د. محمد فراج يكتب : كيف صمد الاقتصاد الروسى في المواجهة مع الغرب؟
بخلاف كل مخططات الولايات المتحدة وحلفائها عن الدول الغربية الكبرى «لشل» و«تدمير» اقتصاد روسيا كوسيلة أساسية للمواجهة معها وإفشال عمليتها العسكرية فى أوكرانيا، وإجبارها على التراجع أمام حلف شمال الأطلسى «الناتو».. فإن نتائج أداء الاقتصاد الروسي خلال عام ٢٠٢٢ وتوقعات الأداء حتى نهاية ٢٠٢٣ - حسب الأرقام الرسمية الدولية - قد أثبتت قدرة هذا الاقتصاد على الصمود في مواجهة الحزم المتتالية من العقوبات الغربية بالغة القسوة، التي شملت كل قطاعات والأغلبية الساحقة من مؤسساته ومسئوليه السياسيين والعسكريين والاقتصاديين. وأن الخسائر التى تعرض لها تعتبر طفيفة إذا ما قورنت بما كانت تقدره الهيئات والمصادر الغربية، والتى كانت تقديرات بعضها تصل إلى نحو عشرة بالمائة أو حتى ١٥٪ من إجمالى الناتج المحلي الروسى لعام ٢٠٢٢.
ومن ناحية أخرى فإن الآثار العكسية للعقوبات الغربية علي اقتصادات الدول الأوروبية، وخاصة بسبب حظر موارد الطاقة الروسية «الغاز الطبيعى والبترول والفحم» كانت لها نتائج سلبية فادحة على اقتصادات الاتحاد الأوروبى، إذ أدت إلى ارتفاع نسبة التضخم وتراجع معدلات النمو لتتأرجح أغلب الاقتصادات علي حافة الركود. بل إن بيانات هيئة الإحصاءات الأوروبية «يوروستات» تشير إلى نمو سلبى قدره ٫١٪ فى الربع الأخير من عام ٢٠٢٢ والربع الأول من العام الجارى (RT- ٨/ ٦/ ٢٠٢٣).. وهو ما يعنى دخولا فعليًا فى حالة الركود.
بينما تُشير أرقام صندوق النقد الدولي إلى تراجع الناتج المحلى الإجمالى الروسى بنسبة ٢٫١٪ عام ٢٠٢٢. وتشير أرقام منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية إلى تراجعه بنسبة ١٫٥٪ هذا العام، وبنسبة ٫٤٪ عام ٢٠٢٤.. أما البنك الدولي فيتوقع تراجع النمو في روسيا بنسبة ٫٢٪ فقط هذا العام، وتحوله إلى النمو بنسبة ١٫٢٪ العام القادم (٢٠٢٤).
<<<
عمومًا فإن أرقام النمو والتباطؤ والانكماش والتضخم والبطالة، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية متاحة علي نطاق واسع. ونود أن نشير إلى أن الأرقام الروسية متقاربة بشكل عام مع أرقام البنك والصندوق الدوليين والهيئات الأوروبية والغربية، وإن كان الحرص على المصداقية يتطلب دائمًا المقارنة بين الأرقام الروسية وغيرها. ونحن نحرص عمومًا على ذكر الأرقام الغربية. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن موقع (وورلد إيكونوميكس الغربى) مثلا يشير إلى أن روسيا عادت لاحتلال مكانها بين الاقتصادات العشرة الأكبر في العالم (الترتيب التاسع بناتج محلى إجمالى قدره - ٢٫١ تريليون دولار) وذلك للمرة الأولى منذ عام ٢٠١٤.. وهو ما ينسجم مع أرقام البنك الدولي ولنلاحظ أن هذا هو ما تشير إليه أيضًا أرقام البنك الدولى..
منتجات ضرورية.. وعالم يتغير
غير أنه إذا كانت أهمية الأرقام ومصداقيتها أو غير قابل للجدل، فإن الأهم منها هُنا هى دلالتها.. وهى تفسير فشل المخطط الغربى «لشل» و«تدمير» الاقتصاد الروسى، وهو الفشل الذى يرجع أساسًا إلي الاستهانة بأهمية الاقتصاد الروسى بالنسبة للاقتصاد العالمي من جهة وخاصة من زاوية مصادر الطاقة وإلى فشل الساسة الغربيين فى إدراك أهمية المتغيرات الكبري التي شهدها تطور الاقتصاد العالمي من جهة أخرى، وإلى فاعلية الإجراءات التى لجأت إليها روسيا فى إدارة معركتها الاقتصادية وعقوباته من ناحية ثالثة.
والحقيقية أنه بالرغم من ضآلة حجم الاقتصاد الروسى النسبية مقارنة بحجم الاقتصاد الأمريكى والعالمى عمومًا، إلاَّ أن من الضرورى هنا أن نأخذ بعين الاعتبار الأهمية القصوى لموارد الطاقة الروسية، ومدي اعتماد الاقتصادات الأوروبية عليها (٤٥٪ من استهلاك أوروبا من الغاز الطبيعى، و٥٥٪ من استهلاك ألمانيا من الغاز وأكثر من ثُلث احتياجات أوروبا من البترول ومشتقاته - وأكثر من ٤٠٪ من استهلاك أوروبا من الفحم الحجرى). وإذا كانت الطاقة هى عصب الاقتصاد والحياة عمومًا، فإن الإصرار الأمريكى على فك الارتباط بين أوروبا وموارد الطاقة الروسية خلال وقت قصير جدًا، وصعوبة إيجاد البدائل المناسبة من حيث الأسعار والكميات والقرب الجغرافى، قد تسبب فى إرباك شامل للاقتصادات الأوروبية، وفى زيادة تكلفة إمدادات الطاقة بنحو (تريليون دولار) وهو ما كان من الطبيعى أن تكون له آثاره السلبية الفادحة على الاقتصادات الأوروبية، وقد أريقت بحار من الحبر في تفاصيل هذه المسألة، فلا نرى مبررًا للدخول فيها هنا، لكن الأمر المؤكد أن الطرف الأساسى المستفيد من هذه الطريقة الرعناء فى فك الارتباط مع موارد الطاقة الروسية كانت الولايات المتحدة، التي أمدت أوروبا بالغاز المسال بأضعاف أسعار الغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب.
