د. محمد فراج يكتب : تركيا.. واللعب بالنار فى منابع النيل
تركيا تلعب بالنار عند منابع النيل، وتحاول العبث بأمن مصر المائى، وتعقد الاتفاقات العسكرية مع أثيوبيا وتقدم لها أسلحة متطورة، بينما تجرى «مشاورات استكشافية» مع مصر لبحث «تطبيع العلاقات» و«إجراءات بناء الثقة»!! وبعد زيارة قام بها رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد إلى أنقرة «١٨ أغسطس الماضى» بدأت الأخبار تتواتر فى وسائل الإعلام العالمية عن اتفاقية «جديدة» للتعاون العسكرى بين أنقرة وأديس أبابا، وعن صفقة كبيرة من الطائرات المسيَّرة «درون» التركية المتطورة بدأت فى الوصول إلي أثيوبيا.
وبدأت الأخيرة فى استخدامها بالفعل ضد قوات إقليم «التيجراى»، وما هذه إلا بداية لشحنات أخرى من الأسلحة والمعدات العسكرية، فضلا عن أشكال أخرى للتعاون فى إطار الاتفاقات التى عقدها آبى أحمد أثناء لقائه بأردوغان في أغسطس الماضى.
صفقة الطائرات المسيَّرة بالذات من شأنها أن تحدث انقلابا في موازين القوى العسكرية في إقليم التيجراى ومنطقة الحدود الشرقية للسودان مع أثيوبيا، ومنطقة «الفشقة» السودانية التي كانت أثيوبيا تحتلها منذ أكثر من عشرين عاما ـ في عهد البشير- وقامت القوات السودانية بتحرير الجزء الأكبر منها مؤخرًا.. وهى المنطقة التى تُمثل جزءا من إقليم «بنى شنقول» الذى يوجد به «سد النهضة»، وتحاول القوات الأثيوبية استعادة السيطرة على هذه الأراضى السودانية الخصبة، والقريبة من موقع السد، ولكن الجيش السودانى يحكم قبضته على هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية الكبيرة.
وواضح تماما الطابع العدائى لهذه الخطوة التركية تجاه كل من مصر والسودان خصوصا فى ظل ما تبديه أثيوبيا من تعنت ومراوغة فى قضية «سد الخراب» ورفضها لأغلب بنود البيان الرئاسى الصادر عن مجلس الأمن «راجع: الأموال، ٢٦ سبتمبر٢٠٢١»، وكذلك رفضها بدء التفاوض حول «اتفاق ملزم» بخصوص عملية ملء وبناء السد، تحت رعاية الاتحاد الأفريقى، بالرغم من أن الرعاية الأفريقية للمفاوضات هى مطلب أثيوبي أصلا.
والواقع أن تقديم مساعدات عسكرية فعالة لأثيوبيا فى ظل هذا الموقف المتعنت والمراوّغ والعدائى، يعنى تشجيعها على المضى فيه، ومن ثم فإنه يلحق ضررًا واضحًا بمصالح كل من مصر والسودان، وهو ما دعا مصر مؤخرًا إلى مخاطبة الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية الكبري للضغط على تركيا لعدم المضى فى تنفيذ هذه الصفقة «رويترز – RT باللغة العربية - ١٤ أكتوبر٢٠٢١».
والأسوأ من ذلك هى محاولة تركيا لفك الارتباط بين الموقفين المصرى والسودانى «والأصح أن نقول: محاولتها للوقيعة بين البلدين الشقيقين» من خلال عرضها القيام بدور الوساطة بين أثيوبيا والسودان، بعيدا عن مصر!! وتوجيه أردوغان الدعوة لرئيس المجلس الرئاسى السودانى «الفريق أول عبدالفتاح البرهان» لزيارة أنقرة قبل أيام من زيارة آبى أحمد، المشار إليها سابقا، وسط ترويج إعلامى تركى لهذه «الوساطة» المشبوهة.
أما الضرر الفادح والمباشر لصفقات السلاح التركية لاثيوبيا على شعب التيجراى فقد اتضح بصورة قوية من خلال استخدام الطائرات المسيَّرة فى قصف مدن وقري الإقليم خلال الأيام والأسابيع الماضية، وتشير التقارير إلي أن أديس أبابا كانت قد تلقت عددا من هذه الطائرات قبل عقد الصفقة، علمًا بأن الحرب التي تشنها أثيوبيا علي «التيجراى» تلقي إدانة دولية عامة بسبب المذابح الوحشية وعمليات الاغتصاب الجماعية التي تقوم بها قوات الجيش الاثيوبى ضد سكان الإقليم، غير أن سياق مقالنا لا يسمح بالتوسع في هذه المسألة.
