أسامة أيوب يكتب : سوريا في مفترق طرق
بينما لاتزال الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية فى سوريا رهنا لسيناريوهات غامضة ومتباينة تحت حكم الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع بعد شهر واحد من إسقاط نظام بشار الأسد واستيلاء هيئة تحرير الشام على السُلطة, فقد جاء استئناف تشغيل مطار دمشق يوم الثلاثاء الماضى – وقت كتابة هذه السطور – كبداية لتسيير حركة الطيران المدنى مؤشرا له دلالته التى تعنى إحكام الإدارة الحالية على قدر كبير من السُلطة الفعلية بقدر ما تعنى قدرًا من الاستقرار النسبي حتى الآن.
ولأن إسقاط نظام الأسد على هذا النحو السريع والمفاجئ كان حدثا مدويًا وتحولا دراماتيكيا فى سوريا, فإنه أثار المخاوف على أمنها واستقرارها وسلامة ووحدة أراضيها مثلما أثار فى نفس الوقت هواجس عربية إقليمية ودولية خاصة فى هذا التوقيت، حيث يموج الشرق الأوسط بالصرعات والأخطار سواء من جانب التنظيمات الإرهابية أو من جانب إسرائيل التى أشعلت نيران الحروب ولا تزال منذ "طوفان الأقصى" فى السابع من أكتوبر من العام قبل الماضى بعدوانها الوحشى وحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطينى فى غزة ثم فى جنوب لبنان.
وفى هذا السياق العدوانى الإسرائيلى جاء توغل قوات الاحتلال داخل الأراضى السورية عقب سقوط نظام الأسد وانهيار الجيش السورى وانسحابه أمام فصائل المعارضة المسلحة التى استولت على السُلطة فى العاصمة دمشق بعد أسبوع واحد من بدء عملياتها العسكرية، حيث يمثل هذا العدوان الإسرائيلى على الأراضى السورية واحتلال المنطقة العازلة فى انتهاك لاتفاقية وقف إطلاق النار. تحديًا خطيرًا لحكومة الشرع من شأنه إرباكها وإحراجها أيضا.
...
ومع المخاوف العربية بشأن أمن ومستقبل واستقرار سوريا تبدّى الحرص على ألا يُضار الشعب السوري من التغيير الذى جرى فى ضوء الزيارات المتبادلة بين مسئولين عرب وممثلى الإدارة الحالية والتى شهدتها دمشق وبعض العواصم العربية، حيث أكدت الإدارة الحالية أنها لن تمثل تهديدا لأى طرف فى المنطقة، بينما كان التأكيد العربى على الدعم الكامل لسوريا حتى تتخطى المرحلة الانتقالية وصولا إلى دولة سورية مستقلة مستقرة ذات سيادة.
ولقد جاءت المساعدات التى حملتها الطائرات العربية إلى دمشق للتخفيف عن معاناة الشعب السورى فى هذه المرحلة تأكيدًا لهذا الدعم والتضامن الكامل للسوريين.
...
بالتزامن مع ذلك التحرك العربى جاءـ الاتصالات والزيارت من جانب حكومات الغرب وآخرها زيارة وزيرة خارجية ألمانيا لدمشق ومباحثاتها مع أحمد الشرع للتعرف على توجهات الإدارة الجديدة نحو الانتقال إلى حكم ديمقراطى فى دولة مدنية دون إقصاء طائفى أو دينى أو عرقى أو سياسى، بحيث لا تحتكر هيئة تحرير الشام وفصائل التيار الإسلامى المصنف سابقا بالإرهاب السلطة وإقامة حكم دينى مستبد على غرار أفغانستان, ومن ثّمَّ وعلى هذا الأساس يمكن للدول الغربية وأمريكا أن تقدم الدعم لسوريا وشعبها لإعادة الإعمار والاستثمار وتحسين أوضاع السوريين الاقتصادية.
