د. محمد فراج يكتب : ”عملة البريكس” بين الواقع والأمنيات (٢-٢)

أشرنا فى الجزء الأول من هذا المقال (الأموال - ٦ أغسطس) إلى أنه مع قرب انعقاد قمة البريكس الخامسة عشرة فى جنوب أفريقيا (٢٢/ ٢٤ أغسطس) تزايد انتشار الحديث فى الأوساط الإعلامية والاقتصادية والسياسية وخاصة فى دول العالم الثالث، عن «عملة البريكس» باعتبارها بديلاً محتملاً للدولار الأمريكى، يمكن أن يمثل خلال فترة قصيرة تحدياً لهيمنة «الورقة الخضراء» على المبادلات التجارية العالمية.
كما تحدثنا عن انتشار ظاهرة التبادل التجارى بالعملة الوطنية بين دول البريكس (وخاصة بين روسيا وكل من الصين والهند) من ناحية، وبين دول المجموعة وعدد متزايد من دول العالم، وأوضحنا أن اتساع نطاق هذه الظاهرة يلعب دورا مهمًا فى تقليص هيمنة الدولار على التجارة العالمية، وخاصة حينما يتعلق الأمر بشراء البترول والغاز اللذين ظلت أسواقهما لعقود طويلة حكرًا على الدولار فيما يُعرف بظاهرة «البترودولار»..
لكننا في الوقت نفسه أوضحنا أن مجموعة البريكس، بالرغم من أهميتها البالغة فى العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية كظاهرة مناوئة للهيمنة الأمريكية والغربية، وفى رسم ملامح مرحلة التحول من أحادية القطبية إلى تعدد الأقطاب، توجد بين أعضائها تباينات في المواقف من قضايا دولية وإقليمية كثيرة، وأنها بحاجة إلى بناء هيكل تنظيمى- غير موجود حتى الآن- وإلى مزيد من الوقت والجهد لكى تتبلور بصورة أكثر ككتلة موحدة متماسكة، وأن تدمج فى بنيتها الدول الكثيرة القوية والمهمة التى أعربت بشكل رسمى عن رغبتها فى الانضمام للمجموعة (١٦ دولة.. منها مصر والسعودية والإمارات والجزائر وإيران وتركيا واندونيسا.. وغيرها).
رحلة الألف ميل.. تبدأ بخطوة
ونجد من الضرورى هنا أن نعيد التحذير من انتشار نبرة من المبالغة في التفاؤل وخلط الوقائع بالتمنيات فى كثير من الأحاديث والكتابات حول التبادل بالعملات الوطنية، مؤداه أن الدول النامية «كأنما» يمكنها أن تستورد ما تريد من الدول الأكثر تقدمًا وتنوعًا فى الإنتاج، وتدفع مقابله بالعملة الوطنية!! وهذا وهم كبير.. ينشأ عن عدم الفهم أو عدم الدقة فى الصياغة.. فالصين أو روسيا مثلا لن تقبل ثمنا لمنتجاتها بالعملة الوطنية إلا مقابل ما تستطيع استيراده من تلك الدولة النامية بتلك العملة الوطنية نفسها، وإلا فإنها تغامر بتكديس عملات وطنية غير قابلة للتداول فى الأسواق العالمية!! وهذا أمر غير معقول، وقد شرحنا هذه المسألة بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا المقال، فلا نجد ضرورة للتكرار هنا.
لكن هذه الحقيقة لا تنفى حقيقة أخرى هى أهمية كسر احتكار وهيمنة الدولار الأمريكى على التجارة العالمية، ومن ثمَّ إضعاف الهيمنة الأمريكية والغربية عمومًا. ويكفى أن نشير إلى أن هيمنة الدولار على التجارة قد تقلصت من ٨٨٪ عام ٢٠٢٠ إلى ٨٣ عام ٢٠٢٢ أى خلال سنتين فقط، كما أن التبادل التجارى بين روسيا والصين بلغ ١٣٤ مليار دولار خلال الشهور السبعة الأولى من هذا العام، منها ٧٢ مليار دولار صادرات روسية و٦٢ مليار دولار صادرات صينية، وفي حالة متوازنة كهذه فإن التبادل بالعملات الوطنية يمثل خصمًا ملموسًا من التعامل بالدولار.
