أسامة أيوب يكتب : اتفاق الهدنة في غزة.. دلالات وملاحظات
يوم الأحد الماضى كانت الشعوب العربية والإسلامية ومعها الأحرار من شعوب العالم تُشارك الشعب الفلسطينى فى غزة الفرحة الغامرة ببدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى والسجناء بين حركة المقاومة حماس وحكومة إسرائيل، حيث كان ذلك اليوم إعلانا وإعلاما باتنصار الشعب الفلسطينى الذى صمد بشجاعة لا يمكن وصفها بالكلمات أمام عدوان صهيونى وحشى وحرب إبادة بالغة الخِسة والجُبن مثلما كان أيضا إعلانا وإعلاما بانتصار المقاومة الفلسطينية التى تصدت بكل شرف لذلك العدوان المدعوم أمريكيا وأوروبيا.. ماليا وسياسيا وعسكريا بأحدث الأسلحة والطائرات والقنابل الفتاكة.
احتفال الشعب الفلسطينى فى غزة يوم الأحد الماضى كان أيضا إعلانا وإعلاما بهزيمة جيش الاحتلال الإسرائيلى بعد أكثر من 15 شهرا من العدوان فشل خلالها مجرم الحرب نتن ياهو فى تحقيق أهدافه المعلنة سواء بالقضاء على حركة حماس التى حطمت غطرسته بعملية "طوفان الأقصى" فى السابع من أكتوبر من العام قبل الماضى أو بتحرير الأسرى الإسرائيليين بالقوة، وهو ما لم يتمكن من تحقيقه إلا بوقف العدوان والانسحاب من غزة وفقا للاتفاق بعد مفاوضات مع حماس وحسبما حدث فى اتفاق الهدنة الأول الذى أسفر عن تحرير 33 أسيرا، غير أنه ولأسباب شخصية تتعلق بحرصه على استمراره فى الحُكم وتجنب المحاكمات فى تُهم فساد مضى قدمًا فى تصعيد العدوان مُتخليًا عن أسراه حتى أجبره الرئيس الأمريكى ترامب على توقيع الاتفاق الذى بدأ سريانه فى اليوم السابق على تنصيبه.
...
اضطرار نتن ياهو لتوقيع الاتفاق مجبرا تحت ضغط ترامب وعلى غير رغبة حقيقية لوقف العدوان تأكد بمماطلته فى اللحظات الأخيرة من بدء سريان وقف إطلاق النار حيث تأخر فى الالتزام بالموعد المحدد فى الثامنة والنصف من صباح الأحد الماضى بحجة تأخر حماس فى تسليم قائمة بأسماء الأسرى الإسرائيليين المفرج عنهم، وهو التأخر الذى أرجعته الحركة لأسباب فنية وأمنية خاصة مع استمرار قصف الطائرات على غزة الذى لم يتوقف إلا بعد إرسال حماس للقائمة ليبدأ التزام نتن ياهو بسريان وقف إطلاق النار فى الساعة الحادية عشر والربع متأخرا عن الموعد المحدد بنحو ثلاث ساعات ظل القصف الإسرائيلى خلالها متواصلا وعلى النحو الذى يعكس حجم الغل والحقد والكراهية من جانب نتن ياهو تجاه الشعب الفلسطينى.
===============
هذا الغل وتلك الكراهية تأكدا بكل خسة وسفالة بتصعيد العمليات العسكرية والقصف الجوى والمدفعى على سكان غزة النازحين والمشردين طوال الأيام الثلاثة على بدء سريان الاتفاق وعلى نحو أكبر بكثير مقارنة بما قبلها وحيث بلغ عدد الشهداء فى يوم واحد أكثر من 80 شهيدا وعلى النحو الذى بدا مسلكا انتقاميا بينما كان من المفترض التزام الهدنة لحين بدء سريان الاتفاق.
واقع الأمر فإن نتن ياهو لا يمكنه ادعاء تحقيق انتصار فى حربه ضد الشعب الفلسطينى والمقاومة بعد أكثر من 15 شهرا بعد أن تأكد للجميع سواء الشعب الإسرائيلي أو الجيش الصهيونى أو العالم أجمع أنها كانت حربا عبثية، إلا إذا كان يعتبر أن قتل 50 ألف فلسطينى أغلبهم من الأطفال والنساء يعد انتصارا حتى إطلاق سراح الأسرى لدى حماس بحسب الاتفاق لا يعد انتصارا، إذ فشل فى تحريرهم بالقوة حسبما ظل يزعم بينما كان إطلاق سراحهم بموافقة حماس وبعد مفاوضات وتبادل سجناء فلسطينيين فى سجون الاحتلال وبأعداد تزيد أضعافا على الأسرى الإسرائيليين.
