د.محمد فراج يكتب : ٨٠ عامًا من العلاقات المصرية - الروسية إنجازات وفرص وتحديات (١ – ٢)
ثمانون عامًا مرت، منذ أيام قليلة، على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وروسيا ـ الاتحاد السوفيتى وقتها ـ (فى ٢٦ أغسطس ١٩٤٣)، وقد تم الاتفاق على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وموسكو فى ذروة الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ - ١٩٤٥).. وكانت الانتصارات الكبرى التى حققتها القوات السوفيتية على النازية الألمانية (معركة موسكو - ومعركة ستالينجراد ومعركة كورسك) قد ألحقت خسائر هائلة بالجيوش الألمانية، وانتقلت الجيوش السوفيتية من الدفاع إلى الهجوم وأصبح واضحًا أن الاتحاد السوفيتى سيصبح بعد انتهاء الحرب إحدى القوى العظمى فى العالم، ولم يعد هناك معنى للاستمرار فى تجاهل موسكو، ذلك التجاهل الذى كان الاحتلال البريطانى يفرضه على مصر، بسبب العداء الغربى للسوفييت، وبالنسبة للحكومة المصرية (حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا وقتها) فقد كان واضحًا أن مصر ستخوض معركة سياسية كبرى بعد نهاية الحرب العالمية، من أجل تحقيق جلاء قوات الاحتلال البريطانى عن بلادنا، وانتزاع الاستقلال التام، وأن هذا يقتضى ترتيب أوضاع علاقاتنا الدولية استعدادًا لهذه المعركة.. وفى هذا السياق تقدمت الحكومة المصرية بمبادرة إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتى.
كتبنا هذه المقدمة الطويلة لنوضّح أن العلاقات بين القاهرة وموسكو (السوفيتية ثم الروسية) لم تكن منذ بدايتها بعيدة عن الضغوط ومحاولات التأثير الغربية - البريطانية أولا ثم الأمريكية والأوروبية المختلفة فى مراحل لاحقة- كما أنها لم تكن بعيدة عن الضغوط الإقليمية وخاصة الإسرائيلية.
وقد شهدت تلك الأعوام الثمانون تقلبات ومراحل مختلفة من الحرارة والفتور وحتى الصدام (فى فترات محددة من حكم السادات بصورة خاصة) لكنها برهنت على فائدتها المتبادلة للطرفين، وتغلبت على المشكلات العابرة، لتصبح إحدى العلامات البارزة فى علاقات مصر الدولية، وعلاقة روسيا بالشرق الأوسط وأفريقيا، حتى اليوم ولتكون إحدى ركائز تحقيق التوازن فى علاقاتنا الدولية وتنويع الخيارات الاستراتيجية لصانع القرار المصري.
محطات مفصلية.. ونقاط اختبار
وكان أول اختبار حقيقى للعلاقات بين القاهرة وموسكو هو اختبار الإمداد بالسلاح، فبعد ثورة يوليو سعت الولايات المتحدة لإلحاق مصر بالأحلاف الاستعمارية فى المنطقة (حلف بغداد، والحلف المركزى وغيرها) التى كانت تهدف لحصار الاتحاد السوفيتى وترسيخ الوجود الغربى من خلال القواعد العسكرية ومختلف أشكال الهيمنة وتأكيد التبعية، لكن سياسة مصر كانت رافضة بصورة قطعية للانضمام للأحلاف. فرفضت أمريكا تسليح الجيش المصرى، الذى كان بمسيس الحاجة للسلاح عمومًا والسلاح الحديث خصوصًا، إلا بشرط الانضمام للأحلاف، والأكثر من ذلك أنها دفعت إسرائيل لشن الهجمات على قواتنا فى سيناء، وعلى قطاع غزة الذى كان خاضعًا وقتها للإدارة المصرية.
ونشأ وضع حرج كان لابد من تجاوزه بسرعة، فجاءت الوساطة الصينية ليوافق الاتحاد السوفيتى على إمداد مصر بالسلاح، فيما عُرف بـ"صفقة الأسلحة التشيكية" حيث وصلنا السلاح السوفيتى عبر تشيكوسلوفاكيا، مع توفير فرصة التدريب عليه، وكانت هذه أول خطوة لتحديث الجيش المصرى بعد ثورة ١٩٥٢.
ثم أعلن البنك الدولى رفضه لتمويل بناء السد العالى عام ١٩٥٦، وجاء الإعلان عبر بيان أمريكى يشكك فى قدرة مصر على القيام بأعباء المشروع.
وجاء الرد بسرعة بإعلان مصر تأميم قناة السويس لاستخدام عائداتها فى بناء السد (٢٦ يوليو ١٩٥٦) وأعلن الاتحاد السوفيتى استعداده لمساعدة مصر فى بناء السد وتمويل المشروع، ودون دخول فى تفاصيل أصبحت معروفة، بدأت الدراسات وتم وضع حجر الأساس للمشروع عام ١٩٦٠ وتم تنفيذه فعلا خلال سنوات بمساعدة الخبراء والفنيين السوفييت. ولسنا بحاجة للإفاضة فى شرح الفوائد بالغة الأهمية التى ترتبت على بناء السد العالى، من حماية للبلاد من أخطار الفيضان والجفاف، وتوسيع رقعة الأراضى الزراعية، وكهربة الريف المصرى.. إلخ إلخ.
