د.محمد فراج يكتب : اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية.. بين الحقائق والآلاعيب السياسية
القرار الروسى برفض تمديد مشاركة موسكو فى اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية أثار ضجة واسعة وانتقادات حادة فى الأوساط السياسية والإعلامية الغربية، واتهامات لروسيا بأنها ستتسبب في تهديد للأمن الغذائى العالمى، واحتمالات حدوث مجاعة فى بعض البلدان..إلخ.. فهل هذا صحيح أم أنه ينطوى على مبالغة ومحاولة للتوظيف السياسى؟
يجب أولاً أن نشير إلى أن الاتفاق المذكور لا يتصل بتصدير الحبوب الأوكرانية وحدها، وإنما هو اتفاق ذو شقين يتعلق أولهما بتأمين تصدير الحبوب الأوكرانية، بينما يتعلق الشق الثانى بتسهيل تصدير الحبوب والأسمدة الروسية، وإزالة العقبات التى تعترض تصديرها بسبب العقوبات الغربية. وقد تم التوصل إلى الاتفاق فى شهر يوليو الماضى (٢٠٢٢) بين كل من روسيا وأوكرانيا بوساطة تركية، وتحت إشراف الأمم المتحدة. ويقضى شقه الأول بفتح ممر آمن لتصدير الحبوب عبر عدد من الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود، وإزالة الألغام التى كانت أوكرانيا قد زرعتها عند مداخل موانئها لمنع السفن الحربية الروسية من دخولها.. وبرفع الحصار البحرى الروسى عن تلك الموانئ، كما يقضى بتفتيش السفن الداخلة إلى الموانئ الأوكرانية والخارجة منها، لضمان عدم استخدامها فى نقل الأسلحة أو العتاد العسكرى وأن تشارك روسيا وتركيا فى هذا التفتيش.
وفى المقابل تتعهد الأمم المتحدة وتركيا ببذل كل الجهود الممكنة لتسهيل خروج صادرات الحبوب والأسمدة الروسية من موانئ البحر الأسود، وإنهاء العقوبات التى تعوق التصدير وفي مقدمتها حظر التأمين على السفن الروسية أو تلك التى تحمل بضائع من روسيا أو إليها، وتوقيع عقوبات على أى شركة من خارج الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة تنتهك هذا الحظر.. والإفراج عن السفن الروسية المحتجزة فى الموانئ الأوروبية والمحملة بشحنات من الأسمدة.. والأمر الأهم هو تسهيل تسوية مد المدفوعات مقابل صفقات الحبوب والأسمدة والمواد الغذائية من خلال إعادة البنك الروسى المسئول عن التعامل فى هذه الصفقات (سيلخوزبنك/ البنك الزراعى) إلى منظومة «سويفت» وهذا هو الشق الثانى من الاتفاق المشار إليه، وهو الشق الذى لم يتم تنفيذه بالرغم من التحذيرات الروسية المتكررة بالانسحاب من الاتفاق، وهو ما حدث بالفعل الأسبوع الماضى برفض موسكو تمديد الاتفاق، وبالتالي سحب الضمانات الأمنية الروسية لمرور شحنات الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود، الأمر الذى يهدد بوقفها.
لاعبان مهمان
معروف أن روسيا وأوكرانيا هما من أهم اللاعبين فى أسواق تجارة القمح والحبوب والزيوت الغذائية فى العالم، وحسب الإحصاءات الدولية فإن روسيا تحتل المركز الأول فى صادرات القمح العالمية بنسبة ٢٤٪، بينما تحتل أوكرانيا المركز الخامس بنسبة ١٢٪ أى أن البلدين يسيطران على أكثر من ثلث صادرات القمح العالمية، كما يسيطران على أكثر من ربع صادرات الشعير (روسيا - ١٤٪/ وأوكرانيا ١٢٫٥٪) ويسهمان بـ١٧٪ من تجارة الذرة الصفراء التى تمثل ٧٥٪ من مكونات أعلاف المواشى والدواجن، كما يُسهمان بنحو ثلاثة أرباع صادرات زيت عباد الشمس (حوالي ٥٠٪ لأوكرانيا - و٢٣٪ لروسيا) وهو زيت الطعام الأكثر استخدامًا في العالم.
