د.محمد فراج يكتب: الغزو الإرهابى الجديد لسوريا.. خطر فادح على الأمن القومى العربى (1)
تشهد أراضى سوريا الشقيقة هذه الأيام هجوما إرهابيا واسع النطاق ومدعوما من الخارج، يمثل خطرا جسيما على سلامة الدولة السورية، ومن ثم على الأمن القومى العربى بما فيه أمن مصر القومى.
ففى السابع والعشرين من نوفمبر المنقضى بدأت هيئة تحرير الشام وحلفاؤها من الفصائل الإرهابية والمرتزقة هجوما يشارك فيه عشرات الآلاف من العناصر المدربة المدججة بالأسلحة المتطورة انطلاقا من مناطق تمركزها فى محافظة إدلب شمال غربى البلاد تمكنت خلاله من السيطرة بسرعة على بقية أجزاء المحافظة، لتنتقل خلال أيام قليلة للسيطرة على مدينة حلب، ثانية كبرى مدن سوريا، وعاصمتها الاقتصادية، وعشرات من المدن والبلدات الواقعة فى ريف حلب الشمالى والغربى والجنوبى، ثم لتنتقل للسيطرة على عدد من بلدات محافظة حماة المجاورة "جنوب غربى حلب" والاقتراب من مدينة حماة عاصمة المحافظة، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبري، حيث اصطدمت بقوات الجيش العربى السورى المدافعة عن المدينة، التى تمكنت من صد هجوم الإرهابيين وأنزلت بهم خسائر فادحة، ولاتزال المعارك الطاحنة تجرى بالقرب من مدينة حماة وفى ريف المحافظة، حتى كتابة هذه السطور، (نكتب هذا المقال فجر الخميس ٥ ديسمبر).
غزو إرهابى جديد
الهجوم الإرهابى الواسع الذى تشهده سوريا هذه الأيام هو فى حقيقة بمثابة "غزو إرهابى جديد" جرى الإعداد له بعناية وتكتم على مدى فترة طويلة في مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" فى محافظة إدلب الواقعة على الركن الشمالى الغربى من سوريا، والمجاورة مباشرة للحدود التركية، والخاضعة بالكامل لسيطرة الجيش التركى ومخابرات أنقرة، وهى منطقة لا علاقة لها بالعالم إلا عبر الحدود التركية، وهذه الحدود هى المصدر الوحيد لإمداد الفصائل الإرهابية فى إدلب بكل شىء بدءًا من الطعام ومصادر الطاقة والدواء والسلع الاستهلاكية، وصولا إلى السلاح والذخيرة.
والفصائل الإرهابية المتمركزة فى إدلب تتمتع بحماية الجيش التركى وتدين بالولاء الكامل لأنقرة، وبالتالى فإن من المستحيل تصور أن يكون الإعداد للهجوم الإرهابى الكبير قد تم بعيدًا عن الأيدى التركية، بغض النظر عن أى تصريحات تفترض سذاجة المتلقي.
كما أن عناصر المخابرات الغربية، الأمريكية والبربطانية والألمانية والفرنسية وغيرها، منتشرة فى إدلب، وفى مناطق الحدود التركية – السورية بصورة يستحيل معها تصور أن يكون الإعداد لهذا الهجوم قد تم بعيدًا عن أعين عملاء هذه الأجهزة إن لم يكن بمشاركتهم.
والمنظمات الإرهابية المتمركزة فى إدلب أبرزها وأكبرها "هيئة تحرير الشام" بقيادة أبى محمد الجولانى، وهى نفسها "جبهة النصرة" وهى باسميها القديم والجديد "النصرة" و"الهيئة" مصنفة كتنظيم إرهابى دولى من جانب مجلس الأمن الدولى، وأغلب دول العالم بما فى ذلك الولايات المتحدة بل تركيا نفسها، وتضم "الهيئة" أكثر من أربعين ألف مقاتل من شتى أنحاء العالم، من الذين كانوا يقاتلون فى مختلف المناطق السورية أثناء الحرب الإرهابية الكونية ضد سوريا بعد عام 2011، وقد غيَّرت "النصرة" اسمها إلى "هيئة تحرير الشام" هربا من التصنيف الدولى كمُنظمة إرهابية، لكن هذا التصنيف لاحقها بعد تغيير اسمها.
كما يوجد فى إدلب فصيل يضم الآلاف من تنظيم داعش وما يعرف بـ"الجيش الإسلامى التركستانى" الذى يضم الآلاف من الإرهابيين "الأويجور/الصينيين" وآلافًا آخرين من الإرهابيين الشيشان وغيرهم من المنظمات الإرهابية المصنفة دوليا، إلا أن الكلمة العليا فى إدلب هى للنصرة، التى أصبح اسمها حاليا "هيئة تحرير الشام" باعتبارها الفصيل الأقوى والأكثر عددًا، كما أنها تُسيطر على "الإدارة المدنية" لمحافظة إدلب، التى تقدم مختلف الخدمات.
ولهذه الأسباب كلها ونظرًا لغلبة أو كثرة انتشار العناصر الإرهابية الأجنبية بين عناصر تلك المنظمات، فإننا نستخدم تعبير "الغزو الإرهابى" فى وصف الهجوم الإرهابى الكبير على المحافظات السورية الثلاث: الجزء الذى كان قد حرره الجيش السورى من محافظة إدلب وحلب وحماة.