«بناء الثقة» والنكتة السخيفة!!
وقد انعقدت الجولة الثانية من «المشاورات الاستكشافية» ولم تكن كل تفاصيل الاتفاقيات العسكرية بين أنقرة وأديس أبابا قد أصبحت معروفة بالصورة المتاحة الآن، والتى استدعت الاحتجاج المصرى.. غير أن العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية قديمة بين الطرفين، وإن تكن قد اتجهت نحو التعزيز والتفعيل بصورة مكثفة في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد بدء العمل في «سد الخراب» وخاصة مع الإطاحة بحكم «الإخوان» فى مصر، التى وجهت ضربة قاسية لأحلام تركيا بتوسيع سيطرتها على المنطقة، وأوهام إحياء الخلافة العثمانية.
والواقع أن هذه الضربة للمخططات التركية بالذات ـ نعنى ثورة ٣٠ يونيو والإطاحة بحكم الإخوان قد عززت رغبة تركيا في المشاركة فى مخططات عزل مصر ومحاصرتها وإضعافها، وهى المحاولات المحكوم عليها بالفشل، كما فشلت محاولة اختطاف مصر.
وفي هذا السياق تم عقد اتفاقية للتعاون العسكرى بين تركيا وأثيوبيا عام ٢٠١٣ «لاحظ التزامن مع ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣»، صدَّق عليها البرلمان الاثيوبي عام ٢٠١٥ الذي شهد زيارة لأثيوبيا قام بها أردوغان، وتضمنت الاتفاقية بنودًا لتدريب الضباط الأثيوبيين وإمداد الجيش الأثيوبى بالسلاح والمعدات العسكرية «كالرادارات وغيرها».
التغلغل الاقتصادي والثقافي
غير أن الجانب الاقتصادى ربما كان الأكثر بروزًا في العلاقات بين البلدين، إذ وجهت تركيا لاثيوبيا منذ ذلك الوقت استثمارات كبيرة بلغت «٢.٥ مليار دولار - مليارين ونصف المليار دولار» تمثل نحو نصف الاستثمارات التركية في القارة الأفريقية بأكملها، وتوزعت بين مختلف المجالات الاقتصادية، وخاصة الصناعة، حيث أقام المستثمرون الأتراك عددا من مصانع النسيج لاستغلال الأيدى العاملة الاثيوبية الرخيصة، وتعد الاستثمارات التركية الثانية من حيث الحجم في اثيوبيا، بعد الاستثمارات الصينية.
كما شملت أوجه التعاون الزراعة واستغلال المياه وبناء السدود، وعملت تركيا علي نقل خبرتها في بناء السدود لاثيوبيا، وهي الخبرة التى تتمثل فلسفتها في بناء شبكة من السدود علي نهري دجلة والفرات ــ اللذين ينبعان من الأراضى التركية ــ تضمن السيطرة تدريجيًا علي مياه النهرين، بما يتيح لأنقرة التحكم الشامل فى تدفق مياه النهرين إلى دولتى المصب «سوريا والعراق» بغض النظر عن القوانين والاتفاقيات الدولية المنظِّمة لاستغلال مياه الأنهار، وأيضًا عن الاتفاقيات السابقة بين دول المنبع والمصب، وهو ما نراه اليوم في تقليل تدفق دجلة والفرات إلى سوريا والعراق بصورة أدت إلى تعطيل محطات الكهرباء السورية «وخاصة محطة سد الفرات» وإلى بوار مساحات شاسعة من الأراضى الزراعية فى سوريا، وفي مياه الشرب لسكان منطقة شرق الفرات، كما أدت لتقليص مساحة الأراضى المسموح بزراعتها في العراق إلي النصف «نكرر: النصف» هذا العام، بسبب شح المياه، وبما يترتب على ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية وإنسانية بالغة الخطورة، وليس خافيا أن هذا النموذج «التركى» هو «ما يحلم» آبى أحمد بتطبيقه على النيل الأزرق!!