ومن ناحية أخرى فإن روسيا وحدها تقوم بتصدير (١٥٪ - خمسة عشر بالمائة) من الأسمدة النيتروجينية و(١٧٪ - سبعة عشر بالمائة) من الأسمدة البوتاسية - أسمدة البوتاسيوم (المصدر: المعهد الدولي لأبحاث الغذاء - الأهرام - ٣٠مارس ٢٠٢٢).
لهذا كان طبيعيًا أن يثير اندلاع الحرب فى أوكرانيا الفزع فى أسواق الغذاء العالمية، وخاصة في أسواق القمح قبل أن تتجه الأمور للهدوء تدريجيًا.
وتتسم صادرات القمح والحبوب والزيوت الروسية والأوكرانية بأهمية خاصة لمنطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية التي تعتمد عليها بدرجة كبيرة فى سد احتياجاتها الغذائية، خاصة مع قرب البلدين من منطقتنا ومن أهم الأسواق الأفريقية، وبالتالي انخفاض تكلفة الشحن، فضلا عن تيسيرات السداد التي تقدمها روسيا بالذات، كما تتسم صادرات الأسمدة الروسية بأهمية كبيرة للشرق الأوسط وأفريقيا لنفس الأسباب.
الغرب.. وتسييس أزمة الغذاء
وإذا كانت صادرات روسيا من القمح هى ضعف صادرات أوكرانيا، وهناك توازن فى صادرات الشعير والذرة الصفراء فلم يكن منطقيًا أن تقوم الدنيا ولا تقعد بسبب الصادرات الأوكرانية وحدها باعتبار أن غيابها سيكون سببًا في حدوث أزمة غذائية شديدة الخطورة، تصل إلى حد التهديد بالمجاعة، بينما تعطل العقوبات الغربية صادرات القمح والحبوب الروسية، التي تبلغ ضعف الصادرات الأوكرانية وهى السياسة التى يصر الغرب على انتهاجها بالرغم من تأثيراتها السلبية على أسواق الغذاء فى العالم، فضلا عن تعطيل صادرات الأسمدة الروسية الكبيرة، بما لذلك من تأثير سلبى على الإنتاج الزراعى.
والمسألة هنا ليست متعلقة بدعم الموقف الروسى أو الموقف الأوكرانى، ومن خلفه موقف الغرب الأمريكى - الأوروبى، بل مسألة انسجام أو ازدواجية المنطق والمعايير، فالشعوب التى تعانى من نقص الغذاء وارتفاع أسعاره، يهمها حل أزماتها الحياتية، وليس تضييق الخناق على روسيا أو على بوتين والبطون الجائعة لا يهمها مصدر الغذاء، خاصة إذا لم يكن توفيره مرتبطا بشروط سياسية مهينة لها.
والحقيقة أن القمح الروسى وجد طريقه إلى أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا ودول جنوب آسيا الفقيرة، بالرغم من العقوبات الأمريكية والأوروبية، وإن كان هذا قد تم بتكلفة وصعوبات أكثر وبكميات أقل، وكذلك وجدت الأسمدة الروسية طريقها إلى الأسواق المذكورة، وأغلب دول العالم لم تعترف بشرعية العقوبات الغربية المفروضة خارج إطار القانون الدولى.
