د.محمد فراج يكتب : 75 عاماً على تأسيس الناتو.. إمبراطورية الشر والعدوان (1)
قمة حلف شمال الأطلسى «الناتو» فى واشنطن (9 - 11 يوليو) والتى يحتفل فيها زعماء الملف بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسه.. انعقدت فى ظل توتر بالغ الحد فى العلاقات الدولية بسبب المواجهة التى يخوضها «الناتو» ضد روسيا على الأراضى الأوكرانية عسكرياً، وعلى النطاق العالمى كله سياسياً واقتصادياً وإعلامياً.. وهى المواجهة التى اشتعلت بسبب إصرار الحلف بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية على التوسع شرقاً حتى الحدود الروسية، وضم أوكرانيا إليه، بما يسمح بتواجد قواته على حدود روسيا مباشرة وفى مواجهة المنطقة المركزية الروسية سكانياً واقتصادياً، بامتداد ألف وخمسمائة كيلو متر الأمر الذى رأت فيه روسيا خطراً فادحاً على أمنها القومى لا يمكنها السكوت عليه، وطالبت بإجراء مفاوضات للتوصل إلى نظام أمنى فى أوروبا يضمن الأمن المتكافئ لمختلف الأطراف وتستبعد انضمام أوكرانيا «للناتو» ووجود قوات الحلف على أراضيها لكن واشنطن رفضت التفاوض أصلاً الأمر الذى جعل روسيا تدفع بقواتها العسكرية إلى داخل أوكرانيا، والاستيلاء على حوالى عشرين بالمائة من أراضيها، بالرغم من الدعم العسكرى واسع النطاق وغير المسبوق لكييف. وسوف نعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى، ولكن بعد تقديم لمحة سريعة عن التطور التاريخى لملف «الناتو» ودوره فى العلاقات الدولية.
تأسس حلف شمال الأطلسى «الناتو» عام 1929 بمشاركة اثنتى عشرة دولة غربية على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا بالإضافة إلى دول أقل قوة مثل النرويج والدنمارك وبلجيكا وهولندا والبرتغال وأيسلندا ولوكسمبورج.. وانضمت تركيا واليونان إلى الحلف عام 1952 ثم انضمت ألمانيا الغربية عام 1955 وأسبانيا عام 1982 ثم انضمت أغلب دول وسط وشرق أوربا إلى الحلف بعد سقوط حلف وارسو والاتحاد السوفيتى - كما سنوضح لاحقاً - وكانت فنلندا (2023) والسويد (2024) آخر الدول التى انضمت للحلف.
وكان الهدف المعلن لتأسيس الحلف هو الدفاع عن دول المعسكر الغربى ضد خطر «التوسع الشيوعى السوفيتى».. وذلك بعد الانتصار الكبير الذى حققه الاتحاد السوفيتى على ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية وتحرير القوات السوفيتية لبلدان أوروبا الشرقية من القوات الفاشية (بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا) بالإضافة إلى الجزء الشرقى من ألمانيا، ودول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتيفيا وأستونيا) وقد انضمت الدول الثلاث الأخيرة إلى قوات الاتحاد السوفيتى.
والانتصار الكبير الذى حققه الاتحاد السوفيتى فى الحرب العالمية الثانية أثار التوتر لدى الدول الغربية الكبرى وخاصة أمريكا وبريطانيا، اللتين سارعتا فى أعقاب الحرب مباشرة لفض تحالفهما مع السوفيت ضد النازية، والدعوة لإقامة «ستار حديدى» حول الاتحاد السوفيتى ودول أوروبا الشرقية التى أقيمت فيها نظم اشتراكية (1946) ثم أقيم «الناتو» عام 1949 لمواجهة الاتحاد السوفيتى والكتلة الاشتراكية المتحالفة معه. علماً بأن موسكو وحلفاءها لم يكونوا فى ذلك الوقت قد أقاموا أى تحالف عسكرى. وظل الأمر على هذا النحو حتى عام 1955، حين انضمت ألمانيا الاتحادية (الغربية) إلى «الناتو» بخلاف ما كانت تقضى به اتفاقات استسلام القيادة النازية فرد السوفييت وحلفاؤهم على هذه الخطوة بإعلان «حلف وارسو» عام 1955.
