د.محمد فراج يكتب : الصهيونية بين الخرافات وحقائق التاريخ (8 – 8)
شهدت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية تزايدا مستمرا للهجرة اليهودية إلى فلسطين تحت رعاية مباشرة من سلطات الاحتلال البريطانى الانتداب وبدعم قوي من جانب الولايات المتحدة التي أصبحت زعيمة للعالم الغربى الاستعمارى حتي بلغ عدد اليهود فى البلاد ستمائة وخمسين ألفا (650 ألفا) مقابل مليون فلسطينى عشية إعلان قيام الدولة الصهيونية فى 15 مايو 1948.
كما شهدت تلك السنوات تطويرا كبيرا للنشاط العسكرى والاقتصادى للحركة الصهيونية فى فلسطين وتدفقا كبيرا للمساعدات المالية وخاصة من جانب اليهود الأمريكيين ولمختلف أنواع الأسلحة على تلك الحركة، بحيث أصبحت أقوى عسكريا بكثير من الحركة الوطنية الفلسطينية.
وفي الوقت نفسه قامت الحركة الصهيونية العالمية بنشاط كبير علي الساحة السياسية والإعلامية الدولية للدعوة لإقامة دولة يهودية فى فلسطين وذلك بدعم قوى من الولايات المتحدة (عام 1947) والذى تجد نتائجه بالتفصيل فى المقال السابق من هذه السلسلة، وأوضحنا أسباب رفض الفلسطينيين والدول العربية له.
وفى المقابل كانت الحركة الوطنية الفلسطينية تواجه بقمع شديد من جانب سلطات الاحتلال البريطانى ولم تكن القضية الفلسطينية تحظى باهتمام جدى من جانب الدول العربية، التى كانت إما ضعيفة اقتصاديا وعسكريا وإما خاضعة للاحتلال الأجنبى، أو حاصلة على استقلال شكلى علما بأن جامعة الدول العربية كان قد تم تأسيسها فى 22 مارس 1945 قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية بمشاركة مصر وسوريا والعراق والسعودية ولبنان واليمن والأردن، وبديهى أن أهميتها علي الساحة الدولية كانت محدودة بحدود قوة الدول المكونة لها، كما كانت جيوش تلك الدول قليلة العدد وسيئة التسليح والتدريب مقارنة بالجيوش الحديثة، بل إن الجيش الأردني كان يقوده جنرال بريطانى هو ِالجنرال جلوب!
1948 إعلان الدول الصهيونية.. والحرب
حينما أصبحت مؤسسات الدولة الصهيونية شبه مكتملة، أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين يوم 14 مايو 1948 وفي نفس اليوم (ليلة 1415 مايو) اجتمع ممثلو المنظمات العسكرية والسياسية والأحزاب الصهيونية وأعلنوا قيام الدولة الصهيونية (إسرائيل) وانتخبت دافيد بن جوريون رئيسا لحكومتها وخلال 14 دقيقة أعلن الرئيس الأمريكى ترومان اعتراف الولايات المتحدة بالدولة الصهيونية ثم توالت الاعترافات الدولية بها.
وفي المقابل رفض الفلسطينيون طبعًا الاعتراف بالكيان الغاصب لوطنهم، وأعلنت الدول الأعضاء فى الجامعة العربية الحرب على إسرائيل ونشبت حرب 1948 خلال أيام، وأعلنت الجامعة العربية عن تشكيل لجنة عليا لتنسيق الجهود العسكرية ودعم فصائل المقاومين المتطوعين، مقرها دمشق، كما تم تعيين قائد الجيش الأردنى الجنرال جلوب البريطانى الجنسية!! قائدا أعلى للجيوش العربية في فلسطين!!
خرافة الجيوش السبعة
أرسلت دول الجامعة العربية باستثناء لبنان وحدات من جيوشها بلغ عددها حوالى عشرين ألف رجل، يضاف إليها حوالي ثلاثة آلاف مقاتل في الجيش الوطنى الفلسطينى بقيادة عبدالقادر الحسينى وبضع مئات من المتطوعين العرب من الإخوان المسلمين وغيرهم وهذه القوات (وحدات من ستة جيوش عربية بالإضافة إلى الجيش الوطنى الفلسطينى) هى التى بنت الدعاية الصهيونية عليها فيما بعد خرافة انتصار العصابات الصهيونية على سبعة جيوش عربية!! علمًا بأن القوات المذكورة كانت سيئة التدريب وضعيفة التسليح، ويعمل كل منها بصورة منفردة ضد القوات الصهيونية فى مناطق مختلفة من فلسطين، وكما سبق أن ذكرنا تحت القيادة العليا للجنرال البريطانى جلوب قائد الجيش الأردنى.
وفى المقابل كان لدى الصهاينة أكثر من مائة ألف رجل من المقاتلين فى عصابات الهاجاناه والأرجون و"اتسل"، المنظمين والمدربين والمسلحين جيدا والآلاف من حراس المستوطنات الصهيونية وهم أيضا مدربون ومسلحون جيدا ويضاف إلى هؤلاء جميعا عشرون ألفا من أفراد ما كان يسمى بالفيلق اليهودى الذى قاتل في صفوف القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، أكبر هذه المنظمات الصهيونية المقاتلة.
أى أنه لم يكن هناك سبعة جيوش عربية ولا يحزنون، وكان التفوق العددى كاسحا لصالح العصابات الصهيونية عن التفوق في التدريب والتسليح كما سبق أن ذكرنا، وعن وجود تنسيق بين المنظمات الصهيونية بقيادة الهاجاناه.