إلى أين ذهبت الحبوب الأوكرانية؟
اللافت للنظر أن الحبوب الأوكرانية التى تم تصديرها فى إطار «الاتفاق» لم تذهب إلى البلدان الفقيرة والشعوب الجائعة، بل ذهب الجزء الأكبر منها إلى بلدان غنية أو متوسطة الدخل، ومنها بلدان أوروبية مكتفية ذاتيًا أو مصدرة للقمح!! وما نقوله مأخوذ من مصادر دولية أو غربية، لا يمكن (اتهامها) بالتعاطف مع روسيا. وعلى سبيل المثال فإن موقع CNN الأمريكى باللغة العربية - الثلاثاء ١٨ يوليو ٢٠٢٣) ينقل عن المصادر الدولية أن صادرات الحبوب الأوكرانية بموجب «الاتفاق» بلغت ٣٣ مليون طن/ ثلاثة وثلاثين مليون طن) وبالدقة الشديدة (٣٢٫٩ مليون طن) كان توزيعها كالتالى:
١ - الصين (٨ ملايين طن) علمًا بأن الصين مكتفية ذاتيا من القمح، وتصدر أحيانا كميات قليلة منه، وبالتالى فإنها استفادت من الواردات الأوكرانية فى دعم احتياطياتها من الحبوب، وليس فى الإفلات من المجاعة.
٢ - إسبانيا (٦ ملايين طن) وهى من الدول الأوروبية الغنية والمتقدمة، المكتفية ذاتيًا من الحبوب والقادرة على الاستيراد من دول الاتحاد الأوروبى المجاورة.
٣ - تركيا (٣٫٢ مليون طن)
٤ - إيطاليا (٢٫١ مليون طن)
٥ - هولندا (٢ مليون طن)
٦ - مصر (١٫٦ مليون طن) تنويع مطلوب لمصادر الاستيراد
٧ - بنجلاديش (١٫١ مليون طن(
٨ - إسرائيل (٨٧٫٦ ألف طن)
٩ - تونس (٧١٣٫٥ ألف طن)
١٠ - البرتغال (٧٠٨٫٣ ألف طن)
وهذه هى الدول العشر الأكثر استفادة من صادرات القمح الأوكرانى بموجب الاتفاق حسب (CNN باللغة العربية - ١٨/ ٧/ ٢٠٢٣) وقد حصلت الدول العشر على حوالى ٢٦ مليون طن أى أكثر من ثلاثة أرباع الصادرات الأوكرانية، ولم يذكر الموقع الأمريكى توزيع الجزء الباقى، لكن نظرة سريعة تكفى لتوضيح أن ثلث هذه الصادرات ذهب إلى دول الاتحاد الأوروبى (إسبانيا وإيطاليا وهولندا والبرتغال) وأكثر من ثلثها ذهب إلى «الصين وتركيا وإسرائيل».
ومن حُسن الحظ أن مصر استفادت بتنويع مصادر استيرادها وتعزيز احتياطياتها (١٫٦ مليون طن) وهى كمية يمكن تعويضها من مصادر أخرى، بفرض توقف الصادرات الأوكرانية إلينا.
خلاصة القول إن الأمر ليس فيه مجاعات، ولا شعوب ستموت من الجوع إذا توقفت الصادرات الأوكرانية، ليس معنى هذا بالطبع أن ننظر نظرة غير مبالية إلى توقف هذه الصادرات، فهى مطلوبة للأسواق بالتأكيد.. والصادرات الروسية مطلوبة أكثر لأنها تُمثل ضعف نظيرتها الأوكرانية، وكذلك زيوت الطعام والأسمدة، والحقيقة أن إثارة الذعر بالأحاديث عن المجاعة الوشيكة ينتج عنه ارتفاع فورى فى أسعار القمح والحبب بما ينعكس سلبًا على اقتصادات الدول النامية وحياة شعوبها، ولا تجنى منه الشعوب الأكثر فقرا إلا المزيد من المعاناة، بينما تصب الأموال فى خزائن الدول الغنية المصدرة للقمح والحبوب، وفى مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا وكندا وأستراليا، ومن ناحية أخرى تتأزم الأوضاع بصورة أكبر وتزداد اشتعالا فى منطقة البحر الأسود، وتبرز إمكانيات أكبر لتعقيد العلاقات بين روسيا وتركيا والتوتر بين البلدين وينفتح المجال أمام سيناريوهات كئيبة.
مصلحة الإنسانية والشعوب الفقيرة والأكثر فقرا تتطلب إفساح المجال أمام الحبوب الروسية والأوكرانية للتدفق إلى الأسواق، والكف عن المتاجرة بآلام الشعوب واستخدامها كسلاح سياسى فى الصراعات الدولية.