د.محمد فراج يكتب: اتفاقية المعادن النادرة.. السبب الحقيقى للمشاجرة فى البيت الأبيض

المشادة العنيفة بين الرئيس الأمريكى ترامب ونائبه فانس من ناحية والرئيس الأوكرانى زيلينسكى من ناحية أخرى، والتى خرج الأخير على إثرها مطرودا من البيت الأبيض، كان طبيعيا أن تصبح محور اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية طوال الأيام الماضية بحكم كونها سابقة دبلوماسية وسياسية فى العلاقات الدولية من ناحية، وبحكم أنها تحولت إلى جلسة تعنيف وتوبيخ من جانب ترامب ونائبه لزيلينسكى فى المكتب البيضاوى وأمام كاميرات التليفزيون من ناحية، ومن ثم طرده بفظاظة من البيت الأبيض.. والأهم من ذلك بحكم الاتهامات الخطيرة التى وجهها ترامب وفانس إلى زيلينسكى بالمسئولية عن إشعال الحرب فى بلاده وإهدار فرص التسوية السلمية، وتعريض العالم بأسره لمخاطر نشوب حرب عالمية ثالثة، فضلا عن عدم المبالاة بمصير بلاده التى تتعرض للتدمير ومئات الآلاف من أبنائها الذين يلقون مصرعهم فى ميادين القتال، في حرب عبثية خاسرة.. إلخ.
ولسنا بحاجة إلى تكرار الحديث عن الطريقة المهينة التى تحدث بها ترامب ونائبه إلى زيلينسكى ونبرة الصوت وإشارات الأيدى وكلمات السخرية الصريحة والمبطنة التى خاطباه بها قبل طرده من البيت الأبيض، ولا إلى الاتهامات بعدم احترام أمريكا وجحوده بالمساعدات التى تلقتها بلاده بلا حساب فى عهد بايدن.. الخ، فقد أفاض الإعلام الأمريكى والغربى فى الحديث عن هذه الأمور.
والحقيقة أن من يستمع إلى تكرار كلمات ترامب عن "السلام" و"التسوية السلمية" و"خطر الحرب العالمية" و"مصير الملايين من الأوكرانيين" وما شابه ذلك من كلمات يمكن أن يتصور أن الرئيس الأمريكى قد تقمص شخصية "الأم تريزا" الراهبة وداعية السلام الشهيرة!! ويصعب عليه تصديق أن صاحب هذه الكلمات هو نفسه من يهدده "بفتح أبواب الجحيم فى الشرق الأوسط" ويطلق الإنذارات القاسية ضد حماس، وبروز العدو الصهيونى بأثقل القنابل وأشدها فتكًا.. إلخ إلخ.
السبب الحقيقى للمشاجرة
فهل حديث ترامب عن التسوية السلمية للمواجهة فى أوكرانيا هو مجرد نفاق أو كلمات للاستهلاك الإعلامى؟ بالطبع لا، فهو فعلًا يريد التسوية ويتحدث عنها منذ أيام حملته الانتخابية لأسباب تتصل بوضوح خسارة التحالف الغربى للمواجهة الشاملة ضد روسيا حول أوكرانيا، واستحالة هزيمة الدب الروسى فى ميدان القتال، كما أوضحت تطورات الحرب خلال السنوات الثلاث الماضية وللرغبة الأمريكية فى عدم تعزيز التقارب الروسى – الصينى، بما يترتب على ذلك من تعاظم لقوة الصين، التى يعتبرها ترامب – والاتجاه الذى يمثل – العدو الرئيسى لأمريكا الذى يجب حشد الجهود الأساسية فى مواجهته.. ومن هذه الزاوية فإن حديث ترامب عن "السلام" على الجبهة الأوكرانية له ما يبرره (راجع: الأموال، 2 مارس).
...
غير أن تركيز ترامب ونائبه فى الحديث عن "السلام" فى مشاجرتهما مع زيلينسكى، وما يتضمنه هذا الحديث من نفاق صارخ يعود إلى الحرص على إخفاء الموضوع الرئيسى على جدول الأعمال الذى كان مقررا للاجتماع الأخير.. نعنى التوقيع مع زيلينسكى على الاتفاقية المعروفة باسم "اتفاقية المعادن النادرة" والتى تتضمن فى الحقيقة نهبا أمريكيا شاملا ليس لثروة أوكرانيا من تلك المعادن الضرورية للصناعات العسكرية والإلكترونية (مثل الليثيوم والتيتانيوم) وغيرها من المعادن النادرة فحسب، بل أيضا كل ثرواتها المعدنية الطبيعية، بالإضافة إلى عوائد مرافق بنيتها التحتية من الموانئ والطرق الحديدية وغيرها، من أن تتم إعادة إعمارها وهى الاتفاقية التى كان زيلينسكى يراوغ فى التوقيع عليها ويريد إحالة العديد من بنودها للتفاوض حول التفاصيل بين وفدين يمثلان البلدين (راجع تفاصيل الموضوع: موقع إكسيوس الأمريكى الشهير – بلومبرج – بى بى سى – الجزيرة نفسه وغيرها – 25 فبراير 2025).