ولا يخلو من أهمية ذكر ما أشارت إليه التقارير الإعلامية من وجود مدربين أوكرانيين فى إدلب (!!) يقومون بتدريب عناصر هذه المنظمات الإرهابية على استخدام مختلف الأساليب القتالية وخاصة الطائرات المسيرة، وتحرص وسائل الإعلام الروسية على التركيز على ذكر الدور الأوكرانى فى إدلب، إلا أننا نعتقد ــ المنطق يؤكد ــ أن الدور الأساسى من تدريب تلك المنظمات يعود إلى الأتراك، دون استبعاد وجود مدربين من دول غربية مختلفة.
المعارضة المسلحة!! تسمية مضللة
ومن الضرورى هنا أن نشير أيضا إلى مشاركة أعداد ضئيلة ممن يطلقون على أنفسهم اسم "الجيش الوطنى السورى" فى بعض المعارك وخاصة فى ريف حلب الشمالى تحت لواء "النصرة" وإلى الضجة الإعلامية الغربية حول هؤلاء، واستخدام وجودهم الضئيل للإيحاء بأن الغزو الإرهابى هو "هجوم المعارضة المسلحة" وهذا تضليل صارخ، لأن هؤلاء المرتزقة لا وزن عسكريا لهم فى ميدان القتال، ودورهم الحقيقى الوحيد هو تقديم تغطية سياسية للغزو الإرهابى، هم وغيرهم من أتباع تركيا والغرب المقيمين فى فنادق الخمس نجوم فى الخارج، ولا وزن لهم على الأرض سواء سياسيا أو عسكريا، أما الإرهابيون فلا يمكن "بالطبع" اعتبارهم معارضة، وإنما هم بكل بساطة، إرهابيون، ولا يمكن تجميل صورتهم بإطلاق تسميات مضللة من قبيل "المعارضة المسلحة" أو الفصائل المسلحة أو ما شابه ذلك من مسميات.
لماذا الآن؟؟
يحرص كثير من المراقبين والمحللين السياسيين على الربط بين موعد بدء الغزو الإرهابى الحالى وبين الاتفاق على وقف إطلاق النار فى لبنان بين إسرائيل وحزب الله، وما أصاب الحزب من ضعف بسبب الضربات التى تلقاها سواء فى لبنان أو سوريا، وكذلك ما أصاب النفوذ الإيراني فى سوريا والمنطقة من ضعف بسبب العمليات الإسرائيلية ضد حزب الله وقواعد الحرس الثورى والميليشيات الموالية لإيران فى سوريا، ويستند هؤلاء المحللون إلى تصريحات مجرم الحرب نتنياهو مؤخرا بأن إسرائيل ستعيد رسم خريطة الشرق الأوسط.. إلخ.
ورأينا أن هذا الربط المباشر ينطوى على كثير من المبالغة، وخاصة فيما يتصل بقدرة إسرائيل على إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط وطرد النفوذ الإيرانى من سوريا، وإذا كان فعل هذا التفسير لتحديد بداية الهجوم الإرهابى الجارى يتضمن جزءا من الحقيقة، فهو جزء محدود للغاية.
فالتخطيط للغزو الإرهابى لسوريا قد بدأ قبل اشتعال الحرب الأخيرة على لبنان، وربما حتى قبل عملية "طوفان الأقصى".. إذ تشير تقارير غربية كثيرة إلى أن الإعداد للهجوم الإرهابى الأخير قد بدأ منذ أكثر من سنتين، ولو لم تكن عناصر هذا الهجوم جاهزة منذ وقت طويل لما أمكن إطلاقه ارتباطا بالتطورات التى يشير إليها هؤلاء المحللون.
والحقيقة أن هذا الغزو الإرهابى يرتبط بحقائق أساسية كبرى فى علاقات القوى الدولية والإقليمية فى مقدمتها الحرب الأوكرانية وانشغال روسيا فيها واضطرارها لسحب الجزء الأكبر من قواتها من سوريا، وتطورات العلاقات الروسية – التركية وحسابات أردوغان حول أن هذه التطورات لن تسمح لموسكو بمد يد العون لسوريا لمواجهة الغزو الإرهابى، خاصة فى ظل الانشغال الروسى فى أوكرانيا واجتياح الكرملين لموقف تركى متوازن أو "معقول" تجاه هذه الحرب، والأكثر أهمية من ذلك كله هى أطماع تركيا التوسعية المعلنة فى الشمال السورى بأكمله.
وينبغى هنا ملاحطة أن تركيا تمثل ما تسميه "شريطا أمنيا" يمتد من تل أبيض إلى رأس العين فى المنطقة الوسطى من الحدود بين البلدين والتى تبلغ حوالى أربعة آلاف كم2، وتريد تركيا أن تفرض على سوريا ما تسميه "بتطبيع العلاقات" واجتماع الرئيس الأسد بأردوغان، حتى بدون إعلان أنقرة التزامها بالانسحاب من هذه المناطق بما فى ذلك إدلب ومناطق شمال حلب!! أو إعلان جدول زمنى لهذا الانسحاب!! الأمر الذى يعنى قبول سوريا بالاحتلال التركى لأجزاء كبيرة من أراضيها.
ومن أهم هذه الوقائع أيضا فوز ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وما هو معروف عن موقف ترامب بشأن الانسحاب الأمريكى من سوريا، وتصريحه بأن سوريا هى مجرد "رمال وموت" sands and death وبالتالى فإن خلق واقع جديد فى سوريا قبل استلام ترامب للسلطة سيكون أمرًا أكثر قابلية للاستمرار.
وللحديث بقية..