وإذا كانت المحصلة النهائية بعد ذلك العدوان الصهيونى الإسرائيلى الأمريكى هى أن الشعب الفلسطينى قد انتصر بصموده الأسطورى فى مواجهة أقذر عدوان وأبشع جريمة إنسانية فى العصر الحديث، وإذا كانت حركة المقاومة حماس ومعها الجهاد قد انتصرت بتصديها الشُجاع لذلك العدوان، حيث ألحقت بالجيش الإسرائيلى خسائر فادحة رغم الفارق الكبير بين أسلحة المقاومة البدائية مقارنة بالعتاد العسكرى الإسرائيلى، فإن تدمير غزة وإبادة المدنيين وتشريد وتجويع أهلها واستشهاد وجرح عشرات الآلاف هو الثمن الغالى الذى دفعه الفلسطينيون مقابل مقاومة مشروعة للعدوان والاحتلال فقد أثبت الفلسطينيون أنهم شعب لا مثيل له بين شعوب العالم.
لذا فقد كان يوم الأحد الماضى يوما اختلطت فيه مشاعر الشعب الفلسطينى فى غزة بين الأفراح والأحزان... الأفراح بالانتصار على العدوان بالصمود الشعبى وبشجاعة المقاومة التى أفشلت نتن ياهو فى تحقيق أهدافه على آلاف الشهداء والمصابين وعلى حجم التدمير الذى أصاب غزة ومبانيها وبنيتها التحتية وعلى شهور التجويع والحصار والتشريد والإجبار على النزوح.
لقد تضاعفت أحزان فلسطينى غزة بعد ساعات قليلة من سريان وقف إطلاق النار عندما عاد النازحون إلى مناطقهم ومدنهم التى أجبروا على النزوح منها وشاهدوا بنيتهم قد تهدمت تحت الأنقاض وحيث اُضطروا إلى المبيت بجوارها فى العراء.
ثم بلغت الأحزان ذروتها عندما حاول النازحون البحث عن جثث قتلاهم تحت الأنقاض فوجدوها قد تحولت إلى أشلاء صغيرة أو تحولت إلى رماد وهو ما يعنى أن قوات الاحتلال قد أحرقتهم وهم أحياء وعلى نحو يكشف ويفضح وحشية وخسة الجيش الإسرائيلى ويكلل نتن ياهو وحكومته اليمينية اليهودية المتعصبة المتطرفة بالعار الذى لن يمحى من سجلات التاريخ.
إن مشاهد الدمار والخراب فى غزة التى حولت القطاع إلى أنقاض وركام بحسب الصور الجوية التى سجلتها الأمم المتحدة سوف تبقى توثيقا دوليا وشاهدا على وحشية أبشع عدوان يتعرض له شعب فى العالم فى العصر الحديث بقدر ما سوف تبقى وصمة عار تلاحق الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن وإدارته والحزب الديمقراطى بسبب الدعم غير المحدود وغير المسبوق سياسيا وعسكريا وماليا لمجرم الحرب نتن ياهو وجيش الاحتلال والذى يرقى إلى درجة التواطؤ والمشاركة فى العدوان على غزة وتدميرها وإبادة وقتل شعبها من المدنيين والأطفال والنساء بدم بارد طوال 15 شهرا ودون رحمة إنسنية بشعب أعزل.
...
تبقى ثمة ملاحظات مهمة يتعين الإشارة إليها بشأن الاتفاق الذى تم التوصل إليه فى العاصمة القطرية الدوحة.. أولها أن تسميته باتفاق وقف إطلاق النار ليست دقيقة إذ أنه فى الحقيقة اتفاق هدنة على ثلاث مراحل.. بدأت الأولى يوم الأحد الماضى وتستمر لمدة 42 يوما وبعدها يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية ثم الثالثة وصولا إلى وقف دائم لإطلاق النار، وذلك لو نجحت المرحلتان الثانية والثالثة وهو أمر مشكوك فيه بدرجة كبيرة لاعتبارات كثيرة منها ما صرح به نتن ياهو بحصوله على ضمانات أمريكية بعدم الالتزام بالمضى فى الاتفاق ومن ثم معاودته لاستئناف العدوان "إذا ما تطلب الأمر ذلك" وهى عبارة مطاطة تعنى افتعال أى مشكلة للخروج من الاتفاق وذلك هو الاحتمال الأقرب إن لم يكن من المؤكد.