وأصل الموضوع أن ترامب ذكر أن أمريكا قدمت لأوكرانيا مساعدات عسكرية واقتصادية تبلغ (350 مليار دولار/ ثلاثمائة وخمسين مليار دولار) فى صورة منح خلال سنوات الحرب الثلاث (2022 – 2025) مقابل مائة مليار دولار فقط منحتها أوروبا فى صورة قروض (لاحظ الفرق بين القروض والمنح) وبدأ خلال الأسابيع القليلة الماضية فى مطالبة أوكرانيا برد هذه المنح التى دفعتها إدارة بايدن بدون حساب من أموال دافعى الضرائب الأمريكيين! وهو ما رد عليه زيلينسكى فى حديثه بأن ما دفعته أمريكا لا يزيد من نصف المبلغ المذكور (175 مليار دولار/ مائة وخمسة وسبعون مليار دولار) ثم عاد فى وقت لاحق ليخفض المبلغ إلى أقل من مائة مليار دولار.
ولابد أن نلاحظ أن الطرفين يطلقان أرقاما جزافية، دون تقديم وثائق تضمن التفاصيل، والحقيقة أن (ذمة) كل منهما ليست محل ثقة ومعروف أن ترامب يبالغ فى زيادة الأرقام مستغلا حاجة أوكرانيا إلى أمريكا.. بينما يمكن أن يبالغ زيلينسكى في تخفيض الأرقام، مع ملاحظة أن الفساد المتغلغل فى إدارته يبتلع الكثير من المساعدات التى تحصل عليها أوكرانيا، لكن المهم هنا أن ترامب يتمسك برقم (ثلاثمائة وخمسين مليار دولار) وبضرورة استعادته، وحينما بدأ زيلينسكى فى المجادلة حول صحة الرقم، بدأ الجانب الأمريكى يطالب بالتحقيق فى أوجه إنفاق المساعدات التى قدمها، وهو ما أزعج زيلينسكى والمحيطين به، لأن أى تحقيق سيسفر عن اكتشاف فساد هائل.. حتى لو ثبت أن ترامب يبالغ كثيرًا فى أرقامه، وستكون هذه فضيحة مدوية.
ونقول عرضًا إن الأرقام التى يذكرها ترامب تبدو مبالغًا فيها بالفعل، ولم نسمع بها قبل ذلك فى أى وسيلة إعلامية، ولكن.. من يريد إثبات المبالغة عليه أن يقبل بالتحقيق، وهذا ما لا تريده الرئاسة الأوكرانية بالطبع!
وبناء على ذلك أعدت الإدارة الأمريكية مسودة الاتفاقية المشار إليها، والمعروفة اختصارًا باسم "اتفاقية المعادن النادرة" بينما هى تتناول بنودًا أوسع بكثير من تلك المعادن كما أوضحنا، لكن زيلينسكى اعترض على المسودة، فقامت واشنطن بإجراء بعض التعديلات غير الهامة وأرسل ترامب وزير الخزانة فى إدارته بالمسودة الجديدة لكن زيلينسكى رفض التوقيع عليها معللًا ذلك بضرورة التفاوض حول التفاصيل بين وفدين فنيين من البلدين وهو ما أغضب إدارة ترامب كثيرا وبدأ الحديث المكثف مرة أخرى حول ضرورة التحقيق فى أوجه إنفاق المساعدات الأمريكية.
إدارة ترامب تريد إقامة صندوق لإعادة إعمار أوكرانيا تكون (الثلاثمائة وخمسين مليار دولار) العتيقة هى قيمة الإسهام الأمريكى فيها بعد انتهاء الحرب طبعًا، ثم تقوم أوكرانيا بدفع مساهمات أكبر بكثير مما تدفعه أمريكا، على أن تقسم العوائد بنسبة النصف لكل طرف والتفاصيل كثيرة لا يتسع لها المقام هنا، وقد أشرنا أعلاه إلى مصادر أمريكية ودولية تتناولها (إيكيوس.. بلومبرج.. بى بى سى.. وغيرها – 25/ 2/ 2025) ولكن وبغض النظر عن تدقيق التفاصيل، فالأمر الواضح تمامًا هو أن مسودة الاتفاقية شديدة الإجحاف بأوكرانيا، وتتضمن عملية نهب أمريكية كبرى لثروات كييف.