>> والنقطة المهمة التى لابد من ذكرها هنا.. والتى رافقت مسيرة المشروعات السوفيتية ثم الروسية فى مصر، هى نقطة "توطين التكنولوجيا" من خلال إشراك المهندسين والفنيين والعمال المصريين فى بناء المشروع، ثم فى إدارته، بالصورة التى تسمح لهم بإدارته منفردين.. وبما يقتضيه ذلك ـ حسب أوضاع كل مشروع ــ من إرسالهم للدراسة والتدريب في روسيا، في منح دراسية مجانية.
التصنيع المدنى والعسكرى
وساعد الاتحاد السوفيتى مصر فى إقامة أكثر من ٢٠٠ مشروع اقتصادى غالبيتها مشروعات صناعية كبرى مثل مجمع الحديد والصلب بحلوان ومصنع الكوك، ومجمع الألومنيوم بنجع حمادى والترسانة البحرية بالإسكندرية، وشركة المراجل البخارية، ومصنع «سيماف» لعربات السكك الحديدية، والصناعات الكيماوية وغيرها كثير.
كما ساعد «السوفيت» بالخبرة والتكنولوجيا فى إقامة عدد كبير من المصانع الحربية التى أصبحت تمثل قاعدة قوية للصناعات العسكرية المصرية.
وبالإضافة إلى ذلك قدم الاتحاد السوفيتى المساعدة فى إقامة مشروعات لتعدين الفوسفات والحديد ومد خطوط نقل الكهرباء، وغير ذلك من المشروعات التنموية التى أتاحت لمصر بناء قاعدة صناعية واسعة ومتنوعة خلال سنوات قليلة فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى.
ومرة أخرى لابد هنا من الإشارة إلى ميزة توطين التكنولوجيا وتدريب الخبراء والمهندسين والفنيين وإتاحة المنح الدراسية لهم فى الجامعات ومراكز الأبحاث السوفيتية.
كما أن من الضرورى هنا الإشارة إلى الأسعار المعقولة للتكنولوجيا السوفيتية (والروسية) مقارنة بمثيلتها الغربية، وإلى تيسيرات الدفع، حيث إن القروض المقدَّمة لإقامة المشروعات كان يتم تسديدها بعد أن تبدأ هذه المشروعات فى الإنتاج وبنسبة فائدة ضئيلة.. وهذه حقائق.
من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٣
بعد هزيمة ١٩٦٧ كان للاتحاد السوفيتى دور مشهود فى إعادة تسليح الجيش المصرى، وهو ما استمر طوال فترة حرب الاستنزاف، وشارك الخبراء السوفيت فى بناء حائط الصواريخ على جبهة القناة لمواجهة الاعتداءات المتكررة من جانب الطيران الإسرائيلى على قواتنا، وإقامة منطقة آمنة لعبور قواتنا إلى سيناء تحت حماية صواريخ الدفاع الجوى، كما شاركوا فى إقامة منظومة دفاع جوى لحماية الأهداف الاستراتيجية داخل البلاد. وشارك طيارون سوفيت في حماية الأجواء المصرية جنبًا إلى جنب مع طيارينا خلال السنوات الأولى لحرب الاستنزاف، حتى تم إعداد العدد الكافى من نسور الجو المصريين.
وخاضت قواتنا المسلحة حرب أكتوبر، وحققت النصر فيها بالسلاح السوفيتى، وهذه كلها حقائق مهمة لا يمكن نسيانها وسيحتفظ بها تاريخ العسكرية المصرية وتاريخ الصداقة بين الشعبين.
<<<
وقد شهدت السنوات التالية لحرب أكتوبر فترة توتر فى العلاقات بين الطرفين، انتهت بإلغاء الرئيس الأسبق أنور السادات لمعاهدة الصداقة والتعاون المصرية - السوفيتية (١٩٧٦)، واستمر الشد والجذب بين الطرفين لعدة سنوات بسبب الخلاف حول بعض القضايا الإقليمية والدولية، حتى تولى الرئيس الأسبق مبارك الحكم، وانتهج سياسة للتهدئة سواء في الداخل أو فى علاقات مصر الدولية، وانتهت فترة التوتر فى العلاقات المصرية - الروسية، إلاّ أن «الفتور» ظل طابعًا عامًا لها، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى (نهاية عام ١٩٩١) وتدهور أوضاع روسيا وانكفائها على نفسها. وحتى بعد الإطاحة بيلتسين ومجىء بوتين إلى الحكم وبدء تنشيط الدبلوماسية الروسية، ظل الفتور طابعًا مسيطرًا على العلاقات بين البلدين.. إلى أن جاءت ثورة ٣٠ يونيو لتسجل بداية مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين.. مرحلة تتسم بحيوية شديدة، وحافلة بالإنجازات.. وهو ما سنتحدث عنه فى مقالنا القادم بإذن الله.