د.محمد فراج يكتب : «عملة البريكس».. بين الواقع والأمنيات (١)
مع اقتراب موعد القمة الخامسة عشر لمجموعة «البريكس» في جوهانسبرج (٢٢/ ٢٤ أغسطس) يتزايد الاهتمام في الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية فى مختلف أنحاء العالم بمناقشة القضايا المتصلة بالمجموعة، وأهميتها فى الاقتصاد العالمى والعلاقات الدولية، وتأثيرها السلبى على دعاوى الهيمنة وأحادية القطبية الأمريكية والغربية، وآفاق توسع «البريكس» وجاذبيتها التي دفعت بعدد كبير من الدول المؤثرة ذات الاقتصادات الناشئة أو الصاعدة ــ حسب التعبير الشائع ــ لطلب الانضمام إليها رسميًا (١٦ دولة ـ من بينها مصر والجزائر والسعودية والإمارات المتحدة وتركيا وإيران واندونيسيا والأرجنتين وبنجلاديش وغيرها) كما دفعت دولا أخرى للإعلان عن نيتها فى طلب العضوية، وجعلت رئيس دولة غربية كبري مثل فرنسا يُعلن عن رغبته فى حضور القمة الخامسة عشرة للمجموعة، وهو طلب سيخضع للمناقشة، وربما يصطدم بفيتو روسى.
ومن أهم القضايا التى يدور حولها نقاش واسع فى الأوساط الاقتصادية والإعلامية، قضية ليست مطروحة على جدول أعمال القمة، ولم تكن مطروحة عليه يومًا.. نعنى قضية «عملة البريكس» التى تتحدث عنها الصحافة الاقتصادية وخاصة فى بلدان العالم الثالث، بل ويتحدث عنها بعض الخبراء الاقتصاديين كأمر مطروح للتنفيذ فى المدى القريب كبديل للدولار الأمريكى، أو منافس له وأداة للحد من هيمنته على التجارة وأسواق المال العالمية.
.. ونكرّر أن هذا النقاش الواسع حول «عملة البريكس» بل وعلى المدى القريب يُجرى دون أن تطرحه المجموعة نفسها على جدول أعمالها!!
مجموعة لا منظمة
ومعروف أن المجموعة اكتسبت اسمها من الحروف الأولى للدول المُكوّنة لها «البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب افريقيا/ ساوث أفريكا».. وكانت عند نشوئها عام ٢٠٠٦ تحمل اسم «بريك» ثم أصبحت «بريكس» بعد انضمام جنوب افريقيا عام ٢٠١٠، واللافت للنظر أن «البريكس» ليس لها شكل تنظيمى مؤسسى حتى الآن مثل سائر المنظمات الدولية، بل تحمل اسم «مجموعة».. ويخطئ من يُطلق عليها اسم منظمة كما يفعل البعض.. وإن كان واضحًا أنه مع التوسع المرتقب فى عضويتها لابد لها من بناء هيكل تنظيمى محدد، وربما الاتفاق علي ميثاق أو ما يشبهه.. علمًا بأن ما يجمع أعضاءها أساسا هو رفض الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم، والسعى لبناء علاقات اقتصادية وسياسية أقوى بين أعضائها، مع ملاحظة اختلاف نُظمها السياسية والاجتماعية ومواقفها من قضايا إقليمية ودولية عديدة، ووجود علاقات تنافس أو حتى خصومة بين دولتين كالصين والهند، وتقارب أكبر بين دولتين كروسيا والصين، واستمرار دولة كالبرازيل فى عضوية المجموعة بعد الإطاحة بالحكم الاشتراكى (لولا داسيلفا، وديلى روسيف) في مرحلة سابقة، ومجىء «بولسونارو» الرئيس اليمينى المتطرف الذى لم تنسحب بلاده من المجموعة فى عهده، لأن الاتجاه العام في البرازيل باعتبارها كبرى دول أمريكا اللاتينية يظل مناوئا لسياسات الهيمنة الأمريكية مثلما هى الحال فى أغلب بلدان القارة.
وبينما تحافظ دولة كالهند على علاقات اقتصادية وعسكرية واسعة مع الولايات المتحدة بل ودخلت معها ومع اليابان واستراليا فى مناورات عسكرية بحرية ضخمة فى المحيط الهندى هذا العام، فإنها تحافظ فى الوقت نفسه، على علاقات تعاون عسكرى واقتصادى واسع النطاق مع روسيا، ولديها ترخيص بصناعة طائرات عسكرية روسية متقدمة وأسلحة أخرى، ورفضت مجرد مناقشة أمريكا لعلاقاتها المتميزة تلك مع روسيا، أو وضع أى قيود عليها، كما رفضت الاعتراف بالعقوبات الغربية ضد روسيا بعد اشتعال الحرب الأوكرانية، بل وضاعفت كثيرًا وارداتها من البترول الروسى، مستفيدة من انخفاض أسعاره ومن طاقات التكرير الفائضة لديها، لتقوم بتصدير مشتقات البترول «الروسى» إلى أوروبا، فى مقابل معلن على العقوبات الغربية.
