د.محمد فراج يكتب : قوانين السوق.. أم قانون الغاب؟!
مصطلحات وتعبيرات مثل «قوانين السوق» و«قوانين الاقتصاد الحر» وما شابهها أصبحت رائجة بشكل متزايد في مجتمعتنا منذ بدء تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في أواسط السبعينيات، تلك السياسة التى أطلق عليها كاتبنا الكبير الراحل أحمد بهاء الدين اسم «انفتاح السداح مداح» أى الانفتاح المنفلت غير الخاضع للرقابة، وتبدو هذه الكلمات ذات مظهر علمى صارم وبراق، إلا أنها أصبحت بمرور الوقت تعبّر بصورة متزايدة عن مضمون لا علاقة له بالمفاهيم العلمية للاقتصاد التي وضعها آدم سميث ودينين ريكاردو وغيرهما من آباء علم الاقتصاد، ولا بقوانين السوق التي تعرفها أعرق المجتمعات الرأسمالية وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.
فوفقا للمفاهيم التى أصبحت شائعة بل سائدة للأسف الشديد تعنى لدى غالبية «علماء» و«خبراء» الاقتصاد - فضلا عن ممثلي القطاع الخاص ولاسيما في مجال التجارة والتصدير والاستيراد- أولا وقبل كل شيء تصفية ما تبقي من قطاع الدولة، وخروج الدولة ليس من مجال الإنتاج فحسب بل ومن مجال ضبط وتنظيم الاقتصاد عموما، وممارسة الرقابة علي الأسواق!! ونراهم يختزلون مفهوم اقتصاد السوق إلى المطالبة «بترك كل شىء للعرض والطلب» وألا تتدخل الدولة في العلاقة بينهم وبين المستهلكين ولا تمارس أى رقابة على السوق ولا تتدخل إلا فيما يحقق مصالحهم من توفير مستلزمات الإنتاج والعملة الصعبة بأسعار الصرف المناسبة، وتقديم القروض وتغطية عمليات الاستيراد وتوفير الخدمات الضرورية لمشروعاتهم.. إلخ.
ولا يهتم هؤلاء بالآثار الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة لمفاهيمهم تلك على مجمل الاقتصاد الوطنى وآفاق تطوره وانعكاسات ذلك كله على الأمن القومى للبلاد، مادامت مصالحهم الضيقة والمباشرة تتحقق وما داموا يجنون الأرباح الفائقة ولا يريدون حتى أن يسددوا الضرائب أو يدفعوا ما عليهم من التزامات تجاه الدولة والمجتمع بدليل ما نراه من انتشار لظاهرة التهرب الضريبى وتخلف كبار العملاء عن سداد التزاماتهم.
والحقيقة أنه مع إقرارنا بالآثار السلبية لجائحة كورونا وللحرب الأوكرانية وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي، وعلى الاقتصاد المصرى بالتبعية فإن شيوع مثل هذه المفاهيم الخاطئة والمبتذلة عن اقتصاد السوق، وانعكاساتها العملية في حياتنا هو من الأسباب الهامة للأزمة الاقتصادية والمعيشية الطاحنة التي تعانى منها بلادنا.
قوانين السوق المفترى عليها
والواقع أن قوانين الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق كما وضعها رواد علم الاقتصاد كما يجرى تطبيقها في أكبر البلدان الرأسمالية هى مجموعة متكاملة من القوانين والمفاهيم التى تهدف إلى تعظيم «ثروة الأمم» حسب عنوان الكتاب الشهير الذى وضعه مؤسس الاقتصاد السياسى آدم سميث وحسب الإضافات والتعديلات التي أضافها رواد علم الاقتصاد التالون لسميث ريكاردو حتى كينز وهى قوانين ومفاهيم متكاملة ومترابطة لا يمكن الأخذ ببعهضا ونبذ بعضها الآخر. وهى تجد ترجمتها في عديد من التشريعات القانونية لمختلف البلدان والمجتمعات.
فقانون العرض والطلب مثلا كمحدد أساسى للأسعار لا يمكن تصوره بدون حماية حقوق المستهلكين في الحصول على سلعة جيدة مطابقة للمواصفات القياسية المعترف بها في المجتمع والموثقة واعتبار مخالفة ذلك نوعًا من الغش التجارى الذي يعاقب عليه القانون وإذا كان المستهلك غير قادر على شراء السلعة أو الخدمة الأفضل وموافقاً على شراء سلعة أو خدمة بمواصفات أقل، فإن هذا ينعكس بالطبع على سعرها، وتسهر هيئات الرقابة الحكومية بصورة خاصة على ضمان سلامة المنتجات من الناحية الصحية وألا تكون ضارة بالصحة العامة للمستهلكين. كما تراقب جمعيات الدفاع عن حقوق المستهلكين مواصفات الإنتاج والارتفاع غير المبرر للأسعار، كما يمكن أن تنظّم عمليات مقاطعة فعالة لبعض السلع أو لبعض المنتجين أو التجار ويفعل قانون العرض والطلب فعله في إطار هذه الضوابط وغيرها، مع ملاحظة أنه لا توجد عوائق قانونية أو بيروقراطية في مواجهة جماعات الدفاع عن حقوق المستهلكين وأن هيئات الرقابة الحكومية يخضع نشاطها بدوره لرعاية المجالس المحلية والبرلمانات.