وظل الحلفان يمثلان عنوان المواجهة بين المعسكرين الشرقى والغربى حتى تم حل حلف وارسو عام 1989 مع بدء تصدع الاتحاد السوفيتى وبروز علامات هزيمته فى «الحرب الباردة» لينهار عام 1991 مسجلاً نهاية النظام العالمى ثنائى القطبية، ونشوء ما يسمى وقتها «النظام العالمى الجديد» القائم على أحادية القطبية الأمريكية.
توسيع «الناتو» شرقاً
ومع انهيار حلف وارسو بدأ سحب القوات السوفيتية من دول الحلف على أساس ما سمى باتفاق «الجنتلمان» الشفهى (!!) بين الرئيس السوفيتى وقتها جورباتشوف ونظيره الأمريكى بوش الأب على عدم توسع «الناتو» شرقاً.. وهو الاتفاق الذى بات بديهياً لا يخدم الغرب إذ لا توجد فى مثل هذه الأمور الخطيرة اتقاقات جنتلمان، وخاصة بين الغالب والمغلوب..
وهكذا كانت ألمانيا الشرقية أول من انضم إلى «الناتو» بعد إعلان الوحدة بين شرق وغرب ألمانيا فى أكتوبر عام 1990، ثم بدأ تأهيل دول وسط وشرق أوروبا (الاشتراكية سابقاً) للانضمام إلى الحلف تباعاً لتنضم (بولندا والتشيك والمجر) «للناتو» عام 1999 لتتلوها بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا.. وجمهوريات البلطيق الثلاث (السوفيتية السابقة استونيا وليتوانيا ولاتفيا) عام 2004 وقد انضمت ألبانيا وكرواتيا عام 2009 وجمهورية الجبل الأسود عام 2017 ومقدونيا الشمالية عام 2020 وفلندا عام 2023 والسويد فى مارس 2024.
وظلت أوكرانيا «الجائزة الكبرى» التى تسعى الولايات المتحدة والدول الغربية إلى ضمها «للناتو» فى إطار استراتيجيته الهادفة إلى حصار وإضعاف روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى أى منذ تسعينيات القرن الماضى ويرجع ذلك إلى الأهمية الاستراتيجية الكبرى لأوكرانيا. فهى تمتلك حدوداً طويلة مع روسيا تبلغ ألفاً وخمسمائة كيلو متر، محاذية بالضبط للمنطقة السكانية والصناعية والزراعية الكبرى فى روسيا. وهى منطقة سهلية لا توجد موانع طبيعية فيها. وهى دولة كبيرة متوسطة النمو من الناحية الصناعية والتكنولوجية تبلغ مساحتها ستمائة ألف كم2 وعدد سكانها -وقت انهيار الاتحاد السوفيتى- حوالى خمسين مليوناً. وهى دولة زراعية كبرى وغنية بثرواتها المعدنية وهى تتسم بأهمية استراتيجية خاصة لوقوع شبه جزيرة القرم فيها.. وهى المنطقة التى تسيطر من حيث الموقع على طرق الملاحة فى البحر الأسود منفذ روسيا التاريخى إلى المياه الدافئة كما أن بها القاعدة الرئيسية للأسطول الروسى فى البحر الأسود.. وهى أكبر وأهم أساطيل روسيا البحرية، وتعد السيطرة على القرم وطرد الأسطول الروسى منها إضعافاً استراتيجياً خطيراً لروسيا، وإمكانية (لخنقها) بحرياً. كا تتيح سيطرة الغرب على القرم وامتلاك قواعد بحرية وجوية فى شبه الجزيرة موقعاً هجومياً ممتازاً «للناتو» ضد روسيا.
نجد أن المخططات الغربية للتغلغل فى أوكرانيا والسيطرة عليها اصطدمت بالتفوق التاريخى الروسى فيها، ووجود (عشرين بالمائة) من الروس بين سكانها فضلاً عن تغلغل اللغة والثقافة الروسية، والروابط الاقتصادية والتاريخية المتشعبة والعميقة بين البلدين على مدى قرون، فضلاً عن المساعدات الاقتصادية الروسية السخية لأوكرانيا.
