أسامة أيوب يكتب : صلى الله عليه وسلم مولده كان بشارة إلهية بنزول آخر الرسالات السماوية

فى احتفال الأمة الإسلامية هذا العام بذكرى مولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم يكون قد مرّ على هذا الحدث الفارق فى تاريخ الإنسانية ألف وأربع وثمان وتسعون سنة هجرية (1498)، إذ إنه هاجر إلى المدينة المنورة وعمره الشريف (53) سنة، وبجمع هذا الرقم على سنوات التاريخ الهجرى (1445) فإننا نحتفل بالذكرى (1498) لمولده الشريف، ولعل هذه المعلومة التى أردت ذكرها هي الجديد الذى يمكن قوله في الاحتفال.
وإذا كان مولده صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة فى يوم الاثنين من شهر ربيع الأول قبل أربعين سنة من بعثته وقبل ثلاث وخمسين سنة من هجرته وقبل ثلاث وستين سنة من وفاته، فإن مولده بالتاريخ الميلادى كان فى العشرين من أبريل عام ٥٧١ ميلادية على أرجح الروايات وأوثقها أى فى الثلث الأخير من القرن السادس الميلادى.
<<<
وقد كان لمولده فى مكة المكرمة بلد بيت الله الحرام الذى رفع قواعده جداه أبو الأنبياء إبراهيم والنبى إسماعيل عليهما الصلاة والسلام دلالات واستشرافات بحسب المشيئة الإلهية بالغة الأهمية، إذ إنه سيكون نبى آخر الزمان المنتظر حسبما جاء فى الكتب السماوية الذى سيخرج من مكة من نسل النبى إسماعيل الذى شارك أباه النبى إبراهيم الخليل فى رفع قواعد البيت الحرام الذى أمره الله أن يؤذن للناس بالحج، وأن يكون هو من يطهر البيت الحرام من الأصنام التى عبدها أهل مكة والعرب بعد أن طال الزمن بينهم وبين إبراهيم وإسماعيل.
<<<
ولأن جميع الأنبياء والرسل من أبناء نبى الله إبراهيم الذين بعثوا قبله كانوا من نسل النبى يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وهم أنبياء بنى إسرائيل «يعقوب» فإن مولده صلى الله عليه وسلم بمكة موطن جده النبى إسماعيل بن إبراهيم ليكون نبى آخر الزمان كان بحسب المشيئة الإلهية ووفقًا للاجتهادات فى هذا الشأن بمثابة تكريم للنبى إسماعيل في شخص حفيده محمد بقدر ما يمكن اعتباره المساواة فى النبوة بين إسحق أبى يعقوب وشقيقه من الأب إسماعيل بل المزيد من التكريم له فى أن يكون حفيده محمد آخر الأنبياء والمرسلين حاملا آخر الكتب السماوية الباقية إلى آخر الزمان.
<<<
الأمر الآخر الذى ينطوى على دلالة بالغة الأهمية في سياق المشيئة الإلهية وهى أن مجىء النبى محمد من مكة ومن قبيلة قريش أهم وأكبر قبائل الجزيرة العربية بحكم رعايتها لبيت الله الحرام منذ عهد النبى إسماعيل.. كان تكريمًا وتشريفًا للعرب والذين اختصهم الله سبحانه وتعالى بأن يكون منهم آخر الأنبياء والرسل، مثلما كان نزول القرآن الكريم آخر الكتب السماوية بلسان عربى مبين تكريمًا وتشريفًا آخرين بحسبان أنه يُتلى وسيظل يُتلى حتى آخر الزمان باللغة العربية حتى من جانب الأمم الأخرى المسلمة التى لا تتحدث العربية وذلك هو الإعجاز الذى يتميز به القرآن الكريم.
غير أن هذا التشريف لم يكن ولا يجوز أن يكون مدعاة للاستعلاء العربى على المسلمين من غير العرب إذ إنه وبحسب الحديث النبوى الشريف «لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح».