ومن ناحية أخرى فإن مساهمة روسيا الكبيرة في تجارة القمح والحبوب وزيوت الطعام والأسمدة العالمية، كان من الطبيعى أن تؤدى العقوبات الغربية علي وسائل نقلها إلى تعقيدات كبيرة في مجال إمداداتها، وإلى ارتفاع أسعارها بصورة أدت إلى زيادة التضخم فى أسعار المواد الغذائية بصورة كبيرة فى العالم كله، بما فى ذلك في الدول المتقدمة.
>> النقطة الثانية التي لم يقدرها زعماء الغرب حق قدرها هى المتغيرات الكبرى في الاقتصاد العالمي، والتي جعلت من آسيا مصنعًا للعالم وبالتالي المستهلك الأول لموارد الطاقة فيه (وخاصة الصين والهند والنمور الآسيوية).. وبالرغم من الصعوبات اللوجستية فإن الدول قد مثلت أسواقًا بديلة لموارد الطاقة الروسية وتصرفت روسيا بمرونة وذكاء سواء في تقديم تخفيضات كبيرة فى الأسعار، أو فى قبول الدفع بالعملات الوطنية، أو حتى المقايضة بسلع أخرى تحتاجها، أو فى التغلب على المشكلات اللوجستية.. وإذا أضفنا إلى هذا الارتفاع الكبير فى أسعار البترول والغاز، فإن هذه العوامل كلها قد ساعدت في حصول روسيا على عوائد أكبر لتصدير موارد الطاقة الخاصة بها.
ويجب هنا أن نُشير إلى متغير آخر شديد الأهمية هو رفض (أوبك+) لإغراق الأسواق وخفض إنتاجها أكثر من مرة، بالرغم من الضغوط الأمريكية والأوروبية الكبيرة.. وهو ما ساعد على بقاء أسعار البترول في مستوى مرتفع (أكثر من ٧٠ دولارا) مما أتاح لهذه الدول الحصول علي أسعار مواتية، وبالنسبة لروسيا فإن احتياطياتها الدولية قد ارتفعت لتبلغ نحو (٦٠٠ مليار دولار) غير أكثر من (١٢٠ مليار دولار) فى صندوق الأجيال القادمة (صندوق الرفاه الاجتماعى).
وفشلت أمريكا ودول الغرب الكبرى فى إجبار الصين والهند بل والدول المتوسطة والصغيرة على الالتزام بالعقوبات ضد روسيا، أو بأغلبها على الأقل.. لأن دخول العالم مرحلة الانتقال إلي تعدد القطبية وتفكك الهيمنة الأمريكية والغربية، لم يعد يسمح بفرض إرادة الدول الغربية الكبرى على العالم.
أما أهم العقوبات التى فرضها الغرب علي روسيا، ونعنى طرد أغلب وأهم بنوكها من منظومة «سويفت» لتسوية المدفوعات، فقد تم التغلب عليها أولا باشتراط روسيا علي أوروبا نفسها دفع ثمن موارد الطاقة بالروبل (وهو ما أدى لارتفاع سعر صرفه لأكثر من الضعف تجاه الدولار واليورو ليستقر الآن عند أكثر من ٧٠ روبلاً للدولار، بدلا من ١٤٠ روبلا عند بداية الحرب الأوكرانية).. ثم تعززت هذه الخطوة بالتوسع في الاتفاقات علي التبادل بالعملات الوطنية.. وربما كانت هذه هى المرة الأولي في التاريخ التى يشهد فيها سعر صرف إحدى العملات مثل هذا الارتفاع الكبير، بينما تخوض بلادها حربا ضارية ضد التكتل الدولى الأكبر فى العالم!!
< < <
وخلاصة القول إنه بالرغم من الحرب الاقتصادية والعسكرية والسياسية والإعلامية الضارية التي تخوضها أمريكا ودول «الناتو» ضد روسيا (وليست أوكرانيا إلا عنوانا لها، وإحدى ساحاتها) فإن الاقتصاد الروسي قد أثبت قدرته على الصمود في هذه المواجهة الضارية.. وساعدت المتغيرات الكبرى الجارية في العالم - في مرحلة الانتقال إلى التعددية القطبية - موسكو على هذا الصمود الذى تتلقى فيه أشكالا من الدعم المباشر وغير المباشر من القوى الكبرى والدول الراغبة فى التحرر من الهيمنة الأمريكية والغربية. وتقديرنا أن هذه المواجهة مرشحة لأن تستمر طويلا.. وأنها سوف تنتهى بالانتقال إلي مرحلة تعدد القطبية العالمية، وإنهاء هيمنة أمريكا والغرب على الساحة الدولية.