ويكفى أن نُشير إلى أن الخبراء يقدرون قيمة احتياطيات أوكرانيا من الليثيوم والتيتانيوم والزركونيوم وغيرها تقدر بما يتراوح بين (11 – 15 تريليون دولار) وبفرض وجود مبالغة فى الأرقام، ومع ملاحظة أن الأراضى التى استولت عليها روسيا تحتوى على أكثر من نصف هذه الاحتياطيات، فإن ما يبقى منها يقدر بالتريليونات، تضاف إليها احتياطيات البترول والغاز والفحم والحديد، وعائدات استغلال مرافق البنية الأساسية، والخلاصة أن الاتفاقية تحتل نهبًا صريحًا لثروات أوكرانيا لأجيال قادمة، يستند إلى أرقام جزافية يطلقها ترامب، ويصعب إثباتها، ومع ذلك فإن زيلينسكى لم يرفضها من حيث المبدأ، وإنما أراد التفاوض لتخفيف بعض شروطها الأكثر إجحافًا غير أن ذلك لم يعجب ترامب، وكان هو السبب فى "العلقة" التى أعدها لزيلينسكى أمام الكاميرات بدعوى الحرص على "السلام"!!
خلط مقصود.. وعملية نصب
والحقيقة أن ترامب ربط بصورة مقصودة بين قضيتين ليستا مرتبطتين بالضرورة.. قضية التسوية مع روسيا وإنهاء الحرب، وقضية الاتفاقية مع أوكرانيا حول استغلال ثرواتنا وإقامة صندوق إعادة الإعمار الأمريكى – الأوكراني، والذى لم تعترض عليه روسيا باعتباره أمرًا لا يخصها.
وبالنسبة لزيلينسكى فإن عملية التسوية بحد ذاتها تعنى أن ساعة الحساب بالنسبة له سوف تحل، وهذا أمر لا يرغب فيه بالطبع، وفى الوقت نفسه فإن الحديث عن التسوية وانسحاب أمريكا من المواجهة يُمثل عنصر ضغط شديد عليه، كما يمثل عنصر ضغط شديد على الشركاء الأوروبيين الذين يريدون هم الآخرون استرداد أموالهم (قروضهم) لدى أوكرانيا، وبالطبع الحصول على نصيبهم من الكعكة الأوكرانية.
لكن الحديث عن التسوية مع عدم دعوة أوكرانيا أو أوروبا لمائدة التفاوض وما يترتب على ذلك من وضع بالغ الصعوبة على جبهات القتال، يتيح لترامب فرصة تمرير صفقته المجحفة مع زيلينسكى دون معارضة أوروبية.. حيث سيكون الاهتمام الأكبر مركزا على المخاوف من انسحاب أمريكا وتقاربها مع روسيا الأمر الذي يجعل هزيمة المعسكر الأوروبى محتومة بما يرتبط بها من مخاوف أمنية بترتيبات مطلوبة بصورة عاجلة لمواجهة ما يسميه الأوروبيون "الخطر الروسى".
الأكثر من ذلك أن زيلينسكى حاول أن "يتذاكى" هو الآخر على ترامب فطلب الربط بين توقيع اتفاقية المعادن واتفاقية أخرى بتقديم ضمانات أمنية أمريكية إلى أوكرانيا، لكن ترامب رفض ذلك بصورة قطعية وأعلن أن ما يجرى الحديث عنه هو شراكة اقتصادية وأن جيران أوكرانيا الأوروبيون هم المسئولين عن ضمان أمنها، ومعنى هذا أن تتحمل أوروبا تكلفة مواصلة الحرب إذا أرادت الاستمرار فيها، ثم أعباء أمن أوكرانيا، بينما تفوز أمريكا بنصيب الأسد من "الكعكة الأوروبية"!! ولما كانت مواصلة أوروبا للحرب، بدون مشاركة أمريكية هى عملية مضمونة الخسارة، فمن شبه المؤكد أنها ستضطر للحاق لعملية التسوية وتتحمل أعباء أمن أوكرانيا وإعادة إعمارها.
لذلك فإنه بالرغم من كل الكلمات الحادة حول مواصلة دعم أوكرانيا نصح الأوربيون زيلينسكى بالاعتذار لترامب وعرض ماكرون ورئيس الوزراء البريطانى سنارمر اصطحاب زيلينسكى إلى واشنطن لتقديم اعتذاره (حضوريا!) إلى ترامب، وتوقيع "اتفاقية المعادن" ومع ذلك فقد اتخذ الرئيس الأمريكى قراره بوقف المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى أوكرانيا وكذلك بوقف تبادل المعلومات الاستخبارية الأمريكية إليها، وهو ما يمثل ضربة قوية لكييف وتشديدًا للضغط عليها وعلى الحلفاء الأوروبيون وإذلالًا لزيلينسكى بصفة خاصة وما يجعلنا نرجح أنه سيضطر لتوقيع اتفاقية المعادن المجحفة صاغرًا، وربما مع تعديلات طفيفة، لا تغير شيئا من طابعها اللصوصى.
والحقيقة أن كل أضواء الإعلام الأوروبى وأوصاف البطولة التي يسبغها على زيلينسكى لن تغير شيئًا من حقائق الواقع القاسية، التى تؤكد أنه مجرد تابع صغير لأمريكا ولرئيسها.. ومصيره ليس بهما.. ولا عزاء ولا كرامة للاتباع.