الأهم فى تلك الاتصالات بين الإدارة الجديدة فى سوريا والعواصم الغربية كان المطلب العاجل برفع العقوبات المفروضة على سوريا فى عهد بشار خاصة بعد سقوط نظامه القمعى, وهو المطلب الذى بدأ تحقيقه تدريجيا بقرار من إدارة الرئيس المنتهية ولايته بعد أسبوع بتخفيف تلك العقوبات ومنح سوريا تراخيص مؤقتة لنقل الأموال.
هذا التحول الغربى الأمريكى الأوروبى إزاء سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد بالاقتراب من الإدارة الجديدة والتعرف بدرجة دقيقة على توجهاتها رغم أنها كانت مصنفة كتنظيمات إرهابية جاء بعد تصريحات أحمد الشرع عقب الاستيلاء على السلطة التى انطوت على لغة سياسية مغايرة للخطاب السابق للفصائل المعارضة، حيث تضمن الخطاب الجديد التأكيد على أنه "لا ثأر ولا انتقام" ثم التأكيد على إقامة دولة ديمقراطية لا تُقصى أحدًا وأن الشعب السورى هو من سيختار حكومته، غير أن هذا الخطاب المُعتدل والمطمئن سيظل غير كاف وإن لقى اهتمامًا غربيًا فى انتظار أن تتطابق الأفعال مع الأقوال مع قادم الأيام.
...
وإذا كان اهتمام أطراف عربية باستقرار سوريا تحت حكم ديمقراطى يراعى التنوع والتعدد الطائفى والمذهبى والدينى والعرقى وبعيدا عن أى نفوذ إقليمى غير عربى دافعه الحقيقى أن أمن سوريا وسيادتها على كامل أراضيها لا ينفصل عن الأمن القومى العربى، فإن الاهتمام الأمريكى الأوروبى بل الإسرائيلى أيضا مرجعه فى المقام الأول إلى أن سقوط بشار أنهى الوجود والنفوذ الإيرانى فى سوريا ويبقى بعد ذلك التعويل على الإدارة الجديدة للقضاء على التنطيمات الإرهابية الموجودة داخل الأراضى السورية من بقايا تنظيم الدولة "داعش" وتنظيم القاعدة.
...
وفى نفس الوقت ورغم بعض أو كثير من المخاوف والهواجس العربية بل الغربية أيضا لا تزال قائمة جراء استيلاء فصائل المعارضة المسلحة ذات التوجه الإسلامى المتشدد باعتبارها خارجة من عباءة داعش والقاعدة رغم التغير الملحوظ فى خطابها وتوجهاتها المعلنة حتى الآن, إلا أن ما يطمئن تلك الأطراف العربية والدولية نسبيًا هو أن هذا التطور الذي جرى قد أنهى الوجود الإيرانى الشيعى المتحالف مع نظام الأسد والطائفة العلوية وحيث كان الوجود الإيرانى فى سوريا مقلقا للعرب وللغرب الأمريكى الأوروبي على حد سواء ومن المثير أنه مقلق أيضا لإسرائيل.
كما أن تراجع الوجود الروسى الذى كان داعمًا لبشار الأسد فى سوريا وحيث يوشك على الرحيل نهائيا يصب فى نهاية الأمر لصالح أمريكا وحلفائها الأوروبيين بحيث يكونون بديلا عن الوجود الروسى, بل إنه يمكن القول إن واشنطن وأطراف عربية وطرف إقليمى آخر "تركيا" كان لها دور واضح وفاعل وغير خاف فى إسقاط بشار خاصة بعد تخلى الجيش السورى عن حماية بشار والنظام وانسحابه أمام فصائل المعارضة التى دخلت العاصمة دمشق دون مقاومة تُذكر وحيث بررت موسكو موقفها بأنها كيف تدافع عن بشار بعد أن تخلى عنه جيشه.
...