بينما أجرت روسيا والصين وجنوب افريقيا مناورات بحرية ضخمة هذا العام فى المحيط الهندى فى تحد صريح لمحاولات الولايات المتحدة وحلفائها للسيطرة على المحيط الهندى، كما أجرت روسيا والصين مناورات مشتركة في شمالى شرقى المحيط الهادى فى تحد واضح لمحاولات الهيمنة الأمريكية على المنطقة «المحيطين الهندى والهادى» التى تُمثل محاولات الهيمنة عليها عنصرا أساسيا فى السياسة العسكرية الأمريكية وحلفه «أوكوس» الجديد الذى شكلته مع بريطانيا واستراليا واليابان..
وباختصار فإن هذا الإطار الفضفاض للعلاقات بين دول «البريكس» لم يمنع التوافق العام فيما بينها على رفض الهيمنة الأمريكي والنظام العالمى أحادى القطبية، مع سعى كل دولة منها لتحقيق ما تعتبره مصلحة وطنية لها.. ومع التركيز على التقارب في المجال الاقتصادى، وتعزيز علاقاتها الاقتصادية بالدول الأخرى «الصاعدة» والتوسع في التبادل التجاري فيما بينها ومع الدول الأخرى باستخدام العملات الوطنية، بما يضعف من هيمنة الدولار على التجارة العالمية، وبالتالى يؤثر سلبًا على محاولات الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها على العالم.
<<<
هذا التوجه القوى للتبادل التجارى بين دول «البريكس» بالعملات الوطنية كان واضحًا بصورة خاصة فى التبادل بين الصين وروسيا، وبين روسيا والهند، كما امتد ليشمل دولا عديدة أو ليتوسع فى التبادل التجارى معها، وهى دول كمصر وتركيا وإيران والجزائر وفيتنام واندونيسيا وغيرها، بل وأجرى البنك المركزى الروسى مفاوضات مع عدد من البنوك المركزية للشركاء التجاريين لتحديد سعر صرف (مرن) لعملاتها مقابل الروبل الروسى، سعيًا لتقليل التعامل بالدولار قدر الإمكان.
>> غير أن الاختراق الرئيسى فى هذا المجال كان تلك المحادثات التى تُجريه الصين مع كل من السعودية والإمارات حول إمكانية دفع ثمن واردات الصين البترولية من البلدين، أو جزء منها بـ«اليوان» الصينى، مقابل دفع واردات صينية بالريال السعودى أو الدرهم الإماراتى، الأمر الذى يعنى كسر احتكار الدولار الأمريكى كعملة وحيدة للتداول فى أسواق البترول.
>> وتشمل هذه الخطوة الثانية فى هذا المجال بعد خطوة روسيا بفرض «الروبل» كعملة لشراء صادراتها من الغاز الطبيعى إلي أوروبا «العام الماضى» وهى الخطوة التى أدت لتعزيز مكانة «الروبل» ومنع انهياره مقابل الدولار واليورو، وهو ما كانت تُخطط له الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى.
<<<
هذا التوسع فى التبادل التجارى باستخدام العملات الوطنية من جانب دول البريكس وخاصة الصين وروسيا ارتبط به خلال السنوات الأخيرة اتجاه من هاتين الدولتين لتقليص استثماراتهما فى سندات الخزانة الأمريكية، بصورة تدريجية ــ ولكنها واضحة ــ من جانب الصين (ثانية أكبر المستثمرين فى هذه السندات بعد اليابان) بصورة حادة من جانب روسيا، التى انخفضت استثماراتها فى سندات الخزانة الأمريكية ـ قبل الحرب فى أوكرانيا ــ من حوالى (١٣٠ مليار دولار) إلي حوالى (٢٥ مليار دولار).
كما قادت الدولتان اتجاها عامًا لتقليص وزن الدولار فى احتياطياتهما الدولية والاستعاضة عنه بسلة عملات أو بالذهب.
وقد لقى هذا التوجه قبولا عاما، لاسيما بعد الخطوة الأمريكية والغربية بتجميد الأصول الروسية حوالى (ثلاثمائة مليار دولار) وهو الإجراء الذى يمكن تكراره مع أى دولة تصطدم بالسياسات الأمريكية والغربية.
