أسامة أيوب يكتب : هاجس انقلاب عسكرى يخيّم على السودان
وسط حالة السيولة السياسية الخطيرة التى يشهدها السودان منذ أسابيع ولاتزال مستمرة بفعل الأزمة التي تفجرت بين المكون العسكرى فى مجلس السيادة والمكون المدني والحكومة الانتقالية، فإن نجاح الفترة الانتقالية بات مهددًا وعلى النحو الذى تتراجع معه بالضرورة فرصة التحول الديمقراطى وإقامة حكم مدنى فى نهاية هذه الفترة، وفقًا لما أقرته الوثيقة الدستورية الموقعة بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير بوصفها الحاضنة السياسية لنصر ثورة ديسمبر.
الخطر الحقيقى الداهم والمحدق بالسودان حاليًا يكمن فى الانقسام الذي بدا مفاجئاً وإن كان متوقعا بل مرجحا بين المكونين المدنى والعسكرى داخل مجلس السيادة من جهة وبين العسكريين فى المجلس وفى مقدمتهم رئيسه؛ الفريق البرهان؛ ونائبه حمديتى والحكومة المدنية الانتقالية برئاسة الدكتور عبدالله حمدوك من جهة أخرى.
ثم إنه من اللافت وعلى نحو مريب أن يحدث الانقسام أيضًا مؤخرًا بين المدنيين داخل قوى الحرية والتغيير.. الحاضنة السياسية للمسار الثورى والتى قادت ومعها تجمع المهنيين ثورة الشعب السودانى التى أسقطت نظام البشير الاستبدادى الفاسد، والتى تتعرض لهجوم حاليا من قوى مدنية وأحزاب أخرى تتهمها بالاستحواذ على الحكومة وإقصاء شخصيات وتيارات من بينها الحركات الثورية التى وقعت مع مجلس السيادة اتفاقية السلام فى عاصمة جنوب السودان جوبا قبل أكثر من عام رغم أن لهذه الحركات وزراء ممثلون في الحكومة التى يطالبون بحلها!
وفي نفس الوقت فقد دخلت الأحزاب التي كانت معالية لنظام البشير ومعها فلول النظام على الخط في مهاجمة الحكومة والمطالبة بحلها، حيث بدا واضحًا أنها وراء تلك المظاهرات والاعتصامات أمام القصر الجمهورى والتى أقامت الخيام لتأكيد استمرار الاعتصام حتى يتم حل الحكومة التي تظاهر أمامها بعض هؤلاء من محاولين اقتحام مقرها في الوقت الذى قرروا فيه إغلاقه لحين استقالتها!
ومن ثم فإنه يمكن قراءة هذا الانقسام وذلك الصراع المتفجر فجأة على أنه انقسام وصراع بين المنقلبين على الفترة الانتقالية والتحول الديمقراطى وبين الحكومة المدنية الانتقالية والقوة المدنية المتمسكة بإنجاح الفترة الانتقالية والوصول إلي التحول الديمقراطى وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة.
<<<
ولأنه لم يعد خافيًا أن العسكريين فى مجلس السيادة برئاسة البرهان وحميدتى يتجهون فعليًا للانقلاب على الفترة الانتقالية وتقويض استحقاقاتها وانتهاك الوثيقة الدستورية بالتملص من تسليم رئاسة المجلس إلى أحد الأعضاء المدنيين بالمخالفة للوثيقة التي نصت على تداول الرئاسة بالتناوب.. فإنه ليس من الصعوبة بمكان اتهام العسكريين بأنهم وراء تسيير تلك المظاهرات والاعتصامات أمام القصر الجمهورى ومقر الحكومة، وحتى يبدو أن الشعب السودانى ضد الحكومة ومن ثم يمكن حلها حسبما توعد البرهان.
<<<
هذا التوجه للانقلاب على الفترة الانتقالية وإزاحة الحكومة الانتقالية بل كل المدنيين وقوى الحرية والتغيير من السلطة والمشهد السياسى.. تبدّى واضحًا وكشفته تصريحات البرهان عقب ما وصفه بمحاولة الانقلاب الفاشلة الشهر الماضى عندما قال إن الجيش هو الوصى على السودان، وهو نفس المعنى الذى كرره نائبه حميدتى!
المثير للسخرية حقا فى تصريحات حميدتى الذى يترأس أحد جناحى القوات المسلحة وهو قوات الدعم السريع التى أنشأها البشير لقمع وذبح الحركات الثورية في دارفور وغيرها.. المثير للسخرية أنه استنكر مطلب إخضاع القوات الأمنية والمخابرات العامة لإشراف الحكومة المدنية الانتقالية.. مبررًا ذلك بأن ترك هذه الأجهزة للمدنيين من شأنه تعريض المواطنين السودانيين للبطش!!.. متناسيًا ومتغافلا عن أن العسكريين سواء في النظام السابق أو أثناء الثورة وبعدها هم الذين بطشوا بالمواطنين وأن قوات الدعم السريع هى التى ارتكبت المذابح ضد المواطنين المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش أثناء الثورة.
< <<
المثير أيضًا أن الفريق البرهان رئيس مجلس السيادة الذى يتهم حاليًا حكومة حمدوك بالفشل لم يكتشف أو يعلن هذا الاتهام إلا بعد أكثر من عام ونصف ومع اقتراب موعد تداول رئاسة المجلس وتسليمها للمكون المدني، وهو اتهام ينطوى علي محاولة مكشوفة ومفضوحة لتحميل الحكومة مسئولية استمرار تردى الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية، رغم أن العسكريين في مجلس السيادة هم الذين تغولوا على سلطة الحكومة وأعمالها واستولوا على المقدرات الاقتصادية للدولة وغلوا يد حمدوك وحكومته عن ممارسة مهام سلطتهم التنفيذية بما فى ذلك الإشراف على الأجهزة الأمنية.