وصحيح أن كل هذه المبالغ تبدو صغيرة إذا ما قورنت بحجم التعاملات الدولارية، لكن "رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة" كما يقال.. والمهم أن العملية التاريخية لكسر هيمنة الدولار قد بدأت.
"عملة البريكس" أمر مختلف
ويختلف الأمر تمامًا فيما يتصل بـ"عملة البريكس" التى لا يتوافر أى من مقوماتها لدى المجموعة فى الوقت الحالى والمدى المنظور، فالحديث عن عملة موحدة بين مجموعة من الدول يتطلب وحدة النظم الاقتصادية والاجتماعية فيما بينها، ووجود اتحاد اقتصادى وجمركى، وسياسات اقتصادية ومالية ونقدية موحدة، وبنك مركزى موحد يُشرف علي بنوكها المركزية، التي تتنازل له طواعية عن أغلب صلاحياتها الأصلية.. إلخ.
وعلى سبيل المثال فإن التجربة الوحيدة الناجحة فى العالم فى مجال العملة الموحدة «نعنى منطقة اليورو» مرت بمراحل طويلة من التدرج نحو الوحدة الاقتصادية بدأت منذ الأشكال الأولى لتكوين الاتحاد الأوروبى عام ١٩٥٦ من ست دول فقط فى مقدمتها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، حتى نضج الاتحاد الأوروبى في السبعينات والثمانينات وانضمام أهم الدول الأوروبية إليه، بما فيها بريطانيا، وإقامة اتحاد اقتصادى ومنطقة تجارة حرة بين تلك الدول، لكى يصبح ممكنًا مع بداية التسعينات، الحديث عن توحيد عملات عدد من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى ـ وليس كلها- عبر خطوات تمهيية نظمتها «اتفاقيات ماستريخت» تتدخل فى تفاصيل السياسات الاقتصادية العامة والمالية والنقدية، بما فى ذلك السياسة الضريبية، وتحديد الحد الأقصى للنسبة المسموح بها من عجز الموازنة من الناتج المحلى الإجمالى ٣٪ ونسبة الديون إلى الناتج المحلى الإجمالى «وهوامش» التفاوت فى الإنفاق الحكومى بما فى ذلك الإنفاق الاجتماعى وحدود تدخل البنك المركزى الأوروبى في عمل البنوك المركزية للدول.. إلخ إلخ، وهو ما استغرق سنوات طويلة من المفاوضات الشاقة، قبل أن يتم إطلاق عملة «اليورو» فى الأول من يناير ١٩٩٩، بعد أن كان قد تم الاتفاق علي تحديد أسعار صرف العملات القديمة لتلك البلدان مقابل العملة الجديدة «اليورو».
ومعروف أن بريطانيا - وقد كانت وقتها عضوًا في الاتحاد الأوروبى ــ قد رفضت الانضمام إلى منطقة اليورو، كما رفضت هولندا ورفضت السويد الانضمام بعد إجراء استفتاء شعبى حول المسألة، ومع بدء دخول دول أوروبا الوسطى والشرقية إلى الاتحاد، مرت بمراحل إعادة تأهيل لاقتصاداتها لتصبح متوافقة مع معايير عضوية الاتحاد الأوروبى، ثم مراجعة لصلاحيتها للانضمام إلى منطقة اليورو، حسب المعايير الأكثر خصوصية، وخلاصة القول إن «منطقة اليورو» لا تضم الآن إلا عشرين دولة من بين سبع وعشرين دولة أعضاء في الاتحاد الأوروبى (الاتحاد الأوروبى ٢٧ دولة - ومنطقة اليورو ٢٠ دولة).. علمًا بأن صحيفيين اقتصاديين لايزالون حتى الآن يخلطون بين عضوية الاتحاد العتيد، وعضوية منطقة اليورو ويعتبرون الأمرين متطابقين!
وإذا حاولنا تطبيق المعايير المذكورة على الدول الأعضاء فى «البريكس» فسنجد أنه لا توجد أى مقومات جدية للحديث عن عملة موحدة، فهى دول متفاوتة كثيرًا فى مستوى تطورها الاقتصادى والاجتماعى، ومتوسط نصيب الفرد فى كل منها من الناتج المحلى الإجمالى، وسيزداد هذا التفاوت مع انضمام بلدان جديدة إلي المجموعة.