وتضافرت كل هذه الخطوات مع تراجع الوزن النسبى للاقتصاد الأمريكى فى الناتج المحلى العالمى لتساعد على تقليص هيمنة الدولار على التجارة العالمية، لكن التوسع المتزايد فى التبادل بالعملات الوطنية كان الظاهرة الأكثر بروزًا وانتشارًا خلال الأعوام الأخيرة، وبصورة أخص خلال العامين الأخيرين (مع زيادة الاستقطاب فى العالم بعد اشتعال الحرب في أوكرانيا ـ فبراير ٢٠٢٢) ــ وهو ما دفع كثيرًا من الإعلاميين والاقتصاديين للحديث عن «انهيار الدولار».. و«سقوط عرش الدولار» وما إلى ذلك.. باعتباره أمرًا يخص المستقبل القريب، ورأينا أن هذا سيحدث لا محالة مع استمرار تراجع الوزن النسبى لقوة أمريكا الاقتصادية، وصعود القوي الاقتصادية الآسيوية بالذات (الصين - الهند - دول جنوب شرق آسيا)، لكن هذه عملية تاريخية لا تحدث بين يوم وليلة أو سنوات قليلة، فهو أمر يحتاج إلى تغييرات جذرية فى خريطة العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتجارية الدولية، وهى متغيرات «جارية الحدوث» بالفعل ولكنها «لم تحدث بعد».. والعالم يعيش «رحلة تحول» إلى عالم متعدد الأقطاب، لكنه «لم يتحول بعد».. ومثل هذه العمليات التاريخية قد تشهد قفزات، لكنها أيضًا تشهد تعثرات وانتكاسات وانعطافات.. ولنلاحظ مثلا ما ترتب على المواجهة الروسية ـ الأطلسية فى أوكرانيا من زيادة عسكرة أوروبا وخضوعها للسيطرة الأمريكية.. ولنلاحظ أيضًا متغيرًا «جيواقتصاديًا» هامًا مثل فك الارتباط بين أوروبا وموارد الطاقة الروسية، والتزايد الكبير فى اعتماد القارة العجوز على موارد الطاقة الأمريكية، وخاصة الغاز المسال.. ولنضع فى اعتبارنا أن الوحش الأمريكى (والغربى) الجريح لن يغادر مسرح التاريخ هكذا ببساطة.. ولن يستسلم بهدوء لمصيره المحتوم.
التعامل بالعملات الوطنية.. حدود الظاهرة
والحقيقة أن الأحاديث المنتشرة انتشار النار فى الهشيم حول «عملة البريكس» لا يمكن مناقشتها بعيدًا عن هذا الإطار.. ولهذا ـ ولأسباب أخرى سنأتى إليها ــ قد يلاحظ القارئ الكريم أننا نضع تعبير «عملة البريكس» باستمرار بين مزدوجين، أو علامتى تنصيص، للتعبير عن تحفظنا عليه باعتباره تعبيرا متسرعًا لا يعكس المتغيرات الاقصتادية الفعلية، بقدر ما يعكس تمنيات أصحابه.
ويكفى أن نشير إلى بديهية لا يجب أن تغيب عن الأذهان لحظة واحدة.. وهي أن أى دولة تتبادل التجارة بالعملة الوطنية مع دولة أخرى، لا يمكن أن تقبل ثمنًا لبضائعها إلا نقودا تستطيع أن تشترى مقابلها شيئا ما فى الأسواق العالمية.. وإلاّ فإنها تقدم بضائعها مجانًا! فإذا كانت الصين أو روسيا مثلا تقدم لدولة مثل تركيا أو فيتنام (أو مصر) صادرات قدرها عشرة مليارات دولار، وتستورد منها ما قيمته مليار أو ثلاثة مليارات دولار.. فهى «الصين أو روسيا» لا تستطيع أن تتعامل بالعملة الوطنية إلا فى حدود مليار أو ثلاثة مليارات دولار.. وإلاّ فإنه ستحصل على أوراق مالية لا يمكن أن تستفيد بالجزء الأكبر منها.. وبديهى أنه لا توجد دولة مستعدة لأن تقدم بضائعها مجانًا.. اللهم إلا إذا كانت تقدمها فى إطار المنحة أو المساعدة، وهذه ليست قاعدة في التجارة العالمية بل استثناء محدود جدًا.
وباختصار فإن حدود استفادة الدول الأقل تقدمًا ـ أو الأقل تنوعًا فى قدراتها الإنتاجية ــ من مبدأ التبادل بالعملات الوطنية تظل محكومة بما تستطيع تصديره، وصحيح أن هذا يخفف العبء عن الموارد الدولارية للدول الأفقر، ويقلِّص استخدام الدولار فى المعاملات التجارية، لكنه يظل فى النهاية محدودًا بما تستطيع هذه الدولة أو تلك تصديره.. ويظل عليها أن تدفع ثمن بقية وارداتها بـ«العملة الصعبة» أى بعملة قابلة للتداول فى السوق العالمية، سواء كان ذلك بالدولار أو اليورو أو بعملة صعبة أخرى.
أما عن «عملة البريكس» فهى تظل ــ في المستقبل المنظور على الأقل ــ نوعًا من الأحلام الوردية التى لا تتوافر شروط وجودها، لدرجة أننا نندهش كثيرًا حينما نجد «خبراء اقتصاديين» يتحدثون عنها بثقة!! وهذا ما سنتناوله فى الجزء التالى من مقالنا.