أسامة أيوب يكتب: ترامب العائد إلى البيت الأبيض
سوف يُسجل التاريخ السياسى الأمريكى أن دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهورى الذى يجرى تنصيبه غدا «الاثنين» كرئيس للولايات المتحدة هو أول رئيس يحظى بولايتين رئاسيتين منفصلتين بعد فوزه الساحق فى الانتخابات التي جرت فى نوفمبر الماضى على منافسته مرشحة الحزب الديمقراطى كامالا هاريس نائبة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، وهو الفوز الذى استعاد به منصبه الرئاسى الذى فقده فى انتخابات عام ٢٠٢٠ أمام جو بايدن وحرمه من البقاء فى الرئاسة لولاية ثانية بعد فوزه على هيلارى كلينتون فى انتخابات عام ٢٠١٦.
حصول ترامب على ولاية رئاسية ثانية منفصلة عن الأولى ليس السابقة الوحيدة فى التاريخ السياسى الأمريكى إذ إنه فى سابقة أخرى هو أول رئيس يبدأ ولايته الرئاسية.. مدانا قضائيا بـ٣٤ جريمة جنائية سوف تظل في سجله الجنائى رسميا.. من بينها إدانته فى القضية المعروفة بشراء صمت ممثلة الأفلام الإباحية مقابل أموال حتى لا تفضح علاقته بها، حي أصدر القاضي الحكم بإدانته مع وقف التنفيذ ومنحه إطلاق سراح غير مشروط بلا سجن أو غرامة.
ورغم ذلك السجل الجنائى الذى يبدأ به ولايته الرئاسية وسيظل يلاحقه، ورغم صدمته إزاء تلك الإدانات الجنائية فإنه وفقا لطبيعته الشخصية التى تبدت خلال ولايته الرئاسية الأولى سوف يتجاوزها بفوزه للمرة الثانية وثأره من هزيمته أمام بايدن وانتقامه من الحزب الديمقراطي.
<<<
وعلى ذكر الانتقام فإن ترامب وبحسب تصريحاته العدائية والهجومية كرر أكثر من مرة أنه بعد عودته للرئاسة سوف ينتقم من كل خصومه وأعدائه مثلما سينتقم أيضا من الدولة العميقة التى يتهمها بالوقوف ضده أثناء السباق الانتخابى مع بايدن وخلال رئاسته الأولى، خاصة الإعلام والقضاء، ومن ثمَّ فإن ثمة توقعات لدى المؤسسة السياسية بإقدامه على اتخاذ قرارات وانتهاج سياسات هوجاء ضد جهات وهيئات لتصفية حساباته الشخصية.
غير أن عموم الأمريكيين يعقدون الآمال العريضة على تحسن الأوضاع المعيشية وتحسن الاقتصاد بوجه عام خلال رئاسة ترامب والذى تراجع أثناء ولاية بايدن، خاصة وأن المواطن الأمريكى معني بالأساس بمستوى معيشة وبتحسن الاقتصاد والضرائب والأسعار بينما لا يبدى اهتماما بالسياسة الخارجية ومع ذلك فإن الأمريكيين يترقبون نجاح ترامب فى إيقاف الحرب الروسية - الأوكرانية بحسب تعهده خلال حملته الانتخابية لوقف نزيف الأموال التى تكبدتها أمريكا خلال رئاسة بايدن لدعم أوكرانيا.. ماليا وعسكريا.
<<<
على صعيد السياسة الخارجية وبحسب أجندة ترامب المعلنة فإن على رأسها الحرب الاقتصادية مع الصين المنافس الأكبر والأقوى للولايات المتحدة، حيث هدد بفرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات الصينية إلى السوق الأمريكية وهو الأمر الذى سيلحق أضرارا بالمنتجات الصينية التى تغرق السوق الأمريكية، وفى نفس الوقت سوف تكون لها تداعيات اقتصادية داخل أمريكا وعلى المواطن الأمريكى، إذ سوف تسفر عن زيادة أسعار تلك المنتجات، ولذا فإن سنوات ترامب المقبلة سوف تشهد حربا اقتصادية مع الصين إضافة إلى تصعيد فى التوترات السياسية علي خلفية التهديدات الصينية لتايوان.
<<<
ثم إن أجندة ترامب السياسية الخارجية تتضمن أيضا تهديداته العنترية دون أى حسابات دولية بضم المكسيك فى جنوب القارة الأمريكية وكندا فى شمالها إلى الولايات المتحدة، وهي تهديدات تعكس ميله للاستعراض بقدر ما تعكس ضحالته السياسية خاصة وأنه جاء إلى رئاسة أمريكا من خارج المؤسسة السياسية.. قادما من «البيزنس» وقطاع المقاولات.
