اسامة ايوب يكتب : المشهد فى الساحل الشرير مثير للقلق المجتمعى
تحت عنوان «ثم لتُسئلّن يومئذٍ عن النعيم».. كتبت قبل أكثر من عشرين عامًا مستشهدًا بالآية الكريمة عن حفل زفاف أسطورى أقامه أحد كبار رجال الأعمال «من الشرفاء» لابنته التى تزوجت من نجل شخصية دبلوماسية سياسية محترمة وشهيرة، حيث بلغت تكلفة الحفل ملايين الجنيهات بأسعار ذلك الزمن.
وفى ذلك المقال قلت إنه مع الإقرار بحق الأثرياء الشرفاء فى ممارسة حياتهم تعبيرًا عن ثرائهم وإظهارًا لفرحهم بزواج أبنائهم طالما أن مصدر أموالهم مشروعة، إلا أن ما سمعته من أحد من حضروا الحفل والذى حكى لى عن مظاهر البذخ المفرط المبالغ فيه جدًا وإلى درجة السفه كان مثيرًا للاستفزاز والاستنكار.
تكلفة ذلك الحفل التى بلغت ملايين الجنيهات من بينها مليونا دولار أجر مطرب أغانى بورنو أمريكى غير مصروفات إقامته فى الفندق.. تضمنت أسعار الأطعمة والمشروبات التى جرى شراؤها من باريس ونقلها بالطائرة مباشرة إلى القاهرة، إضافة إلى استضافة المدعوين من خارج مصر الذين حملتهم طائرة خاصة إلى الحفل.
<<<
اللافت فى هذا الحفل الأسطورى الذى تداولت الأوساط العليا أخباره ومظاهره هو أن والد «العريس» تلك الشخصية الدبلوماسية الشهيرة التى ظلت تحظى باحترام وتقدير عموم المصريين كان معلومًا عنه التواضع الجم والبعد عن سلوكيات ومظاهر الأبهة، حيث كان يشاهد وهو يسير فى شوارع القاهرة على قدميه ويستخدم المترو «مترو مصر الجديدة وقتها» فى تنقلاته من بيته إلى ميدان التحرير، حيث مكتبه بوزارة الخارجية بمقرها القديم، ولذا فإنه لا يُلام على ذلك البذخ الذى تحمل تكلفته الطرف الثانى والد العريس شديد الثراء، والذى يُشهد له فى نفس الوقت مساهماته الكبيرة فى أعمال الخير ورعاية المرضى من الفقراء، وهو الأمر الذى يعكس حرصه المحمود على تسديد حق المجتمع عليه من أمواله الطائلة والتى جمعها من طريق حلال ومن خلال مصانعه وشركاته وإنتاجها داخل وخارج مصر.
>>>
ورغم أن مثل هذا الحفل كان أمراً متكررًا ومعتادًا فى مصر في ذلك الوقت ومن ثمَّ فإنه لم يكن مسلكا غريبا لهذه الطبقة، ورغم أن تكلفته تبدو معقولة نسبيا بمقاييس ذلك الزمن، بينما تُعد ضئيلة بمقاييس الزمن الحالى بعد ربع قرن، إلا أن ما دفعنى إلى الكتابة عنه مستنكرا هو الاستناد إلى قيمة الاعتدال ونبذ الإنفاق السفيه والتفاخر البغيض بالمال في مجتمع كان يعانى من صعوبة مواجهة متطلبات الحياة الضرورية وهو الأمر الذى يستدعى أن يراعى الأثرياء أوضاع مجتمعهم تجنبًا لإثارة البغضاء ضدهم، ولذلك كان استشهادى بالآية الكريمة «ثُم لتسئلن يومئذ عن النعيم».
<<<
أما الذى استدعى إلى ذاكرتى ما كتبته عن ذلك الحفل قبل نحو ربع قرن فهو ما يشهده الساحل الشمالى مؤخرًا من سلوكيات ومظاهر بذخ مذموم وإنفاق مبالغ فيه يصل إلى درجة السفه يمارسها رواده ممن يعتبرون أنفسهم طبقات عليا وعلى العكس تمامًا مما هو مفترض فى سلوكهم ليكون أكثر رقيًا فى التعبير عن ثرائهم الكبير.
لقد كان معلومًا حتى سنوات قليلة مضت أن الساحل الشمالى أغلى مناطق المصايف فى مصر بعد أن صار مقصدًا للأثرياء جدًا من الطبقات العليا الذين استعلوا على الإسكندرية والعجمى والمعمورة والمنتزة وهجروها وتركوها لأبناء الطبقة المتوسطة.
