د.محمد فراج يكتب: الغزو الإرهابى الجديد لسوريا خطر فادح على الأمن القومى العربى (2)
نظرية المؤمرة.. والأسباب الحقيقية لسقوط النظام السورى
الأحداث فى سوريا منذ السابع والعشرين من نوفمبر المنقضى حافلة بكثير من المشاهد الخطيرة والمُؤلمة، التى لابد أن يقف أمامها المراقب العربى بالذات طويلا، وحول قوات الفصائل الإرهابية إلى حلب، وانسحاب الجيش السورى أمامها دون أن يطلق رصاصة واحدة.. رفع العلم التركى على قلعة حلب.. تسليم حمص ثم دمشق دون إطلاق رصاصة احدة. وغيرها وغيرها، لكن الحدث الأخطر من كل ما سبق هو استباحة الطيران الصهيونى الشاملة لسوريا وتدمير البنية العسكرية السورية تدميرًا تامًا بكل قواعدها ومطاراتها ومخازن أسلحتها وذخائرها ومراكز أبحاثها العلمية وسفنها الحربية وتحويل سوريا إلى بلد منزوع السلاح خلال ثلاثة أيام (8 – 10 ديسمبر الجارى) شهدت مئات الغارات الجوية الإسرائيلية التى لم تواجهها طلقة واحدة من أى سلاح، وذلك بعد أن كانت الدبابات الإسرائيلية قد اجتاحت المنطقة العازلة فى الجولان (ثلاثمائة كم2) بدون أى مقاومة، بعد ساعات قليلة من إعلان سقوط نظام الأسد، كما استولت القوات الصهيونية على قمة جبل الشيخ السورى ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى، وحدثت هذه الاستباحة الإجرامية لسوريا دون أن نسمع حتى كلمة اعتراض من السلطات الجديدة فى دمشق!!
أما وسائل الإعلام العربية فلم تعط هذه الاستباحة الصهيونية الإجرامية ولو عشر معشار ما أعطته من اهتمام للسجون التى فتحت أبوابها على مصاريعها أمام السجناء بلا تميز بين برىء ومسجون ظلمًا ومجرم مستحق للعقاب.. ونؤكد هنا على استحقاق العقاب مع رفضنا المطلق لأى تعطيب أو انتهاك للآدمية ويتم تكريس ساعات طويلة من الإرسال لأعمال الحفر تحت مبانى السجون وحولها بحثا عن أقبية للتعذيب ومقابر جماعية، بالرغم من إعلان أجهزة الدفاع المدنى عن انتهاء عملها دون العثور على شىء من ذلك!!
وكان المطلوب هو تركيز الاهتمام على انتهاكات حقوق الإنسان المستحقة للإدانة بلا أدنى شك وصرف ذلك الاهتمام عن كارثة استباحة سوريا وتجريدها من السلاح وتدمير مقدراتها العسكرية لسنوات طويلة قادمة فضلًا عن احتلال الكيان الصهيونى لمزيد من أراضيها، وعن حالة نسبة المجاعة التى تعانى منها الأغلبية الساحقة من سكانها بسبب الحرب الإرهابية الطويلة عليها، وعن أخطار التجمد بردًا التى تهدد ملايين السوريين بسبب الشتاء القارس وانعدام المأوى أو الحد الأدني من الأغطية ووسائل التدفئة.
نظرية المؤامرة وحدودها
الطريقة التى سقط بها نظام الأسد وانسحاب الجيش السورى من مواقعه بلا قتال تفتح الباب على مصراعيه أمام الحديث عن نظرية المؤامرة ودورها فى إسقاط نظام الأسد ولسنا من الذين ينكرون وجود نصيب لدور المؤامرات فى التطورات التاريخية الكبيرة والصغيرة على السواء، إلا أن اعتماد المؤامرة والخيانة وما شابه كتفسير أساسى للتطور التاريخى يظل خطأ كبيرا، والتاريخ يتطور بصورة أساسية وفقا لقوانين موضوعية ولعلاقات القوى بين الأطراف المتصارعة.