ومن ناحية أخرى فإن التوجهات الاقتصادية والاجتماعية ونماذج التنمية فيها شديدة الاختلاف، فالصين رأسمالية يبنيها الحزب الشيوعى، ودور الدولة في توجيه الاقتصاد فيها، والضمانات الاجتماعية للعاملين ودور الدولة فى تقديم الخدمات، يختلف كثيرًا عن دولة كالهند، التى يحكمها حزب «جاناتا» الهندوسى ذي التوجهات اليمينية الواضحة، وبالرغم من التقدم الكبير الذى حققته الهند خلال السنوات الأخيرة ومن نسب النمو المرتفعة، والاختراقات فى قطاعات كالمعلوماتية والصناعات الإلكترونية، ومن تقدمها لتحتل المركز الخامس كأكبر اقتصاد عالمى «سابقة على بريطانيا وفرنسا» فإن ناتجها المحلى الإجمالى (ثلاثة ونصف تريليون دولار) هو أقل من خمس الناتج المحلى الإجمالى للصين (١٧ تريليون دولار) المساوية لها فى عدد السكان.
وقس على ذلك التفاوتات بين الأوضاع الاقتصاية ومستوى التقدم الاقتصادى والتشريعات الضريبية والعمالية في الدول الخمس ذات التوجهات المتباينة (الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا).. وهو وضع يختلف كثيرا جدا عن الأوضاع في الدول الأوروبية، وخاصة فى أوروبا الغربية.. ولاحظ أن التباينات والاختلافات ستزيد مع دخول دول جديدة إلى «البريكس» ولاحظ أيضًا أن دول المجموعة متباعدة جغرافيا «البرازيل فى أمريكا اللاتينية، وجنوب أفريقيا فى القارة السمراء، ويوجد تواصل جغرافى بين الصين وروسيا وبين الهند والصين، لكن الدول الثلاث بعيدة جدًا عن البرازيل وجنوب افريقيا».
خلاصة القول إن جميع الشروط الضرورية لوجود عملة موحدة لدول «البريكس» غير موجودة.. ومن هنا يبدو غريبًا ذلك الحديث واسع الانتشار عن «عملة البريكس» في كتابات وأحاديث وتصريحات شخصيات إعلامية واقتصادية وسياسية يفترض فيها معرفة تلك الشروط الضرورية لإصدار عملة موحدة!!
وواضح أن الرغبة الملحة فى الخروج عن هيمنة الدولار الأمريكى وبأسرع ما يمكن، أو فى حل مشكلة نقص ما تملكه بعض دول العالم الثالث من أرصدة دولارية ضرورية لتغطية وارداتها هما اللذان يحرّكان هذه الأوهام لدى بعض من يفترض فيهم أنهم خبراء! والحقيقة أن التفكير بالتمنى Wishful thinking هنا يذهب بالبعض بعيدًا إلى حد نسيان أو تجاهل بديهيات العلم والخبرة الاقتصادية المعلومة بالضرورة (نعنى خبرة اليورو) والخلط بين الواقع والتمنيات، وهذا أمر بالغ الخطورة لأن هذا الخلط يفتح الباب على مصراعيه للأوهام ولا يحل مشكلات الشعوب.. ونعيد هنا التذكير بما أشرنا إليه فى الجزء الأول من هذا المقال، من أن مسألة «عملة البريكس» ليست مطروحة على جدول أعمال القمة الوشيكة للمجموعة، ولم تكن يومًا مطروحة على جدول أعمال أى قمة لها، أما التبادل بالعملات الوطنية فهى قضية جدية، وتوجه مطلوب توسيعه، وطريق مؤكد لتقليص هيمنة الدولار على التجارة العالمية، ضمن أساليب وتوجهات أخرى ترتبط كلها بالعمل الجاد من أجل تطوير اقتصادات الدول النامية، وتعزيز وزنها النسبى فى الاقتصاد العالمى، وهذا أمر لا مجال فيه للخلط بين الواقع والأمنيات.