<<<
قراءة المشهد السياسى والاجتماعى فى مكة قبل وبعد مولده صلى الله عليه وسلم تشير إلى خصوصية تلك الفترة، إذ جاء مولده فى العام الذى عرف بعام الفيل، حيث أخطر الحوادث التى شهدتها مكة والعرب عندما غزاها أبرهة الأشرم ملك الحبشة قاصدًا هدم الكعبة حتى ينصرف عنها الحجيج العرب ويكون البناء الذى أسماه القليس بديلا عنه، وهو الحادث الذى تجلت فيه القدرة الإلهية بمعجزة الطير الأبابيل التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم، وحيث كانت هذه المعجزة الإلهية بشارة خير على مكة بمولده صلى الله عليه وسلم.
المعجزة الأخرى كانت بافتداء أبيه عبدالله من الذبح بحسب الرواية المعروفة وحيث كان تكرارا لافتداء جده إسماعيل من الذبح أيضًا، وبعد نجاته كان زواجه من السيدة آمنة بنت وهب ثم وفاته بعد أن حملت منه بمحمد.
<<<
فى تلك الفترة كانت مكة أهم بلدة فى جزيرة العرب بحكم أنها بلد بيت الله الحرام الذى يأتيه الحجيج من أرجائها مثلما كانت المحفل الثقافى العربي وأسواق الشعر ومنها سوق عكاظ فى الوقت الذى كان اقتصادها معتمدًا على التجارة من وإلى الشام واليمن، ومن ثمَّ فإنه يمكن القول إنها كانت عاصمة الجزيرة العربية.
فى هذه البيئة ولد صلى الله عليه وسلم يتيمًا بعد موت أبيه، ثم كان يتيما وهو فى السادسة بعد موت أمه، ثم يتيما مرة أخرى بعد موت جده عبدالمطلب وهو فى الثامنة، وبفقدان جده الذى كان زعيم قريش ومكة كلها اكتملت أحزان ذلك الصبى محمد.
<<<
ومن اللافت أن الأحزان الشخصية كانت العامل المشترك طوال عمره صلى الله عليه وسلم ومن قبل مولده، إذ إنه فقد فى عام واحد وهو العام الثامن من بعثته كلاً من زوجته السيدة خديجة بنت خويلد التى كانت عونًا له وسندًا قبل بعثته وبعدها وعمه أباطالب الذى أضفى عليه الحماية فى مواجهة كفار قريش، وهو العام الذى وصفه بعام الحزن، كما أنه فقد فى بداية حياته الزوجية ابنه الأول القاسم ثم ابنه عبدالله، وفى المدينة فى أواخر عمره فقد ابنه الثالث والأخير إبراهيم من زوجته ماريا القبطية والذى ودعه فى خشوع يُقتدى بقوله: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
<<<
كان اسم محمد جديدًا عند العرب إذ لم يتسمَ به أحد من قبل باستثناء ثلاثة فقط بحسب بعض الروايات بعد أن شاع أن النبى المنتظر اسمه محمد بحسب ما جاء فى التوراة والإنجيل، وبحسب جده عبدالمطلب الذى اختار له هذا الاسم فإنه أراد أن يكون محمدًا فى الأرض ومحمودًا فى السماء، بينما اسم أحمد الذى ورد ذكره فى القرآن الكريم على لسان المسيح عليه السلام «ومبشرًا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد» مشتق من محمد وهو بصيغة أفعل أى كثير الحمد.