وفى الحالة السورية من الواضح أن انسحاب نظام الأسد من مسرح الأحداث كان محل تفاهم بين إسكان ذلك النظام وقيادات جيشه وأجهزته الأمنية بعد فقدانهم لإرادة القتال بسبب الإنهاك الطويل الذى تعرَّض له النظام على مدى سنوات الحرب الإرهابية الكونية على البلاد، وما نتج عنها من دمار اقتصادى شامل فاقمته العقوبات الدولية والحصار الاقتصادى بالغ القسوة، ثم بسبب الضربات القوية التى تعرض لها حلفاؤه فى حزب الله والميليشيات الموالية لإيران، وما تتعرض له إيران من حصار وصعوبات اقتصادية ثم من ضربات أمنية كبيرة وخاصة خلال الشهور الأخيرة.
إلا أن السبب الأهم فى رأينا يعود إلى استغراق روسيا فى مواجهتها الشرسة مع حلف الناتو فى أوكرانيا وعدم قدراتها على توجيه موارد عسكرية أو اقتصادية كبيرة لدعم دمشق، بل واضطرار موسكو لسحب منظومات تسليحية كثيرة وخاصة صواريخ الدفاع الجوى فضلا عن الأفراد لدعم مجهودها الحربى فى أوكرانيا وهي معركة حياة أو موت بالنسبة للدولة الروسية.
ومن الأهمية بمكان أن نعيد إلى الذاكرة أنه حينما تدخلت روسيا عسكريا فى سوريا (30 سبتمبر 2015) كانت القوى الإرهابية وفى مقدمتها داعش والنصرة تسيطر على الجزء الأعظم من البلاد، ولم يكن تحت سيطرة نظام الأسد وحلفائه (إيران وحزب الله) إلا خمس عشرة بالمائة فقط من ساحة البلاد فى دمشق والمناطق المحيطة بها، ثم جاء التدخل الروسى ليقلب الطاولة تماما على رؤوس الإرهابيين ولتعود حوالى 70% من مساحة البلاد إلى سيطرة دمشق، كما كانت روسيا فى وضع يُمكنها من ممارسة ضغوط شديدة على تركيا، الداعم الأكبر للفصائل الإرهابية، وهذا ما أدى مثلًا إلى تمكن دمشق وحلفائها من السيطرة على نحو نصف محافظة إدلب معقل الإرهابيين الرئيسى.
لكن انغماس روسيا الكبير فى الحرب الأوكرانية منذ فبراير 2022 خلق ظروفًا غير مواتية لدعم سوريا، كما أسلفنا وكان طبيعيًا أن تستغل تركيا هذه الظروف لتعزيز وضعها فى سوريا، وزيادة دعمها للمنظمات الإرهابية فى إدلب، والإعداد للهجوم الأخير.
قطع طريق طهران – بيروت
ومن ناحية أخرى فإن مجىء إدارة بايدن للسلطة ارتبط بدعم كبير لفلول داعش فى المناطق الجنوبية والوسطى والشرقية من البلاد (بادية حمص وبادية دير الزور) وفى توحيد القوى الإرهابية فى تلك المناطق لتشن عمليات استنزاف مستمرة ضد الجيش العربى السورى والميليشيات الإيرانية العراقية المتحالفة معه، وكان السعى إلى قطع طريق (طهران -بغداد- دمشق – سوريا) هدفا ناظما لجهود أمريكا وإسرائيل وتلك المنظمات الإرهابية وذلك بهدف قطع المساعدات الإيرانية عن كل من سوريا والميليشيات الموجودة بها، وصولا إلى قطع المساعدات الإيرانية عن حزب الله فى لبنان.