<<<
الجديد الذى علمته مؤخرًا جدًا هو أن الساحل الشمالى مقصد الأثرياء فى الصيف صار ساحلين.. الأول القديم والذى يُطلق عليه الساحل الطيب والثانى الأحدث والذى يطلق عليه الساحل الشرير والذى استمد اسمه من مستوى الأسعار الجنونية ومن حجم إنفاق رواده على الإقامة والتنزه على شواطئه والطعام والشراب وهو أمر لا يمكن تصديقه كما لا يمكن تصوّر أن فى مصر هذه الأيام من ينفق يوميًا ما يزيد على ما بين ١٥ ألف إلى ٣٠ ألف جنيه والعهدة على من يروى فى الصحف وعلى شاشات التليفزيون.
ما يشهده الساحل الشمالى الشرير حاليا من سلوكيات ومظاهر بذخ وإنفاق منفلت غير سوى إنما يعكس فى حقيقة الأمر أن ثمة طبقة عليا شديدة الثراء مستجدة ظهرت مؤخرا فى المجتمع المصرى تمارس التعبير عن ثرائها المستحدث على نحو فج وسفيه وحيث بدت كما يقال فى التراث الشعبى «محدثة نعمة».
<<<
الخطير أيضا فى مشهد الساحل الشمالى الشرير هو سلوكيات أبناء هذه الطبقة من الشباب والفتيات الذين هم فى سن المراهقة، حيث ينفق أحدهم يوميا ما بين ٣ آلاف جنيه و٥ آلاف جنيه كمصروف شخصى على التنزه على الشواطئ والمطاعم والكافيهات، وهذا السلوك فى الإنفاق السفيه من شأنه أن يفقد هؤلاء الشباب قيمة المال الذى يحصلون عليه من آبائهم والذين لا يُدركون أنهم يفسدون أبناءهم بقدر ما يفسدون مستقبلهم من حيث أرادوا إسعادهم بالمال الوفير.
<<<
الذى يؤكد إفساد هؤلاء الشباب والفتيات من أبناء هذه الطبقة المستجدة محدثة الثراء أنهم يتباهون بإنفاقهم السفيه حسبما قرأت فى مقال بجريدة الأخبار قبل أيام، إذ حكى كاتب المقال أن هؤلاء يفتخرون ببلاهة شديدة أنهم على سبيل المثال يفضلون شراء زجاجة المياه المعدنية الصغيرة وهم جالسون على الشاطئ بأكثر من ٢٠٠ جنيه، بينما ثمنها فى أقرب سوبر ماركت لا يزيد على ١٥ جنيها، وأنهم سعداء بأنه يتم استغفالهم وهو ما وصفه الكاتب بـ«متلازمة الاستغفال» وإن كان الوصف الصحيح هو «متلازمة السفه».
<<<
مرة أخرى إنه مع الإقرار بحق الأثرياء ومنهم الأثرياء الجدد فى التمتع بأموالهم وإنفاقها كما يريدون وحيثما يريدون خاصة إن كان مصدر هذا الثراء عن طريق مشروع وحلال، لكن يبقى ضروريا فى نفس الوقت أن يتسم التعبير عن هذا الثراء بالسلوكيات الراقية دون أن تنحدر إلى التفاخر والتباهى بالسفه فى الإنفاق وعلى ذلك النحو المعلن والمستفز الذى يثير الاشمئزاز والاستنكار بحسبانه ينطوى على الاستعلاء بالمال على الآخرين من خلال التفاخر بالإنفاق السفيه والذى ينطوى فى واقع الأمر على أمراض اجتماعية خطيرة.
ولذا فإن مظاهر البذخ المبالغ فيه وسلوكيات السفه فى الساحل الشرير والذى تفشى واستشرى الحديث عنه وعلى النحو الذى يثير غضب وحنق بقية المصريين على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية والاقتصادية.. كان يتعين أن يكون مستورا قليلا وبعيدا عن الإعلان والإعلام المثير.
<<<
المثير للقلق وهو قلق مشروع هو ذلك التناقض الصارخ بين ما يحدث فى الساحل الشرير وبين معاناة الغالبية العظمى من المصريين من كل الطبقات حتى الطبقة المتوسطة من أدنى شرائحها إلى أعلاها من أزمات اقتصادية ومعيشية مع الارتفاع الجنونى المستمر والمتوالى فى أسعار كل شىء خاصة أسعار الطعام والشراب والخدمات وهى المعاناة التى تضاعفت مع اقتراب دخول المدارس حيث صدمت أسعار الكتب الدراسية الخارجية الأسر المصرية التى تقف حاليًا عاجزة عن شرائها.
<<<
هذا التناقض الصارخ الذى تبدت ملامحه بين أوضاع المصريين الاقتصادية وبين أحوال ساكنى ورواد الساحل الشرير يُعد مؤشرًا مهما، إذ يعنى أننا بصدد بوادر انفصام مجتمعى سوف تكون له تداعيات بالغة الخطورة.. اقتصاديا واجتماعيا، وهو أمر مقلق للغاية يتعين الانتباه إليه والتنبه له، إذ من شأنه زيادة معدلات الاحتقان الاجتماعى، لذا لزم التنويه.