ومن ناحية أخرى فإن حرية المنافسة هى أحد القوانين الأساسية لتنظيم النشاط الاقتصادى فليس مسموحا لشركة منتجة أو تجارية بالسيطرة على نسبة احتكارية لإنتاج أو تجارة هذه السلعة أو تلك، لأن المنافسة هى إحدى ضمانات التقدم التكنولوجى وتطوير الإنتاجية لما فيه مصلحة الاقتصاد عموما، باعتبار أنها تؤدى إلى خفض التكلفة وزيادة الأرباح ومن ثمَّ إمكانية انخفاض الأسعار لجذب مزيد من المشترين والدخول في دائرة الاحتكار تعاقب عليه القوانين بغرامات فادحة أو بتقسيم أنشطة الشركة الاحتكارية، أو بالعقوبتين كما رأينا مثلا في حالة شركة «إى تى آند تي» الأمريكية للاتصالات، أو في حالة مايكروسوفت.
واحترام الملكية الخاصة يمتد إلى حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وهذا أحد محفزات المنافسة ولكن إذا أدى لظهور حالة احتكارية فإنها تكون محلاً للعقاب القانونى
<<<<<<<
هكذا تعمل قوانين السوق الحرة في ترابط وتكامل مع بعضها البعض، الأمر الذى يسمح بمعالجة الاختلالات الاقتصادية وعدم استطالة تأثيراتها السلبية، وبديهى أن هذا لا يمنع من حدوث الأزمات الاقتصادية الحادة أو الكبرى لأسباب تخرج عن نطاق مقالنا.
لكن الحرية المنفلتة في رفع الأسعار حسب أهواء ومصالح المنتجين أو إخفاء السلع وتعطيش الأسواق «كما ترى في بلدان العالم الثالث» بهدف احتكارها، وخلق سوق سوداء تباع في السلع بأضعاف أسعارها «كما نرى في أزمة السجائر مثلا» فهذه كلها جرائم اقتصادية ترفضها وتُعاقب عليها قوانين أى بلد متحضر.. ولا يمكن الحديث هنا عن حرية العرض والطلب أو الاقتصاد الحر! كما نسمع من البعض في مصر! بل ويصل الأمر إلى حد المطالبة بما يمكن تسميته «طرد الدولة من السوق»! وإغلاق المجمعات الاستهلاكية وترك الحبل علي الغارب لمافيا التصدير والاستيراد، بما يؤدى إليه ذلك من ضغط علي موارد الدولة الدولارية المحدودة، وتفاقم للتضخم يسحق الطبقات الفقيرة، ويؤدى لتآكل ما تبقى من قدرة شرائية للطبقة الوسطى.. وكل ذلك لصالح فئة من الاحتكاريين وهذه كلها أمور لا علاقة لها إطلاقا بقوانين السوق بل إنها تطبيق «قانون الغاب» أو لشكل من أسوأ أشكال الرأسمالية المتوحشة.
رقابة الدولة ضرورة حتمية
إن مثل هذه المفاهيم وما يترتب عليها من آثار لها تأثيرات سلبية بالغة الفداحة فهي تؤدى إلى تفاقم نسبة الفقر وزيادة السخط الاجتماعى بما له من انعكاسات سلبية على الأمن القومى كما أنها تؤدى إلى إضعاف القدرة الشرائية للغالبية الساحقة من المواطنين، الأمر الذى يؤدى بالتبعية إلى إبطاء الدورة الاقتصادية، وإلي آثار مدمرة على الاقتصاد القومى وبالتالي على الأمن القومى. ويحدث ذلك في ظل تحديات كبرى في المنطقة والعالم، بما يستدعى مواجهة مثل هذه المفاهيم وانعكاساتها في الواقع الاجتماعى والاقتصادى للبلاد.
لذلك ندعو إلى ضرورة تدخل الدولة بصورة عاجلة للتصدى لهذه الممارسات غير المسئولة وغير الوطنية سواء بمنع تصدير بعض السلع لفترات مناسبة «كما حدث في حالة منع تصدير البصل لثلاثة أشهر» أو بتحديد هامش ربح معقول بالنسبة لأسعار السلع الأساسية «تسعيرة استرشادية» ومراقبة تطبيق هذه التسعيرة، وتغليظ العقوبة علي إخفاء السلع وجميع الممارسات الاحتكارية، ومعروف أن دولا كثيرة منعت تصدير بعض السلع الاستراتيجية وقت تفشى جائحة «كورونا»، وفي بداية الحرب الأوكرانية، ونحن لا نتحدث هنا عن السياسات الاقتصادية العامة فهذا خارج نطاق مقالنا وإنما نتحدث عن إجراءات ضرورية لحماية اقتصادنا ومجتمعنا من الأخطاء الناجمة عن عبث فئات مستغلة لا تبالى بشيء غير تحقيق أرباح فاحشة على حساب مصلحة الوطن والشعب، وفى ظل ظروف إقليمية ودولية لسنا بحاجة إلى تكرار شرحها. وأما الذين يرفعون عقيرتهم بالصباح حول فهمهم المشوه والمنحرف لقوانين السوق فيجب أن يقال لهم إن ما تدافعون عنه هو «قانون الغاب» ولن نترك مصر والمصريين فريسة له ولكم.
حفظ الله مصر وشعبها من كل سوء.