كما كان التناقص الواضح فى المساعدات الروسية بسبب الحرب الأوكرنية خلال السنوات الثلاث الأخيرة وخاصة من وسائل الدفاع الجوى وزيادة الدعم الأمريكى للسلاح الجوى الصهيونى (طائرات F35 والصواريخ المتقدمة جو – أرض) سببا فى زيادة قدرات الدولة الصهيونية على توجيه الضربات المؤثرة للوجود الإيرانى والموالى لإيران فى سوريا، وللجيش السورى نفسه.
أوضاع اقتصادية تعيسة
لكى نستطيع تخيل الأوضاع الاقتصادية شديدة التدهور فى سوريا بسبب الحرب الإرهابية والأمريكية والصهيونية عليها، يكفى أن نشير إلى أن الناتج المحلى لسوريا عام 2010 أى قبل الحرب مباشرة كان يبلغ حوالى سبعة وخمسين مليار دولار انخفض عام 2023 إلى أحد عشر ونصف مليار دولار) أى إلى حوالى الخمس!! وأصبح أكثر من (تسعين بالمائة) من السوريين يعيشون تحت خط الفقر!! مع نقص فادح فى المواد الغذائية وموارد الطاقة وكل السلع الأساسية ولنا أن نتصور التأثير السلبي الكبير لهذه الأوضاع الاقتصادية على إمكانية دعم القوات المسلحة وكذلك على إمكانيات إعادة الإعمار وحالة الخدمات العامة، وبالتالى على معنويات المجتمع ككل، بما فى ذلك معنويات الجيش.
ثم جاء زلزال فبراير 2023 الكبير الذى ضرب تركيا وسوريا ليتسبب فى خسائر لسوريا بلغت أكثر من (خمسين مليار دولار) وليزيد الأوضاع الاقتصادية والمعيشية سوءًا، علمًا بأن المساعدات العربية والغربية الشحيحة للغاية كان يتم توجيه الجزء الأكبر منها إلى منطقة إدلب وشمالى حلب (الواقعة تحت سيطرة تركيا والإرهابيين) مع توجيه كميات ضئيلة لمناطق سيطرة الحكومة السورية، بدعوى عدم دعم نظام الأسد!!
وحتى حينما عادت سوريا إلى عضوية جامعة الدول العربية فإن أغلب دول الجامعة استمرت فى تطبيق العقوبات الاقتصادية الغربية والالتزام بقانون قيصر الأمريكى شديد القسوة، ولم تهتم الدول العربية الغنية بتقديم مساعدات اقتصادية أو ضخ استثمارات فى سوريا.
كما أن الأوضاع الطاردة للاجئين السوريين فى تركيا ولبنان وبلدان أخرى أجبرت أعدادًا كبيرًا منهم على العودة إلى سوريا، الأمر الذى زاد الأعباء على الاقتصاد المنهك مع استمرار العقوبات والحصار الاقتصادى.
كل هذه الأوضاع السياسية والعسكرية بالإضافة إلى التدهور الشديد للاقتصاد، جعلت النظام السورى فى حالة من الضعف المتزايد سياسيا وعسكريا ومعنويا وجعلت الإطاحة به أسهل.
الفساد ومشكلة الديمقراطية
زاد الأمر سوءًا انتشار الفساد فى أجهزة الدولة وأوساط الحكم وسوء الإدارة الحكومية واعتماد عنصر الولاء السياسى والحزبى فى تولى المناصب وغياب الحريات الديمقراطية واعتماد سياسات قمعية فى الحكم.
والأمر المؤكد أن كل هذه الانفجارات أضعفت النظام كثيرًا أو أثرت بالسلب على شعبيته، وجعلت من السهل اختراقه على نطاق واسع ومن ثمَّ إسقاطه دون أن يعنى هذا إطلاقا اقتناع السوريين بالفصائل الإرهابية التى أسقطته بدعم تركى وأمريكى وإسرائيلى واضح والدليل على هذا هو الفتور الجماهيرى الواضح فى استقبال الحكام الجدد، وهو ما تكشف عنه قلة عدد المشاركين فى احتفالات النصر.
وللحديث بقية..