د.محمد فراج يكتب: بعد فوز ترامب.. ماذا ينتظر العرب والعالم (1)
أثار فوز دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية ردود أفعال واسعة ومتناقضة فى مختلف أنحاء العالم، تراوحت بين الحماس والتفاؤل والرضى أو التفاؤل الحذر لدى بعض الأطراف، لتصل إلى القلق والحذر والمخاوف لدى أطراف أخرى، حسب مواقف الرئيس الأمريكى المنتخب من القضايا المتصلة بمصالح تلك الأطراف.
وكانت إسرائيل أول السعداء بعودة ترامب المرتقبة للبيت الأبيض، كما كان نتنياهو بين أوائل من اتصل بترامب لتهنئته بالفوز بأحر الكلمات، بعد ساعات قليلة من إعلان نتائج الانتخابات، وذلك بالرغم من الدعم غير المحدود الذى قدمته إدارة بايدن لإسرائيل على كافة المستويات فى حرب الإبادة الوحشية التى تشنها على الشعبين الفلسطينى واللبنانى، ومن إعلان بايدن أنه "صهيونى" ومن مواقف المرشحة الرئاسية الديمقراطية كاميلا هاريس المؤيدة بشدة للكيان الصهيوني أثناء حملتها الانتخابية.
ويرجع هذا إلى الدعم المطلق – الذى يصل إلى حد التطابق – الذى أبداه ترامب تجاه إسرائيل أثناء فترة رئاسته الأولى (يناير 2017- يناير 2021)، فعلاوة على كل أشكال الدعم السياسى والعسكرى والاقتصادى، كان ترامب أول رئيس أمريكى يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ويقوم بنقل السفارة الأمريكية إليها، كما اعترف بضم الدولة الصهيونية لمرتفعات الجولان السورية.
كما أعلن خلال حملته الانتخابية الأخيرة دعمه لأطماع التوسع الصهيونى، قائلا إن إسرائيل دولة عظيمة لكن مساحتها أصغر مما ينبغى وهى تقع بين دول شاسعة المساحات، وهى تستحق أن تكون مساحتها أوسع مما هى عليه الآن!! وهو تصريح يتناقض بصورة صارخة مع كل قواعد القانون الدولى.
ومعروف أيضا أن ترامب قد مارس ضغوطا شديدة أثناء فترة رئاسته الأولى لفرض ما يعرف باتفاقات "السلام الإبراهيمى" وفرض تطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية والكيان الصهيونى فى إطار ما يعرف "بصفقة القرن" التى تهدر حقوق الشعب الفلسطينى إهدارًا كاملًا، وتطيح حتى بما يسمى ورقة "التطبيع مقابل إقامة الدولة الفلسطينية" وإن تكن منزوعة السلاح ومحرومة من كل مظاهر السيادة!!
لذلك لم يكن مستغربا أن تستقبل إسرائيل فوز ترامب بكل هذه الحفاوة.
حماس غربى غريب!
ولذلك أيضا كان مثيرا للدهشة والاستنكار أن تستقبل بعض الفضائيات ووسائل الإعلام العربية فوز ترامب بحماس شديد وكأنه نصير للحقوق العربية!! لمجرد تصريحه بأنه سيعمل على وقف الحرب فى المنطقة، مع ملاحظة أنه استخدم تعبيرا مثيرًا لأشد الارتياب بقوله إنه سيعمل على وضع حد للفوضى فى الشرق الأوسط، وهو تعبير ينطوى على عداء واضح للمقاومة الفلسطينية واللبنانية اللتين تعتبرهما أمريكا من مظاهر الفوضى والعنف والإرهاب
ومعروف أيضا أن أمريكا دعمت الحرب الإرهابية الكونية ضد سوريا، سواء فى عهد أوباما أو عهد ترامب، وأن القوات الأمريكية تمثل أجزاء واسعة من شمال شرقى سوريا، وقامت بتوجيه ضربات واسعة للقوات السورية دعما للقوى الإرهابية، كما تفرض على دمشق حصارا اقتصاديا خانقا وقد صدر "قانون قيصر" الأمريكى فى عهد ترامب (ديسمبر 2019) وهو قانون يفرض على سوريا أقسى العقوبات الاقتصادية ويشمل بهذه العقوبات كل دولة أو مؤسسة أو شركة تتعاون معها اقتصاديا أو تجاريا، وقد أوصلت العقوبات المفروضة بموجب هذا القانون بالتضافر مع الدمار الذى ألحقه الإرهاب بالبلاد، واحتلال القوات الأمريكية الحركة الانفصالية الكردية للمناطق الغنية بالبترول والغاز والأراضى الخصبة والمياه العذبة "منطقة شرق الفرات".. أوصلت الاقتصاد السورى إلى حالة من الدمار شبه الكامل، ووضعت الشعب السورى على حافة المجاعة.