< < <
وفي نفس السياق تأتى ثورة قبائل البجا في شرق السودان التي تواكبت مع ما وصفه البرهان بمحاولة انقلاب فاشلة، ورغم مشروعية مطالب البجا وولايات شرق السودان والتي جرى تهميشها طوال عقود في السلطة وفي نصيبها من الثروة بما في ذلك موارد الإقليم ذاته، إلا أن تفجر هذه الثورة وإقدام البجا علي إغلاق الطرق والمطار والموانئ وعرقلة وصول الوقود إلي العاصمة الخرطوم ومنع تصدير الصادرات للخارج بما فى ذلك بترول جنوب السودان.. تفجر هذه الثورة فى هذا التوقيت وخاصة أنها موجهة ضد حكومة حمدوك المدنية حصريًا دون أى اتهام لمجلس السيادة الذى يسيطر عليه العسكريون بل المطالبة بحل الحكومة وتشكيل مجلس عسكرى لإدارة شئون البلاد.. ليس له تفسير مقبول ومعقول في ظل هذه الأزمة المتفجرة سوى أن هذه الثورة مدعومة وموجهة من جانب العسكريين فى مجلس السيادة.
< <<
غير أنه من الضرورى فى نفس الوقت التوقف عند أخطاء الممارسة خلال الفترة الانتقالية وهى أخطاء يشترك فيها مجلس السيادة بمكونيه العسكرى والمدني إلي جانب الحكومة بإغفال استكمال هياكل وأجهزة السلطة المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية وفي مقدمتها تشكيل المجلس التشريعى والمحكمة الدستورية ثم مفوضية صياغة الدستورية ومفوضية الانتخابات والأهم إصلاح الأجهزة الأمنية، وإن كان الإنصاف يقتضي إبراء ذمة الحكومة من النصيب الأكبر فى هذه الأخطاء بالنظر إلى تغول المكون العسكرى فى مجلس السيادة علي أداء الحكومة للحيلولة دون تنفيذ تلك الاستحقاقات.
<<<
واقع الأمر.. إن ما جري ويجرى في المشهد السياسى السودانى يأتى ضمن سيناريوهات متنوعة ومتعددة ينفذها العسكريون في مجلس السيادة لتقويض الفترة الانتقالية والانقضاض على السلطة وإزاحة المدنيين والحكومة الانتقالية، وهذه السيناريوهات بدأت بافتعال الانقسام والأزمة مع المكوّن المدنى للتعلل بعدم تسليم رئاسة المجلس المكوّن المدنى، ثم باتهام الحكومة بالفشل والدعوة إلى حلها أو تغيير أعضائها، بينما كان إشعال ثورة شرق السودان ضمن هذه السيناريوهات ضد الحكومة المدنية وبينما كان السيناريو الأول هو الإعلان عن مسرحية محاولة الانقلاب الفاشل التى لم يكشف عن قادتها حتى الآن، وهو السيناريو الذى كان يستهدف ترويع السودانيين للتسليم للعسكريين في مجلس السيادة بقدرتهم على حفظ الاستقرار والأمن وتنفيذ أهداف الثورة!! أى أنها هذه المسرحية كانت بمثابة «بروفة» أو تمهيد لانقلاب حقيقى بزعم استمرار الثورة وضمان التحول الديمقراطى تحت حكم العسكر!!
<<<
أما السيناريو الأخطر فهو تلك المظاهرات والاعتصامات أمام القصر الجمهورى ضد الحكومة والمطالبة بحلها والتي سيتم حشد مواطنين من مختلف الولايات وخاصة من ولايات الشرق للانضمام إليها في مليونية تتحول إلى ثورة جديدة مفتعلة مضادة لثورة ديسمبر الحقيقية ومن ثمَّ تكون مدعاة لانضمام العسكريين فى مجلس السيادة وانحيازهم إليها بالقيام بانقلاب عسكرى جديد يعود بالسودان وثورته إلى الوراء وإلي عهد الاستبداد العسكرى الذى سقط بسقوط البشير وتسعى الدولة العميقة وفلول النظام السابق ومن بينهم العسكريون أنفسهم فى مجلس السيادة إلى استعادته!
<<<
ورغم أن خريطة الطريق التى بادر عبدالله حمدوك رئيس الحكومة المدنية الانتقالية بالإعلان عنها والتى تضمنت اللجوء إلي الحوار ووقف التصعيد بين أطراف الأزمة من العسكريين والمدنيين قد لقيت قبولا سودانيا كبيرًا وحظيت بدعم وتأييد إقليمى ودولي وحيث أعلنت الخارجية الأمريكية دعمها لتلك الخريطة، إلا أنه من الواضح أن العسكريين فى مجلس السيادة بقيادة البرهان وحميدتى سوف يعرقلون نجاحها.
<<<
ويبقى السودان رهينة بين مساعى إنهاء الانقسام ووقف الصراع وإنجاح الفترة الانتقالية والاستعداد لإجراء الانتخابات في نهايتها والتحول الديمقراطى وإقامة الحكم المدني وبين هاجس انقلاب عسكرى تُرجح الشواهد حدوثه.
وفى حالة حدوث الانقلاب فإن قادته العسكريين وعلى رأسهم البرهان وحميدتى سوف يواجهون عقوبات دولية ووقف المساعدات المالية، ليدخل السودان فى نفق مظلم آخر، ولعل ذلك التوجس هو ما يثير حيرة من يتجهون للقيام بالانقلاب.
<<<
ومع ذلك يبقى هاجس الانقلاب العسكرى يخيّم علي السودان كله..
وللحديث بقية فى قادم الأيام