<<<
ولذا فإنه من المثير للعجب والدهشة أن يصل ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة مرتين مع ملاحظة أن مصادفة فوزه فى المرتين على هيلارى وهاريس لا يعنى فى المطلق أن المجتمع الأمريكى غير مهيأ لقبول رئيسة للولايات المتحدة، بقدر ما يعنى ويعكس الشعبوية الغالبة فى أمريكا والتى كشف عنها تصويت الناخبين غير المتعلمين جامعيا لترامب الذى نجح فى تقديم نفسه لتلك الشريحة الكبرى من الأمريكيين ويحظى بتأييدهم الكاسح رغم انتمائه إلى طبقة كبار الأثرياء وهو الأمر الذى يعكس تراجعا سياسيا وثقافيا داخل أمريكا.
المثير أيضا أن ترامب بسط نفوذه وسطوته وسيطرته على الحزب الجمهورى الذى رشحه ثلاث مرات لخوض السباق الرئاسى حتى صار الحزب حزب ترامب، وهو الأمر الذى يعكس خللا كبيرا وانهيارا فى أروقة وكواليس هذا الحزب العريق وعلى النحو الذى سوف تكون áå تداعيات مؤلمة فى قادم السنوات على مستقبله السياسى.
<<<
ما يعنينا نحن العرب فى الشرق الأوسط هو توجهات ترامب إزاء المنطقة وقضاياها، ورغم أن ثمة مخاوف وتوجسات من عودته إلى البيت الأبيض على خلفية سياساته خلال ولايته الرئاسية الأولى، فإن الحقيقة هى أنه لا فارق جوهريا بين ترامب الجمهورى وبايدن الديمقراطى، إذ إن الاثنين والحزبين كلاهما منحاز كل الانحياز لإسرائيل وضد العرب والقضية الفلسطينية، بل إن الدعم العسكرى والسياسى والمالى الذى قدمه بايدن الديمقراطى لإسرائيل فى عدوانها الوحشي وحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطينى فى غزة كان الأكبر فى تاريخ الصراع، ولذا فإن على العرب ألا يرتعدوا من مجىء ترامب فإنه لن يفعل أكثر مما فعله بايدن وإدارته ويبقى الاختلاف فقط فى الشكل وليس الجوهر، حتى وإن مضى ترامب قدما خلال ولايته القادمة فى تسريع صفقة القرن والضغط على بعض الدول العربية للانضمام إلى قطار التطبيع مع إسرائيل الذى انطلق خلال ولايته الأولى.
<<<
وفى هذا السياق فإن الاتفاق المرتقب الذى تم التوصل إليه فى الدوحة والذي يوشك أن يبدأ تنفيذه - حتى كتابة هذه السطور - بين حماس وإسرائيل لوقف إطلاق النار وإتمام صفقة تبادل الأسرى والرهائن.. قد تم بضغط هائل من ترامب علي نتن ياهو حتى تتوقف الحرب قبل وصوله إلى البيت الأبيض وقبل ساعات من رحيل بايدن، حيث تلاقت مصلحة الاثنين فى التوصل لاتفاق.
<<<
بعيدا عن التحليل السياسى فإن ثمة مفارقة لا تخفى دلالتها التى أكدت القدرة الإلهية فى هذا الكوكب، إذ بينما هدد ترامب بتحويل الشرق الأوسط إلى جحيم إذا لم يتم الإفراج عن الرهائن لدى حماس قبل يوم ٢٠ يناير موعد تنصيبه رئيسا لأمريكا، فإذا بتحول مدينة لوس أنجلوس أغنì وأهم المدن الأمريكية إلى جحيم حقيقى غير مسبوق فى التاريخ الأمريكى بفعل الحرائق الهائلة التى لاتزال مشتعلة حتى الآن، حيث أسفر ذلك الجحيم عن انهيار آلاف المنازل وتشريد عشرات الآلاف من الأمريكيين في تلك المدينة التى يسكنها كبار الأثرياء والفنانين والمشاهير وحيث بلغت الخسائر أكثر من ٢٠٠ مليار دولار حتى الآن.
<<<
هذا الجحيم الذى اكتوت بنيرانه لوس أنجلوس وأهلها من الضرورى أن يشعر الأمريكيون بالكارثة والمأساة الإنسانية التى عاشها ولايزال الشعب الفلسطينى جراء العدوان الإسرائيلى الصهيوني الوحشى وحرب الإبادة التى راح ضحيتها نحو ٥٠ ألف شهيد وأكثر من ١١٠ آلاف مصاب أغلبهم من الأطفال والنساء الذين قتلتهم الطائرات والقنابل الأمريكية والذين عانوا من التشرد والجوع في برد الشتاء.
هذه المفارقة اللافتة ذات الدلالة بين تحويل الشرق الأوسط إلى جحيم حسبما هدد ترامب وبين الجحيم الذى أحرق لوس أنجلوس.. مهداة إلى ترامب العائد إلى البيت الأبيض غدا بل إلى الشعب الأمريكى ونخبه السياسية والفكرية أيضا.