة الصوفية التابعة للطريقة الخلوتية وأحفاد الإمام عبدالحافظ علي القطب الصوفي الكبير وإمام المذهب المالكى في الأزهر الشريف قبل أكثر من قرن ونصف القرن.
< <<
في حضرات الذِّكر التى كنت أحضرها مع أخوالى فى مولد السيد البدوى وغيره من المناسبات الدينية.. كنت أجدنى فى حالة وجد وسمو روحى، بينما تتلى قصائد المديح النبوى ومن بينها قصيدة «البُردة» الأولى المعروفة بقصيدة بانت سعاد للشاعر كعب بن زهير التى كتبها طلبًا لعفو الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة والتى أعجبت الرسول وعفا عنه ومنحه بردته الشريفة وكان ذلك سببًا فى تسميتها بـ«البُردة»، وأذكر أن الإمام عبدالحافظ علي جد أمى وأخوالى كتب شرحًا لها في كتاب معروف بعنوان «الفجر المنير فى شرح قصيدة بانت سعاد».
كنت أقارن بين تلك الحضرات التى تخلو من الضرب على الدفوف والآلات الموسيقية وبين حضرات واحتفالات الطرق الأخرى، وأسأل أخوالى وكان الجواب أن طريقتهم لها تقاليدها التى تعتبر أن ضرب الدفوف في حضرة الذِّكر خروج عن الوقار والخشوع عند ذِكر الله.
< < <
فى تلك البيئة الصوفية وأجوائها التى عايشتها رأيت أن الصوفية الحقة ليست فى الانزواء والانغماس فى الذكر والإنشاد فقط ولكنها سلوك بالغ الرقى يُلزِّم المتصوف بالعمل والكدح والأخذ بأسباب طلب الرزق والحياة مع الالتزام بأداء العبادات وكل أركان الإسلام، وفى نفس الوقت ضرورة أن يكون المتصوف نموذجًا أخلاقيًا وسلوكيًا فى كل المعاملات، باعتبار أن الصوفية تهذيب للنفوس وتطهير للقلوب وارتقاء روحى وتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة وخدمة المجتمع.
< < <
أما من ينتقدون ويُهاجمون الصوفية والمتصوفين من أصحاب الأفكار والمذاهب المتشددة والمتطرفة، فإنهم فى حقيقة الأمر يجهلون أو يتجاهلون فلسفة الصوفية وممارساتها، فهم حين يهاجمون إقامة الموالد لإحياء ذكرى آل البيت وأولياء الله الصالحين وأقطاب الصوفية باعتبارها بدعة تصل إلي درجة الشرك إنما يتغافلون عن قوله تعالى: «إنما يُريد الله أن يُذهب عنكم الرجس آل البيت ويُطهركم تطهيرًا»، وعن قوله تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ويتغافلون أيضًا عن قوله صلى الله عليه وسلم: «الحسين منى وأنا من الحُسين»، وعن أنه صلى الله عليه وسلم طلب من المسلمين مودته فى القربى من آل بيته.
وعن تكفير هؤلاء المتطرفين لمن يدعون الله متوسلين بآل البيت وأولياء الله الصالحين، فإنه مردود عليهم بما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثانى الخلفاء الراشدين عندما خرج لصلاة الاستسقاء مصطحبًا العباس بن عبدالمطلب ودعا الله «إنا نستسقى بالعباس عم النبى صلى الله عليه وسلم» وبعدها نزل المطر.
وعن تكفير هؤلاء المتطرفين للذين يقومون بتقبيل مقصورات أضرحة آل البيت وأولياء الله وهو سلوك فطرى يمكن تفهم دوافعه لدى هؤلاء البسطاء باعتباره تعبيرًا عن الحب، فإنه مردود عليه بقول الشاعر العربى: «أمر على الديار أقبل ذا الجدار وذا الجدار، وما حب الديار شغفن قلبى ولكن حب من سكن الديار».
< < <
الخطير فى أفكار هؤلاء المتطرفين التي تنطلق من فقه البداوة والصحراء والغلظة أن يصل الغلو المقيت إلى درجة تحريم الاحتفال بذكر المولد النبوى الشريف.. متغافلين أيضًا عن أنه صلى الله عليه وسلم عندما سأله الصحابة عن سبب صومه يوم الاثنين أجابهم: «هذا يوم وُلدت فيه»، أى أنه صلى الله عليه وسلم أول من احتفل بيوم مولده، ومن ثم فقد صار سُنة يتعين اتباعها.
< < <
أما التخوف من أن تكون الصوفية مدخلاً للتشيع والترويج للمذهب الشيعى فمردود عليه بأن الصوفية فى مصر صوفية سُنية تنطلق فى سلوكها من المذهب السُنى والسُنة النبوية وهو مذهب أهل الجماعة الذى ينتمى إليه المصريون جميعًا وهو لا يتعارض فى نفس الوقت مع حبهم الشديد لآل البيت، ولذا فقد تواتر أن المصريين شيعيو الهوى سنيو المذهب، وهو المذهب الذي تمسكوا به منذ دخول الإسلام إلى مصر باستثناء قرنين من الزمان خلال الحكم الفاطمى والذى أدخل المذهب الشيعى مع إنشاء الأزهر، غير أنه سرعان ما عاد المصريون سريعًا إلى مذهب السُنة وأهل الجماعة وحتى الآن وحتى قيام الساعة.
< < <
وإذا كان الأزهر الشريف.. جامعا وأروقة وجامعة هو الذى حافظ على علوم الإسلام فى سطور الكتب طوال ألف عام، فإن الصوفية هى التى حافظت على الإسلام ذاته.. عقيدة وعبادات ومعاملات وسلوكا فى صدور وقلوب المصريين.
< < <
في الرد على منتقدى الصوفية ومهاجميها من المتطرفين أنه يكفيها علوًا ورفعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان الصوفى الأول فى الإسلام بل قبل نزول الوحى عليه عندما كان يخلو بنفسه فى غار حراء بمكة.. متأملاً متعبداً متصوفاً.