ومن ناحية أخرى وهذه نقطة شديدة الأهمية فإن القوات العربية لم تكن على معرفة جيدة بجغرافيا فلسطين وتفاصيل مسرح العمليات وهو ما أدى إلى وقوع بعضها فى الحصار، كما حدث مع القوات المصرية فى منطقة الفالوجا.
وتعرضت القوات العربية لهزائم عديدة وتمكنت القوات الصهيونية من احتلال مناطق لم تكن من حقها بموجب قرار التقسيم (181 لسنة 1947) بما فى ذلك مناطق واسعة فى النقب وصولا إلى قرية أم الرشراش المصرية على رأس خليج العقبة، والتى تم بناء ميناء إيلات مكانها ليصبح لدى إسرائيل منفذ على البحر الأحمر.
وانتهت الحرب رسميًا عام 1949 بعقد اتفاقات للهدنة مع مصر أولا فى فبراير 1949 ثم مع كل من الأردن وسوريا ولبنان خلال الشهور التالية.
وهكذا أسفرت حرب 1948 عن سيطرة الكيان الصهيونى على ساحات أوسع بكثير مما كان ينص عليه قرار التقسيم، أى كل فلسطين باستثناء قطاع غزة الذى تم وضعه تحت الإدارة المصرية والقدس الشرقية والضفة الغربية لنهر الأردن، اللتين تم إدماجهما فى إمارة شرق الأردن لتكون المملكة الأردنية الهاشمية.
دروس النكبة
دروس نكبة 1948 عديدة، وربما كان أولها أن الدول العربية بل والحركات الوطنية العربية المناضلة ضد الاستعمار لم تكن تفهم خريطة العلاقات الدولية بصورة صحيحة، ولم تدرك خطورة المشروع الاستعمارى الصهيونى على فلسطين وعلى المنطقة العربية بأسرها، كما كان إدراكها لفكرة العروبة نفسها شديد الضعف خلال العقود الأولى من القرن العشرين، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية (راجع المقالات السابقة من هذه السلسلة) وهكذا تم ترك الشعب الفلسطينى وحيدا يقاوم ببسالة قوى استعمارية عاتية، حتى تمكنت هذه القوى الاستعمارية من وضع أسس قائمة للمشروع الصهيونى.
والدرس الثانى بالغ الأهمية أنه حينما بدأت الدول العبرية تدرك خطورة الوضع فى فلسطين متأخرا ورفضت قرار التقسيم (لعام 1947) فإنها لم تحشد القوى المطلوبة أو حتى المتاحة للوقوف ضد المشروع الصهيونى وحماية فلسطين بل اكتفت بالرفض الكلامى السلبى، وحينما قررت التدخل فى فلسطين بعد إعلان الدولة الصهيونية فإنها تدخلت بصورة ضعيفة لم تكن كافية لكسب المواجهة بالطبع.
..الدرس الثالث وهو أيضا بالغ الأهمية أن الدول العربية لم يدرك أغلبها ضرورة التضامن والوحدة فى مواجهة العدوان الصهيونى ولايزال الانقسام العربى حول القضية الفلسطينية قائمًا حتى الآن وبالرغم من هول ما يحدث فى غزة وفى الضفة الغربية.
.. الدرس الرابع وهو بدوره بالغ الأهمية: إن أغلب الدول العربية لا تدرك أن المواجهة مع الكيان الصهيونى هى من نفس طبيعة المواجهة مع المخططات الأمريكية والغربية للهيمنة على المنطقة بما لها من موقع استراتيجى بالغ الأهمية، ونهب ثرواتها، وأن اسرائيل هى أداة تحقيق هذه المخططات والشريك الأصغر للغرب بزعامة أمريكا، وأنه لا سبيل للمواجهة الناجحة لكل هذه المخططات فى ظل الانقسام والتناحر العربى، وبالرغم من هذا كله يتجه العرب بأغلبيتهم الساحقة لأمريكا لتقم بدور الحكم فى صراعاتهم مع إسرائيل!! وتكون النتيجة بالطبع حلولًا وتسويات متحيزة للعدو الصهيونى دون أن يفكر العبر فى ممارسة أى ضغط جدى على أمريكا أو تهديد مصالحها بأى شكل إذا أصرت على انحيازها الفاضح، وكأننا لا نتعلم شيئا من تاريخنا!
.. الدرس الخامس الذى لا يقل أهمية عن كل ما مضى، هو أننا لا نعرف تاريخنا ونستخلص دروسه كما ينبغى، بل يصدق كثيرون منا خرافات الصهيونية وأساطيرها حول تفوقها المزعوم على العرب، وهزيمة الجيوش السبعة أمامها واستحالة الانتصار عليها. بالرغم من حرب أكتوبر المجيدة 1973 وقبلها معركة الكرامة فى الأردن 1968 وبالرغم من طوفان الأقصى وما تشهده غزة من مقاومة أسطورية.
وبتعبير آخر فإن الدعاية الصهيونية والغربية قد نجحت بدرجة أو بأخرى فى اختراق العقل العربى ووجدت من يصدها أو حتى يردد أكاذيبها، وهذا خطر ينبغى على المثقفين والإعلاميين العرب والسياسيين الوطنيين بالطبع مواجهته بكل قوة لأن الوعى الصحيح بقضايانا وبتاريخنا هو أساس الصمود فى المواجهة الحضارية الشاملة التى يتحتم أن يخوضها العرب لكى يخترعوا مكانا لائقا فى عالم اليوم والمستقبل.