وبديهي أن مصر والسودان لن تسمحا بذلك بأى حال من الأحوال، كما أن علاقات القوى بين كل من مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى، لا تسمح بتحقيق هذا «الحلم الأثيوبى» الشرير، وهي علاقات تختلف جذريا عن توازن القوى بين تركيا وكل من سوريا والعراق، غير أن سياق تطورات العلاقة بين أديس أبابا وأنقرة، والتغلغل التركى فى أثيوبيا، والسعى لتسليح الجيش الأثيوبى بالأسلحة الحديثة، كلها أمور تشير إلى التوجهات بالغة الخطورة للتفكير التركى ـ الأثيوبى تجاه مياه النيل.
ومن ناحية أخرى فقد شهدت العلاقات التجارية بين البلدين تطورا متسارعا خلال السنوات الأخيرة، لتصل إلى (٦٥٠ مليون دولار) عام ٢٠٢٠ (RT - ١٥ فبراير ٢٠٢١)، وربما لا يبدو الرقم كبيرا، لكنه كبير بمعايير التجارة الخارجية لدولة فقيرة مثل اثيوبيا.
ومن ناحية أخرى فإن تركيا اهتمت بإقامة عشرات المراكز لتدريس اللغة التركية، فضلا عن المدارس التى يجرى التدريس فيها باللغة التركية، وإرسال آلاف الطلاب الأثيوبيين للدراسة في المدارس والجامعات والكليات العسكرية والأمنية التركية «البوابة، ١٩ أكتوبر ٢٠٢١ - نقلا عن «لوموند» الفرنسية» وانظر بتفصيل أكبر «الدور التركي المحتمل فى الأزمة الأثيوبية، مركز الإمارات للسياسات، ١ سبتمبر ٢٠٢١».
تركيا والقرن الإفريقى
وإذا أضفنا إلى هذا كله التغلغل التركى فى الصومال اقتصاديا وعسكريا ووجود قاعدة عسكرية لتركيا فى هذا البلد العربى، ومساعيها الحثيثة للحصول على قاعدة عسكرية لها في چيبوتى، وحصولها على قاعدة فى «سواكن» بالسودان في عهد البشير، توقف العمل بها بعد الثورة التي أطاحت بحكمه، لأدركنا بوضوح خطة تركيا للانتشار فى منطقة القرن الإفريقى، عند مداخل خليج عدن والبحر الأحمر، بل دواخل البحر الأحمر نفسه، لولا تعطيل الثورة السودانية للمشروع، وهذا كله غير تغلغلها فى أثيوبيا، كبرى دول القرن الأفريقى.
وإذا أضفنا إلى ما سبق التغلغل التركي في ليبيا المشاركة لمصر في الحدود البرية والبحرية، ودور تركيا في احتضان الإرهاب فى ليبيا وقبله الإرهاب الإخوانى وتنظيمه الدولى «راجع بالتفصيل: الأموال، ٩ مايو و٢٣ مايو ٢٠٢١»، وإذا وضعنا ذلك كله فى سياق واحد لاتضح لنا خطورة نوايا تركيا العدوانية ضد مصر، وخطورة خطواتها الأخيرة في المجال العسكرى مع أثيوبيا، في توقيت تتصاعد فيه عدوانية هذه الأخيرة فى قضية «سد الخراب»، ولأدركنا أيضًا سبب التحفظ الذى يبديه الجانب المصري في تسمية المفاوضات مع تركيا بـ«المشاورات الاستكشافية» وفي تكرار تصريح وزير الخارجية سامح شكرى: «نريد أفعالا لا أقوالاً»، ولفهمنا سر الغضب المصرى تجاه صفقات السلاح التركي الأخيرة لأثيوبيا، ولماذا يستحيل الحديث عن «حسن النية»، «وإجراءات بناء الثقة» بدون مواجهة صريحة للخطوات التركية العدوانية الأخيرة التي تتسم بخطورة بالغة في منابع النيل ومنطقة القرن الإفريقى.
فالنيل هو قضية حياة أو موت بالنسبة للشعب المصرى، قضية وجود.. ولا يمكن الحديث عن «علاقات طبيعية» مع أى طرف يتآمر علي حقوقنا فيه، وبتعبير أدق فإن «العلاقات الطبيعية» مع من يتآمر على حقنا فى الحياة، لا يمكن أن تكون غير العداء، فهذه قضية لا مجال للمساومة فيها، وبديهى أن المصريين يختارون الحياة، والدفاع عن حقهم فيها ــ فى النيل ــ حتى الرمق الأخير.. وعلي كل من يريد إقامة علاقة معنا أن يدرك ذلك حق الإدراك.