ثم إن هاجس سقوط الائتلاف الحكومى ومن ثم سقوط الحكومة يمثل ضغطا هائلا على نتن ياهو يُرجح خروجه من الاتفاق بعد المرحلة الأولى خاصة فى ضوء تصريح الوزير اليمينى المتطرف سمويتريش بأنه حصل على تعهد نتن ياهو باستئناف الحرب وهو ما يعنى استقالته من الحكومة إذا لم يلتزم رئيسها بتعهده، وأيضا فى ضوء استقالة الوزير اليمينى المتطرف الآخر بن غفير من منصبه الوزارى وإن لم يغادرالحكومة لإعطاء مهلة لنتن ياهو لتنفيذ تعهده وإلا فإنه سوف يستقيل من الائتلاف مع زميله سمويتريش ومن ثم تسقط حكومة نتن ياهو والتوجه لإجراء انتخابات مبكرة.
...
وفى نفس الوقت فإن تصعيد قوات الاحتلال للعمليات العسكرية والاقتحامات والقتل والقمع وهدم المنازل والاعتقالات فى مدينة ومخيم جنين بالضفة الغربية الجارية حاليا تشير بكل وضوح إلى توجه نتن ياهو لتحويل الضفة الغربية إلى غزة أخرى فى سياق مخطط التوسع الاستيطانى الذى بدأ بمنح تراخيص لإقامة المستوطنات ومن ثم ضم الضفة.. كلها أو أغلبها لإسرائيل، ولذا فإن أى حديث فى الوقت الحالى عن حقوق الشعب الفلسطينى وإيجاد حل للقضية الفلسطينية يبدو أضغاث أحلام، لذا لزم التنويه.
....
ثم إن ثمة ملاحظة بالغة الأهمية بشأن الاتفاق وصفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل، إذ يتعين النظر إلى ضغط ترامب على نتنياهو لتوقيعه باعتبار أنه استهدف تأكيد قوته من قبل بدء رئاسته وأنه نجح فيما لم ينجح فيه سلفه بايدن وإدارته وعلى النحو الذى يدعم نرجسيته وغروره بحسب ما جاء فى خطاب تنصيبه: "لو لم أكن رئيسا لما تم الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين والأمريكيين"، وبهذا المعنى فإن ترامب لم يكن معنيا لا بغزة ولا الفلسطينيين، وذلك التوجه من الضرورى الانتباه إليه.. فلسطينيا وعربيا حتى لا تنعقد الآمال على إنصاف ترامب للقضية والتعاطى معها بعدالة ونزاهة..
...
أما بقول نتن ياهو وانصياعه لضغط ترامب والتوقيع على الاتفاق هو بمثابة هدية بمناسبة بدء رئاسته لأمريكا لعلها تغفر له مسارعته بتقديم التهنئة إلى الرئيس السابق جو بايدن لفوزه على ترامب فى انتخابات عام 2020 وهى التهنئة التى أغضبت ترامب خاصة بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس فى قرار لم يجرؤ رئيس سابق على الإقدام عليه وكذلك بعد اعترافه بسيادة إسرائيل على الجولان المحتلة.
السطور السابقة كانت محاولة لقراءة المشهد فى غزة يوم الأحد الماضى مع بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار والذى هو فى حقيقته اتفاق هدنة من المرجح بل من المؤكد أن يخرقها مجرم الحرب نتن ياهو للأسباب والاعتبارات سالفة الذكر، لكن يبقى فى كل الأحوال أن يوم الأحد الماضى الذى اختلطت فيه مشاعرالفرح بانتصار المقاومة والصمود الفلسطينى الأسطورى مع مشاعر الحزن والألم على عشرات الآلاف من الشهداء والضحايا من المدنيين والأطفال والنساء وعلى تدمير غزة بفعل العدوان الوحشى الخسيس الذى انتهك كل القوانين والمواثيق الإنسانية الدولية ليدخل سجلات التاريخ بوصفه جريمة القرن الحادى والعشرين.
ويبقى للحديث بقية مع تطورات الأحداث فى قادم الأيام.