ولعله ليس سرا أن الدور الأهم والمباشر فى إسقاط بشار الأسد ودعم هيئة تحرير الشام فى الاستيلاء على السُلطة كان الدور التركى والذى تأكد بإعلان الرئيس أردوغان بكل وضوح وصراحة عن دعم أنقرة الكامل للإدارة الجديدة في سوريا وتقديم كل مساعدة للشعب السورى وهو الأمر الذى يشي بأن تحالفا قويا قد نشأ بين تركيا وسوريا تحت الإدارة الجديدة خاصة بعد تصريح الرئيس الأمريكى المنتخب بأن مسئولية الملف السورى باتت من اختصاص تركيا، وبذلك يمكن القول إن سوريا ستكون خاضعة للنفوذ التركى الكامل وهو أمر من شأنه إثارة تحفظات عربية فى الإقليم.
...
وفى انتظار ما سوف تُسفر عنه تطورات الأحداث فى المشهد السياسى السورى فإن ثمة سيناريوهات متباينة للوضع النهائى للدولة تبدو كلها مطروحة ومن بينها أن تنتقل سوريا من الحكم الديكتاتورى لعائلة الأسد وطائفة العلويين الذى طال لأكثر من نصف قرن إلى حكم ديكتاتورى آخر تحت سلطة هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة الإسلامية المسلحة وأن تتحول سوريا إلى أفغانستان أخرى, ومن بينها أن تشيع الفوضى والاضطرابات والصراعات الطائفية والمذهبية وعلى النحو الذى يفضى إلى تقسيم سوريا إلى دويلات خاصة مع حالة الاضطراب الأمنى المسلح فى بعض المناطق وحيث تقوم الإدارة الحالية لعمليات تمشيط واسعة لمواجهة جرائم فلول النظام السابق، ثم تبقي المشكلة الكردية فى شمال سوريا ومعاركها مع الميليشيات المدعومة من تركيا من بين أهم التحديات التى تواجه الإدارة الجديدة.
...
التحدى الأخطر هو إقامة جيش سورى وطنى غير طائفى بمعنى ألا يتشكل من عناصر الفصائل المسلحة المنضوية تحت هيئة تحرير الشام حسبما تم الإعلان عن ذلك, إذ إن تشكيله من تلك العناصر فقط يعنى أنه جيش غير وطني فى تكرار لجيش الأسد العلوى الطائفى باعتبار أن الجيش الوطنى الذى يتكون من كل طوائف الشعب هو الدعامة الحقيقية لأمن الوطن السورى والمدافع عن أراضيه وحدوده بعيدا عن أى انتماء طائفى أو مذهبى.
...
ولأن كل السيناريوهات مطروحة وممكنة بما فيها السيناريوهات الخطيرة المهددة لاستقرار وأمن سوريا فإن سيناريو نجاة سوريا من الفوضى والتقسيم مرهون بمبادرة أحمد الشرع رئيس الإدارة الجديدة الحالية للانخراط المبكر فى عملية سياسية تتضمن إصدار دستور جديد بمشاركة كل النُخب السياسية والقانونية من كافة طوائف وأطياف الشعب السورى دون إقصاء ثم إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية دون إبطاء ذلك، إن إطالة الفترة الانتقالية تحت رئاسة أحمد الشرع حتى يتم إصدار دستور جديد من ثلاث سنوات وإجراء الانتخابات بعد أربع سنوات بحسب تصريحاته من شأنه إثارة الشكوك بشأن توجهات هذه الإدارة الجديدة فى التوجه نحو حُكم ديمقراطى بإرادة الشعب السورى ومن ثَمَّ فإن الإدارة الجديدة سوف تفقد مصداقيتها لدى الشعب السورى المتعطش للحرية والديمقراطية بعد أكثر من نصف قرن من حُكم ديكتاتورى لعائلة الأسد وبذلك تدخل سوريا نفق مظلم تشيع فيه الفوضى والاضطرابات الأمنية التى تهدد بتقسيم الوطن السورى إلى دويلات عرقية وطائفية ومذهبية وعلى النحو الذى من شأنه تهديد الأمن القومى العربى فى إقليم الشرق الأوسط الذى يتوعد مجرم الحرب نتن ياهو بتغييره.
...
خلاصة القول هى أن سوريا الآن فى مفترق طرق.