وهكذا ظل الصراع بين الطرفين قائماً حول أوكرانيا، حتى تمكن أنصار الغرب من الإطاحة بالرئيس المنتخب بابوكوفيتش بالعنف فى فبراير عام 2014 ليسيطروا على السلطة، ويطالبوا بإلغاء الاتفاقية المستغلة للوجود العسكرى الروسى فى القرم، وليتخذوا إجراءات قمعية واسعة النطاق ضد السكان ذوى الأصول الروسية فى منطقة الدونباى، الأمر الذى دعا روسيا إلى ضم القرم، أو بالأحري استعادتها، حيث إنها أرض روسية أصلاً (مارس 2014) وليتصاعد الصراع على النحو الذى أفاضت وسائل الإعلام فى شرحه والذى تحدثنا عنه باختصار فى بداية مقالنا.. لينتهى الأمر بدخول القوات الروسية إلى أوكرانيا (فبراير 2022) والاستيلاء على مناطق واسعة منها.. وليحشد «الناتو» والغرب كل القوى الممكنة من مساعدات وإمدادات عسكرية بمئات المليارات إلى إرسال الخبراء والمستشارين العسكريين.. وحدث ولا حرج من العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة فى التاريخ ضد موسكو ومن الإجراءات العقابية فى شتى المجالات السياسية والإعلامية والثقافية والإنسانية. وليصبح التصعيد الغربى ضد روسيا وخاصة فى جانبه العسكري على الساحة الأوكرانية منطوياً على خطر وقوع صدام عسكرى يمكن أن يؤدى إلى حرب عالمية مدمرة.
طابع عدوانى مستفحل
والواقع أن «الناتو» تأسس منذ البداية ككيان عسكرى عدوانى، بغض النظر عن الشعارات المعلنة حول الطابع الدفاعى، و«الدفاع المشترك» و«الدفاع عن الحرية».. إلخ فحين تأسس «الناتو» لم يكن فى مواجهته تحالف سوفيتى، ولم ينشأ حلف وارسو إلا بعد انضمام ألمانيا الغربية إلى «الناتو» بخلاف ما نصت عليه اتفاقيات إنهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام ألمانيا.
وبعد انهيار حلف وارسو ثم الاتحاد السوفيتى ذاته فقد «الناتو» مبرر وجوده المعلن، وكان ينبغى حله.. لكن ما حدث هو أن الحلف أعلن عن توسيع مهامه، ونطاق عمله ليشمل حماية المصالح الغربية، وإمدادات الطاقة و«الاستقرار» و«مكافحة الإرهاب» حيث المفاهيم الغربية وبناء على ذلك كان تدخل الحلف لتفكيك يوغوسلافيا الاتحادية فى أواخر التسعينيات وتدمير صربيا بدعوى حماية البوسنة والهرسك ثم تقسيم صربيا وإقامة كيان كوسوفو الذى تحول إلى مرتع للإرهاب ثم كان احتلال الحلف لأفغانستان بهدف إيجاد موطىء قدم فى آسيا الوسطى لمحاصرة روسيا من الجنوب والصين من الغرب.. وهى الحرب التى انتهت بتسليم البلاد إلى «طالبان» مع عزل أسلحة تقدر قيمتها بأكثر من تسعين مليار دولار والتغلغل فى الطرق بدعوى مكافحة الإرهاب بعد الغزو الأمريكى للبلاد.. كما يعتبر تدمير ليبيا عام 2011 علامة فارقة فى السياسة الاستعمارية العدوانية للحلف.. وبالتوازى مع ذلك كله كانت استراتيجية التوسع باتجاه الشرق لمحاصرة وإضعاف روسيا، بهدف تقسيمها لاحقاً والسيطرة على ثرواتها الطبيعية الهائلة.. وهو هدف معلن كتب عنه استراتيجيون أمريكيون كبار مثل مستشار الأمن القومى الأسبق (زبيجنيو بريجينسكى) وخبراء مركز (راند) للأبحاث التابع للبنتاجون وغيرهم كما يعلن الحلف فى وثائقه الرسمية روسيا والصين باعتبارهما «عدوين» من الضرورى احتواؤهما وإلحاق الهزيمة بهما.. وباختصار فإن «الناتو» يعلن بوضوح وبمختلف الصياغات أن هدفه هو الهيمنة على العالم ومنع نشوء عالم متعدد الأقطاب، أو ظهور أية قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة بالذات.
وللحديث بقية