<<<
ولأنه ابن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، فإنه سليل بنى هاشم أطهر وأشرف بيوت قريش كلها وهو كما قال عن نفسه ظللت أتنقل بين أصلاب أطهر الرجال وأرحام أطهر النساء فأنا خيار من خيار من خيار، وفى ذلك دلالة على أنه خير الخلق أجمعين، بينما كان يُتمه إشارة إلى أنه سيكون أكثر الناس جميعًا رحمة بالإنسان وبالحيوان بل بالجماد أيضًا حيث إنه عندما سمع أنين وبكاء جذع النحلة الذى كان يخطب عليه نزل من فوق المنبر واحتضنه حتى هدأ وتوقف عن البكاء، فهو صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة للبشرية كلها.
<<<
ولقد كانت المعجزات التى تواكبت مع مولده وهى غير معجزات النبوة لاحقا استشرافا لأنه سيكون النبى المنتظر بداية من رؤية أمه السيدة آمنة لنور يخرج من بين رجليها لحظة ولادته يضىء الدنيا، ثم بزوغ نجم أحمد فى سماء تلك الليلة الذى شاهده وتعرَّف عليه أحبار اليهود حسبما عرفوا من التوراة، ثم معجزة شق صدره وهو فى سن العامين عندما كان فى بيداء بنى سعد، حيث كان رضيعًا لديهم وحيث خافت عليه مرضعته السيدة حليمة فأرجعته إلى أمه وإن كانت عادت وأعادته مرة أخرى وظل لديها حتى سن الخامسة بعد أن رأت الخير الذى حلّ بهم ببركته صلى الله وسلم منذ مجيئه إليهم.
< < <
الملحظ الآخر هو علامات وبشائر الخير التى اقترنت بمولده صلى الله عليه وسلم وأولها أن أمه اسمها آمنة وأباه اسمه عبدالله وأن حاضنته اسمها أم أيمن ومرضعته اسمها حليمة من بنى سعد، وجاريته التى أعتقها عمه أبولهب فرحًا بعد أن بشرته بمولده اسمها بركة، ومن المثير حقًا أن أبا لهب الذى فَرِّحَ بمولده كان بعد ذلك أشد قريش عداوة له بعد بعثته وهو الذى نزلت فى شأنه سورة من القرآن تتوعده بعذاب النار «تبت يد أبى لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارًا ذات لهب واِمرأته حمالة الحطب فى جيدها حبل من مسد» ولعلى أجتهد وأحسب أن زوجته أروى هذه هى التي كانت المُحرض على عداوته والله أعلم.
<<<
إن مولده صلى الله عليه وسلم قبل خمسة عشر قرنًا هجريًا، إلا عامين، كان بشارة وإيذانًا باقتراب مجىء رسول الإسلام نبى آخر الزمان وخاتم الأنبياء والمرسلين بدين السلام والعدل والحق والخير لهداية البشر جميعا إلى عبادة الواحد الأحد الذى يدعو إلى السماحة ومكارم الأخلاق ونبذ الظلم.. ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
<<<
فى الاحتفال بمولد النبى صلى الله عليه وسلم لإحياء تلك الذكرى العطرة فإن الحقيقة هى أن هذه الذكرى هى التى تحيينا وتحيى قلوب المسلمين ووجدانهم بقدر ما يستدعون ويتدارسون سيرته وسنته المشرفة، حيث إن فيها الأسوة الحسنة والأخلاق العالية الرفيعة التى تركها الرسول الكريم لهم ليتمسكوا بها مع تمسكهم بالقرآن الكريم بحسب ما جاء في آخر وصاياه للأمة فى حجة الوداع «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا.. كتاب الله وسنتى».
<<<
فى الاحتفال بمولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم تبقي وقفة ضرورية ردًا على هؤلاء المتنطعين باسم الدين الذين يتجرأون ويحرّمون الاحتفال بالمولد الشريف، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أول من احتفل بمولده عندما سأله الصحابة عن سبب صومه يوم الاثنين من كل أسبوع فقال: هذا يوم ولدت فيه، ولذا كان لزامًا على المسلمين تأسيًا واقتداءً به صلى الله عليه وسلم الاحتفال بهذه الذكرى الخالدة كل عام.