وإذا كانت هذه هى الأمثلة لما فعلته السياسة الأمريكية بالمنطقة فى عهد ترامب بمنطقتنا، فإنه يبدو غريبا وغير منطقى على الإطلاق ذلك الحماس الذى تبديه بعض وسائل الإعلام وبعض الأوساط السياسية "العربية" لفوز ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وعودته المرتقبة إلى البيت الأبيض!!
وليس معنى ذلك بأى حال أن مواقف إدارة بايدن تجاه القضية الفلسطينية ولبنان الشقيق وبقية قضايا المنطقة، هى أفضل من مواقف بايدن وإدارته أثناء ولايته الأولى، فمواقف إدارة بايدن بالغة السوء وانحيازها للكيان الصهيونى مطلق، لكن مواقف ترامب وإدارته المنتظرة ستكون أسوأ من السيئ بل ومن السوء ذاته!
والواقع أن الشعوب والدول الصغيرة والمتوسطة إذا لم تعتمد على قواها الذاتية، وعلى التضامن فيما بينها من أجل الدفاع عن مصالحها وحقوقها، فلن يكون أمامها إلا التقلب بين السيئ والأسوأ من قوى كلها معادية لمصالح وحقوق تلك الدول والشعوب الصغيرة والمتوسطة بطريقة أو بأخرى.
وما يجب أن يفهمه العرب هو أن الاستقرار والسلام والتسوية فى المنطقة كلها مفاهيم تعنى بالنسبة لأمريكا والدول الغربية الكبرى ــ وإسرائيل طبعا ــ فرض الهيمنة الأمريكية والغربية والصهيونية على المنطقة ونهب ثرواتها، ولا شىء غير ذلك، وأن الديمقراطيين والجمهوريين الأمريكان هم كلهم وجوه لعملة استعمارية واحدة، مع التسليم بفروق تفصيلية فى الأسلوب والشكل بين إدارة وأخرى وشخصية هذا الرئيس أو ذاك، ولذلك فلا مانع للاحتفاء الكبير بالاختيار بين السيئ والأسوأ، علمًا بأن ترامب يظل هو الأسوأ.
فوضى فى العلاقات الدولية
شهدت الأيام والأسابيع الأولى من ولاية ترامب الأولى (يناير 2017 – 2021) إلغاءه لعدد كبير من الاتفاقيات الدولية بالغة الأهمية فى مقدمتها اتفاقية الحفاظ على المناخ واتفاقية النافتا للتجارة الحرة بين دول أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) واتفاقية التجارة الحرة بين أمريكا ودول المحيط الهادى، والصدام بين واشنطن والاتحاد الأوروبى حول شروط التبادل التجارى، وكذلك حول نصيب كل من الطرفين فى تمويل أنشطة حلف الناتو، كما شهدت الأسابيع والأشهر الأولى وبقية ولاية ترامب اشتعال الحرب التجارية بين أمريكا والصين، وهى كلها تطورات ألحقت اضطرابا كبيرا بالاقتصاد العالمى وبالعلاقات الدولية عموما، واحتاجت إلى سنوات من الجهود الشاقة لإصلاح آثارها.
وإذا كان ترامب يتباهى بأن فترة ولايته لم تشهد حروبا، فإن النزعة الحمائية فى التجارة، وما يرتبط بها من تصعيد لمشاعر التعصب القومى وعدم احترام للالتزامات التعاقدية الدولية، هى أمور تصنع مناخا للتوتر المتصاعد فى العلاقات بين الدول والتكتلات الدولية، من شأنه أن يؤدى إلى أشكال مختلفة من النزاعات والصدامات، وتفتح الباب أمام اشتعال الحروب فى النهاية، ولم تكن الحرب العالمية الأولى والثانية إلا صراعا مسلحا من أجل اقتسام وإعادة اقتسام المستعمرات والأسواق بين القوى الغربية الكبرى.
ولذلك فإن سلاما كالذي يتحدث عنه ترامب لا يمكن أن يكون سلاما وطيدا أو طويل الأمد، مادامت النزعة الإمبراطورية الأمريكية والأطلسية قائمة.
ومنطق الصفقات الذى يحب ترامب الحديث عنه والقائم على العلاقات الشخصية الجيدة بين الزعماء والروح البراجماتية، هو منطق محكوم عليه بالفشل على المدى الطويل ما لم يكن مستندا إلى توازن قوى حقيقى، ومراعاة للمصالح الموضوعية لمختلف الأطراف، لأن كل "صفقة" ستكون عرضة للمراجعة بعد وقت يطول أو يقصر بمجرد أن تتغير علاقات القوى، وسيسعى كل طرف يشعر بالغُبن إلى تغيير علاقات القوى بالضرورة لكى يتمكن من مراجعة الصفقة المفروضة عليه بالقوة، و"شطارة" رجال الأعمال لا يمكن أن تكون أساسا وطيدا للعلاقات الدولية ومثل هذه الأفكار السطحية والمبسطة غير قادرة على حل المشكلات الجدية ومعالجة القضايا ذات الطابع التاريخى.
وللحديث بقية..